آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

تقرير تشيلكوت: نتائج كارثية لحرب غير شرعية

 

د. سعيد الشهابي ..

يخطىء من يعتقد أن تقرير «تشيلكوت» الذي صدر الأسبوع الماضي سيؤثر كثيرا على السياسة الخارجية البريطانية، أو أنه سيؤدي لمحاكمة رئيس الوزراء السابق، توني بلير، أو أن السجال بشأنه سيستمر طويلا. صحيح أن التقرير يعتبر إدانة واضحة لقرار الحرب التي يمكن اعتبارها نقطة التحول في المنطقة والعالم بسبب ما نجم عنها من تصاعد ظاهرة الإرهاب نوعا وكما. وصحيح أيضا أن المسؤولين البريطانيين قد يلجأون للمزيد من الحذر حين يواجهون أوضاعا مماثلة، ولكنه لن يغير النزعة التاريخية للسياسة البريطانية نحو التمدد والهيمنة خارج الحدود الجغرافية للجزر المنفصلة بشكل طبيعي عن القارة الأوروبية. ويمكن الزعم بان الدافع الأول لتشكيل لجنة تقصي الحقائق برئاسة السير جون تشيلكوت، الذي عمل عقودا في الخدمة المدنية، انبثق عن ضغط ذوي الضحايا البريطانيين الذين يقدر عددهم بـ 179 شخصا، سقطوا خلال فترة التواجد العسكري البريطاني في العراق ما بين 2003 و 2009. هؤلاء شعروا بالغضب خصوصا بعد ما رأوا من نتائج مدمرة لذلك التدخل على صعيد الأمن والاستقرار الدوليين. فالعالم بعد الحرب التي أسقطت نظام صدام حسين لم يعد كما كان قبلها، بل أصبح أكثر توترا واضطرابا، حيث انتشر الإرهاب بوتيرة تفوق ما كان عليه قبل ذلك. التقرير الذي يعتبر الأضخم من نوعه في التاريخ البريطاني الحديث يحتوي على أكثر من مليونين ونصف كلمة، واستغرق إعداده سبع سنوات، واحدث لغطا غير مسبوق في الفضاء السياسي، غطى على الشعور العام بالإحباط لدى المجتمع البريطاني بعد قرار الخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي. كما أن سلوك توني بلير بعد تركه منصبه في العام 2007 أزعج الكثيرين، فقد توجه لتكديس الأموال بأساليب لا تليق بالمنصب الذي بقي فيه عشرة أعوام،  بدأ بإلقاء المحاضرات في مقابل عشرات الآلاف من الجنيهات، ثم عمل مستشارا لأنظمة عربية قمعية من بينها الحاكم العسكري لمصر الذي أسقط الحكومة المنتخبة بالقوة وقتل المئات من المواطنين وأجهض مشروع الثورة الشعبية التي أسقطت حسني مبارك. يضاف إلى ذلك فشله في تقديم أداء جيد كمبعوث أممي خاص لقضية الشرق الأوسط. وبذلك أصبح توني بلير المثل الأسوأ لدى البريطانيين للزعيم المسؤول الذي ترتفع به هامات مواطنيه. من الأمور التي تمخضت عن التقرير وظروف إعداده واستنتاجاته والدروس المستفادة منه ما يلي: أولا أن الدافع لتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لم يكن سقوط أكثر من 150 ألفا من العراقيين ضحايا للحرب التي شنها التحالف الأنكلو – أمريكي على العراق، ولا تصاعد الإرهاب بالشكل الذي جعله أكبر تهديد لأمن العالم واستقراره، ولا الدمار الإنساني أو السياسي أو الأمني الذي لحق بمنطقة الشرق الأوسط، ونجم عنه تحول الإرهاب إلى غول يلتهم ما حوله، من العراق إلى سوريا إلى ليبيا ونيجيريا. كل تلك المآسي لم تكن من بين العوامل التي أدت لتشكيل اللجنة التي كلفت عشرة ملايين جنيه، بل الضجة التي أحدثها ذوو الضحايا البريطانيين. ثانيها: إن التقرير كان قيد التحفظ فترة طويلة بعد أن اتضح أنه إدانة صريحة لتوني بلير وأن ذلك قد يؤدي لتوتر داخلي ومشادات تساهم في تمزيق المجتمع البريطاني الذي يواجه تهديدات عديدة منها الإرهاب والانفصال عن أوروبا وشبح انفصال الأقاليم خصوصا اسكوتلاندا عن منظومة «المملكة المتحدة». ثالثها: أن لجنة التقصي كانت أمام أمرين: أما أن تسيس عملها وتسعى للتجاوز على الحقائق وأصدار تقرير باهت يتقي إزعاج اللاعبين الأساسيين في تلك الحرب ابتداء برئيس الوزراء ووزارء الخارجية والدفاع، وصولا إلى أجهزة الأمن والاستخبارات، أو أن تلتزم بالمعايير الأخلاقية للنزاهة والموضوعية وعدم القفز على الحقائق. وهذا ما فعلته، الأمر الذي خلق عنوانا عريضا يدين توني بلير ومعه المدعي العام الذي كان مصدر المشورات القانونية لرئاسة الوزراء، وكذلك جهاز الاستخبارات الخارجي (ام آي 6) ومسؤولي مكتب رئيس الوزراء. هؤلاء جميعا استهدفهم التقرير بشكل غير قليل من اللوم. رابعا: أن من نتائج التقرير بروز مصطلحات الفشل والخسارة لوصف تلك الحرب، أي أن المغامرة التي قام بها توني بلير كانت فاشلة، وهذا يعني أن التدخلات البريطانية لا تحقق النجاح دائما. خامسا: أن القائمين على التقرير كرروا أن الهدف منه وضع النقاط على الحروف للاستفادة من الأخطاء التي ارتكبت آنذاك في المستقبل. وكثيرا ما يقال ذلك، ولكن غالبا ما تكرر الأخطاء نفسها نظرا لتغير الظروف وشعور الأطراف المعنية بحريتها في اتخاذ القرارات وعدم قراءة التاريخ بدافع الرغبة والاتعاظ. سادسا: أن بريطانيا ستواصل النزعة نحو التدخل الخارجي، فما كاد يمر يوم على صدور التقرير حتى بعثت 650 جنديا إلى بولندا لدعم قوات الناتو على الحدود مع روسيا. من المؤكد أن هناك دروسا كثيرا من تقرير تشيلكوت، ولكن المؤكد أيضا أن القليل من القادة الحاليين والمستقبليين سوف يستفيدون منها.

 

فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك من شخص وقف بقوة ضد الحرب ودعا لمنع مشاركة بريطانيا فيها فهو السيد جيريمي كوربين، الرئيس الحالي لحزب العمال. وقد شارك شخصيا في اكبر مظاهرة شهدتها لندن في شهر مارس 2003 قبل الحرب بقليل. مع ذلك أصبح كوربين مستهدفا من كافة مفاصل المؤسسة البريطانية التي لا تؤمن بالتوقف عن المشاركة في الحروب الخارجية أو الاحتفاظ بمسافة في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. والشعب البريطاني يدفع ثمن سياسات تلك المؤسسة الضخمة التي تعتبر نفسها الوريث الشرعي للإرث الاستعماري الواسع، لكنها لا تريد أن تتحمل تبعات ذلك الإرث، ولا تدفع ثمن السياسات الخاطئة المؤسسة عليه، بل تفرض على الشعب دفع فواتير الحرب والسلام. فالضحايا الذين سقطوا في الحرب على العراق ليسوا من أبناء الطبقة الحاكمة والمتنفذة، بل من عامة المواطنين الذين يعملون في المؤسسة العسكرية.

 

يمكن القول أن تقرير تشيلكوت أنهى الحياة السياسية لتوني بلير، الذي لم يبد ندما على قراراته، بل أكد أنه سيتخذ القرارات نفسها لو تكررت الظروف نفسها، وبرغم ما قدمه من اعتذارات باهتة لسقوط الضحايا، إلا أنه بدا متشبثا بمواقفه وسياساته، الأمر الذي دفع وسائل الإعلام قاطبة للرد عليه. ولكن الواضح كذلك أن «المؤسسة» لن تقاضيه بتهم التقصير أو تضليل البرلمان والشعب. ومن التهم التي أكدها التقرير أنه تعهد للرئيس الأمريكي آنذاك، جورج دبليو بوش، بمشاركة بريطانيا في أي عمل عسكري ضد العراق، وذلك قبل عام كامل من بداية الحرب، وقبل أن يطرح الأمر على البرلمان. ثانيها: أنه اعتمد في موقفه لتبرير المشاركة في الحرب على أمرين مشوبين بالخطأ: الأول المعلومات الإستخباراتية الكاذبة بان صدام يمتلك أسلحة دمار شامل يستطيع تجهيزها للاستخدام في غضون 45 دقيقة، الأمر الذي ثبت بطلانه بعد احتلال العراق، الثاني: أن بالإمكان شن الحرب بالتعاون مع الأمريكيين بدون وجود قرار أممي عن مجلس الأمن، الأمر الذي رفضه تقرير تشيلكوت. تضمنت الانتقادات كذلك أن الخيار العسكري اتخذ قبل استنفاذ الخيارات السلمية، وأن قرار الحرب اتخذه بلير قبل إقراره من قبل البرلمان، وان المدعي العام، اللورد غولدسيث، غير رأيه أكثر من مرة. في بداية العام 2002  كان يصر على ضرورة استحصال قرار أممي لشن الحرب، وبعد سفره للولايات المتحدة في خريف ذلك العام، عدل عن ذلك الرأي وقال إن بالإمكان شن الحرب بدون قرار جديد عن مجلس الأمن، الأمر الذي رفضه تقرير تشيلكوت. وأكد التقرير أيضا أن التحالف الأنكلو أمريكي لم تكن لديه خطط لمرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، الأمر الذي أدى لوضع محلي وإقليمي مضطرب ساعد على توسع دائرة الإرهاب ونشوء داعش.

 

 

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/07/12

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد