آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

مفارقات الشعار والممارسة في السياسات البريطانية

 

د. سعيد الشهابي

ما الفرق في عالم اليوم بين الحرية والاستبداد؟ بين الديمقراطية والديكتاتورية؟ من المؤكد أن هناك من التنظير لهذه المفاهيم الشيء الكثير، فما أكثر الكتب والمؤتمرات والنقاشات التي تتطرق لذلك، وما أكثر المخدوعين بما يسمعون أو يقرأون.

 

ومع الاعتراف بوجود فوارق كثيرة ومهمة إلا أن من الضرورة الاعتراف أيضا بان المواطن العادي، في الدول المحكومة بالاستبداد أو الديمقراطية، إنما هو مخلوق مستعضف لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا في مقابل تغول الدولة الحديثة. وحين يصف توماس هوبز هذه الدولة بـ«الوحش العملاق» في كتابه الشهير الذي يحمل هذا الاسم، فانه لم يبتعد عن الواقع كثيرا. فحين تعترف الولايات المتحدة، زعيمة «العالم الحر» بان المواطن الأفغاني «عبد الظاهر» الذي قضى 14 عاما من عمره بسجن «غوانتنامو» ليس الشخص المطلوب، وأن اعتقاله استمر طوال تلك الفترة برغم أصرار محاميه على براءته، فان ذلك يكشف عمق الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها «العالم الحر». وحين يتم تكريم القائد البريطاني الذي بعث طائراته في الحرب العالمية الثانية لتمسح مدينة «درزدن» الألمانية» في ليلة واحدة وتقتل أكثر من 100ألف من سكانها أليس ذلك تعبيرا عن مستوى من الانحطاط البشري غير المسبوق. وربما الأخطر من ذلك تأكيد رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، في الجلسة البرلمانية الأولى بعد «تعيينها» في منصبها الجديد استعدادها لكبس زر إطلاق السلاح النووي بدون تردد حتى لو علمت أن فعلها سيؤدي لقتل أكثر من 100 ألف إنسان. جاء ذلك التأكيد جوابا على السؤال الذي قدمه رئيس حزب العمال، جيريمي كوربين الذي اعترض على تجديد منظومة السلاح النووي المعروفة بـ «ترايدنت».

 

أسلحة الدمار الشامل هذه تعتبر من أبشع ما توصل الإنسان الغربي المعاصر إليه، وهي أسلحة تمنع كافة دول العالم من امتلاكها إلا الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي.

 

في الأسبوع الماضي أعلنت وزارة الخارجية البريطانية أن الوزير السابق، فيليب هاموند، قام بتضليل أعضاء البرلمان بنفيه احتمال ارتكاب جرائم حرب في اليمن.

 

وبرر رفض الدعوات المتكررة لوقف التعاون البريطاني في تلك الحرب بأن حكومته مقتنعة بعدم ارتكاب مخالفات قانونية في استخدام السلاح البريطاني، وأن حكومته «بحثت الوقائع واستنتجت ذلك».

 

واستمر الدعم البريطاني العسكري للسعودية حتى بلغت مبيعات السلاح البريطاني للرياض منذ اندلاع الحرب أكثر من ملياري جنيه إسترليني. وبعد استقالة ديفيد كاميرون من منصبه بعد فشله في الحصول على دعم شعبي لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، أعيد فتح ملفات الحرب على اليمن خصوصا أن منظمة «الحملة ضد السلاح» رفعت دعوى قضائية ضد بيع السلاح البريطاني للرياض بعد أن ثبت استخدامه لقتل المدنيين في الحرب على اليمن.

 

وزارة الخارجية أكدت أن تصريحات هاموند لم تكن مؤسسة على فحص الحقائق، وأنها لم تجر تحقيقا حول مدى إساءة استخدام السلاح البريطاني وما إذا كان ذلك السلاح قد ساهم في استهداف الضحايا المدنيين الذين تجاوز عددهم 2500 إنسان من ضمنهم مئات الأطفال. ماذا يعني ذلك؟ هل يعقل غياب الشفافية في التعاطي مع البرلمانيين (الذين يمثلون مجتمعين شعبهم) إلى هذا المستوى؟ وكيف يكافأ هاموند بمنحه حقيبة الخزينة في الحكومة الجديدة بعد فشله في القضايا الجوهرية: العلاقة مع أوروبا، الحرب في اليمن، حقوق الإنسان في البحرين؟ وزارة الخارجية أصدرت بيانا تنصلت فيه عن أربع إجابات مكتوبة أعطيت لأعضاء البرلمان، مع حذفها من السجلات الرسمية. هذه الإجابات ادعت أن بريطانيا تأكدت لنفسها أن السعودية لم تنتهك قانون حقوق الإنسان الدولي في الصراع اليمني. هذا يعني أنه لو كانت السعودية تخترق ذلك القانون لكانت بريطانيا ملزمة بوقف مبيعات السلاح لها. وقالت الخارجية أنها لم تقم بأي تقييم لحقوق الإنسان ولا تعرف ما إذا حدثت انتهاكات لتلك الحقوق.

 

مع ذلك ليس متوقعا اتخاذ أي إجراء بحق الوزير الذي تمت ترقيته في الوزارة الحالية. كما انه ليس معلوما بعد ما إذا كانت بريطانيا سوف تتخذ قرارا بوقف مبيعات السلاح للسعودية. وتأتي فضيحة تضليل البرلمانيين المنتخبين بعد أسابيع معدودة فقط من نشر تقرير تشيلكوت الذي يعتبر إدانة أخلاقية لرئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير. التهمة الأساسية التي احتواها التقرير أن بلير مارس تضليلا للبرلمان حول الوضع في العراق، مؤكدا أن نظام صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل وانه يستطيع تجهيزها للاستخدام في غضون 45 دقيقة. كما انه متهم باتخاذ قرار الحرب قبل إقراره من البرلمان لأن بلير وعد الرئيس الأمريكي، جورج بوش، بمشاركة بريطانيا في الحرب على العراق، وذلك قبل عام واحد من الهجوم على العراق. برغم ذلك فليس متوقعا اتخاذ أي إجراء لمحاكمة بلير، برغم تصاعد الأصوات من نشطاء حقوق الإنسان ومعارضي انتشار السلاح، بضرورة ذلك.

 

وهنا يجدر التأكيد على بضع حقائق:

 

الأولى: الحصانة التي يتمتع بها المسؤولون البريطانيون الكبار، فالنظام السياسي لا يسمح بالتعرض لهم خصوصا إذا كانت الانتقادات الموجهة لهم أو المخالفات التي يتهمون بها، تمس مكانة بريطانيا في العالم وعلاقاتها مع «الأصدقاء».

 

الثانية: أن لدى المؤسسة البريطانية سيطرة مطلقة على الوضع السياسي للبلاد، تسمح بمساحات محدود من الحرية التي لا تؤثر على التوجه العام للدولة العميقة. ولذلك تبقى السياسات المحورية لتلك الدولة ثابتة لا تتغير كثيرا بتغير الأفراد أو الأحزاب الحاكمة.

 

الثالثة: أن لدى الدولة العميقة أساليبها للخروج من المآزق وتجاوز الإحراج، فحين تحدث مشكلة تقوم بـ «تشكيل لجنة تحقيق» لا يسمع أحد عما تتوصل إليه، أو تصدر بيانات أو تصريحات هلامية لا تلزمها بشيء ولا تلامس علاقاتها مع الأصدقاء. فحين يرتكب احد أولئك الأصدقاء خطأ أو سياسة خاطئة يتحدث المسؤولون عن «القلق» أو يكررون العبارات الجوفاء التي لا تغضب أحدا ولا تترتب عليها تبعات. فمثلا حين تعرض انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الدول الصديقة يصدر بيان الخارجية البريطانية بعبارة: نحن قلقون، أو يساورنا القلق، أو «يجب أن تفهم (تلك الدولة) أننا ملتزمون باحترام حقوق الإنسان وأننا لا نقر أية انتهاكات».

 

وكثيرا ما عبر البرلمانيون عن امتعاضهم من لغة وزارة الخارجية في إجاباتها على تساؤلاتهم، وان تلك الإجابات لا تتطرق لجوهر الأسئلة والاستفسارات.

وزارة الخارجية البريطانية عندما كانت برئاسة فيليب هاموند تراجعت سياسيا وأخلاقيا. فقد خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتعرضت للنقد الشديد من منظمات حقوق الإنسان خصوصا هيومن رايتس ووج ومنظمة العفو الدولية اللتين أصدرتا موقفا موحدا ينتقد سياستها إزاء اليمن ويتهمها بالمشاركة من خلال خبرائها بمراكز القيادة والتحكم، في عمليات عسكرية ارتكبت فيها جرائم حرب. اليوم تؤكد الوزارة عكس ذلك تماما، ولكن ليس متوقعا محاسبة مسؤولي الوزارة أو مقاضاتهم، بعد أن أساؤوا لسمعة بريطانيا بسياساتهم المذكورة. وليس مستبعدا أن يأتي اليوم الذي توجه فيه تهم خطيرة لمسؤولين بريطانيين بدعم من ارتكبوا جرائم حرب. مطلوب من بريطانيا أن ترتقي لمستوى المسؤولية وتتخلى عن السياسات والمواقف التي لا تليق بـ «أم الديمقراطيات» وأحدى زعيمات «العالم الحر». عندها ستكون شريكا فاعلا في تحالف دولي يحفظ الأمن والسلم الدوليين ويساهم فعلا في هزيمة الإرهاب.

 

٭ كاتب بحريني

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/07/25

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد