آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
نجيب عصام يماني
عن الكاتب :
كاتب سعودي

كنس ثقافة الكراهية

 

نجيب عصام يماني ..

كم من الفواجع القاصمات بقيت في أجندة الكراهية حتى نستفيق وندرك أن خطرا محدقا قد وصل خاصرة المجتمع، وتجاوز كل الحدود.. ماذا بقي لنا في دفتر المحبة والاحترام ونحن نطالع كل يوم نبأ يزلزل الروح، وفاجعة تهز الوجدان، مقترفوها أبناء هذا الوطن في حق أمنه وترابه ومقدساته؟!

 

المقام ليس مقام مخاطبة لموطن العواطف الجياشة فينا، نطلق الآهات حسرة، ونرسل الزفرات الحرى أسفا، ولكنه مقام استنهاض كل الهمم من أجل الإدراك والوعي بماهية هذا الخطر المحدق، والعمل بوعي وبصيرة على تحديد مآسنه الحاضنة، وبؤره النتنة، واجتثاثها بغير شفقة أو إبطاء، أو مواربة أو تسمية الأشياء بغير أسمائها فهم ليسوا إخوة لنا بغوا علينا، وليسوا فئة ضالة، وليسوا أشخاصا مغررا بهم، لا ينفع معهم إلا تطبيق شرع الله فيهم (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا....).

 

من المهم أن يستشعر المجتمع بأسره أن الخطابات التبريرية، والقوالب الجاهزة من العبارات التي نسمعها دوما حين وقوع الكوارث مثل كارثة التفجير الآثمة لحرم رسول الله وقبلها كارثة التوأم وغيرها، لا توصف الحالة توصيفا دقيقا، خصوصا حين تأتي مثل هذه العبارات التبريرية و«الأكلشيهات الجاهزة» من قبل المختصين في تحديد العلل الطارئة أو المستوطنة التي تصاب بها المجتمعات، وتستوجب العلاج الصحيح على المستوى الفردي أو الجماعي. فالمطلوب من كل الجهات المعنية أن تخرج عن دائرة «الكسل الذهني»، وأن تذهب عميقا في استقصاء الجذور التي أنبتت «ثقافة الكراهية» في مجتمعنا، وتغلغلت وفشت إلى غاية أن تنتهك حرمة الشهر العظيم ويغتال الابن أباه وأمه، وينحر الأب ابنه وأخيه، فمثل هذا السلوك البغيض من غير المقبول أن يختصر في توصيفات أصبحت محفوظة ولا تؤدي غرض «التسكين» و«التهدئة» التي يراد بها تمرير فورة الحدث، وما ينتج عنه من غضب عابر، ولحظة انفعال آنية، سرعان ما تخمد، حتى توقظها حادثة أكثر فظاعة، وأشد ألما ومضاضة من سابقتها، بينما تفرخ ثقافة الكراهية في المجتمع، وتمضي في مخططها المكروه دون أن تصل إليها يد المعالجة الشافية، والعدالة الناجزة.

 

من المهم أن يذهب المختصون ويقرأوا فصائل هذا المجتمع قراءة واعية، ويستبينوا ما يتلقاه من خطابات، تتراوح بين المتشدد والمعتدل والمتطرف، وتحديد مساراتها، خصوصا ما يتصل بالجانب الديني كونه الأكثر تأثيرا، والأسرع قبولا عند الطرح، فترك الساحة لكل من ملك حنجرة «ملعلعة»، وحفظ أحاديث مختلفا على تفسيرها وتأويلها، وتبنى آيديولوجيات تكفيرية وتفسيقية وتبديعية، من الطبيعي أن يوصل اليفّع الصبيان وصغار السن، ممن يملكون حماسة طاغية ورغبة عارمة في إنزال الدين بأشواق الماضي البعيد، دون دراية ووعي وبصيرة وحكمة، فيكفروا آبائهم ويفسّقوا أمهاتهم، ويبدّعوا أهليهم ومجتمعهم، والمحصلة فشو «ثقافة الكراهية» بشكل طاغٍ، وانزواء العقل، ليفضي كل ذلك إلى ما نشهد من استسهال جرائم القتل، بل وتبريرها دينيا وشريعيا، بما يؤسس وعيا زائفا وخاطئا لفئة أخرى متشددة تنتظر هذه الفرصة لتتقرب إلى الله زلفى بإزهاق أرواح الأبرياء، وما كان لذلك أن ينمو لولا الغفلة، وانحسار أدوار علمائنا المعتدلين، وظهور الدعاة المعلبين الجاهزين للخوض في أمور الدين والوطن، فلو أدى كل واحد دوره على النحو الذي يشيع ثقافة الحب، لأمكن حينئذ من بسط ثقافة المحبة في أوصال المجتمع، فهذا الدين الخاتم ما قام إلا على المحبة والرحمة «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، هذه الرحمة بشيوع مفهوم للعالمين تحتم أن يكون الخطاب العام مرتكزا عليها بشكل أساسي، في مقابل ما يطرح من قبل البعض من مفاهيم «الولاء والبراء» وكراهية الآخر وتبديعه وتفسيقه حتى وصلنا إلى ما نشهده من عنف واستهداف الأبرياء ظلما وعدوانا، إلى التعدي على مقدساتنا وذوي القربى عقوقا وطغيانا.

 

إن الحالة المعقدة التي يمر بها مجتمعنا، تتطلب مراجعة شاملة في كل مفاصل المجتمع، بدءا من الأسرة وأفرادها، وعلاقتنا مع بعضنا البعض في داخل البيت الواحد وخارجه، ونضع هذه العلاقة في ميزان المحبة، وكذلك كل علاقاتنا الإنسانية مع الآخر نستهدي فيها بمسلك حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام.. ليراجع كل واحد منا علاقته بالمحيط من حوله حتى وإن اختلفت المذاهب، هل أفشينا السلام على من عرفنا ومن لم نعرف، هل جعلنا الابتسامة صدقة نبذلها من أفئدة سليمة في فضاء التوادد بيننا، هل أدركنا الحكمة من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام؛ ماله ودمه وعرضه».. وغيرها من مظاهر هي جوهر الدين المفضية إلى حالة من المحبة العامة، التي نفتقدها بشكل مطلق اليوم، فمن هذه البداية يكون الانطلاق نحو «كنس» ثقافة الكراهية، وتوطين مفهوم المحبة، فلا يسع «طيور الظلام» غير الرحيل عن هذه الديار المقدسة والمستظلة بأمنها وأمانها. إنها غاية تحتاج من الجميع وقفة صادقة مع النفس، وعملا دؤوبا في مفاصل المجتمع، ورؤية إصلاحية شاملة ببصيرة نافذة، وإدراك واعٍ، وحزم يستبطن العزم في طويته حتى لا يبقى عليها إرهابي فاسق.

 

صحيفة عكاظ

أضيف بتاريخ :2016/07/18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد