آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الغرب يدفع ثمن تناقضاته الأخلاقية والسياسية

 

د. سعيد الشهابي ..

يمر العالم اليوم بمرحلة تعاني دوله فيها من الضعف على صعدان شتى: بنيوية وسياسية وأخلاقية. ينطبق هذا القول على دول الغرب، كما على دول العالمين العربي والإسلامي. وهذا الضعف من بين أسباب حالة الاضطراب الأمني والسياسي التي تعم العالم. وهي حالة ليست عفوية، بل هي جزء من مشروع إقليمي ودولي خرج عن سيطرة مخططيه وأصبحت السيطرة عليه بأيدي منفذيه. فقبل عشرة أعوام كان العراق وحده الذي يعاني من ذلك الاضطراب بعد سقوط نظام صدام حسين، لكن هذا الاضطراب انتشر في أغلب مناطق العالم.

وهو ليس مرتبطا بتصاعد ظاهرة الإرهاب فحسب، بل له أسبابه لا تنفك عن سوء الحكم والإدارة حتى في بلدان «العالم الحر» التي طالما تشدقت بتفوق نظامها «الديمقراطي». فما تشهده أمريكا من تصاعد الصراعات ذات الطابع العنصري والعرقي، وما يبدو من تصاعد التوتر بين الدول الكبرى في بحر الصين، وما تعانيه دول أوروبا من غياب المشروع الجامع خصوصا بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كل ذلك إنما هو مصاديق للاضطراب الذي أظهر حدود التفكير البشري وعجز الإنسان عن إدارة شؤونه بأساليب تحميه من ظاهرتي «الجوع والخوف» التي أكدها القرآن الكريم في عدد من الآيات، واعتبرها النتيجة المحتومة للظلم. ولطالما روج العالم الغربي مقولاته التي لم يعد الواقع يصدقها، بأن نظامه الديمقراطي متفوق على كافة التجارب البشرية، وأن «الديمقراطية الليبرالية» تمثل ذروة الناتج البشري في مضمار الحكم والإدارة. هذه المقولة راجت في حقبة ما بعد الحرب ضد القوات العراقية التي اجتاحت الكويت في 1990. يومها ظهر الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الأب، معلنا ما اسماه «النظام العالمي الجديد» تحت الهيمنة الأمريكية غير المحدودة.

اليوم بعد أكثر من ربع قرن على ذلك هل يشعر العالم الغربي بصدقية تلك المقولات؟ وهل يستطيع هذا العالم إقرار ما طرحه جورج بوش الابن بعد ذلك بعقد كامل، أي بعد حوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية بأن «من ليس معنا فهو مع الإرهاب»؟ فمن هي الجهات التي تقف مع الإرهاب وتلك التي تقف ضده؟ هل هناك من دول العالم من هو خارج دائرة التهديد والخوف والقلق؟ وهل هناك من هذه الدول من ليس متهما أما بالتواطؤ مع أسباب العنف والإرهاب أو تجاهله أو التقاعس عن أداء الدور السياسي والأخلاقي المطلوب لتأمين سلامة العالم وأمنه؟ ويبقى الظلم هو العنوان الأول الذي يقفز للذهن لتفسير ظاهرة التراجع السياسي والأخلاقي والأمني في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وبعد أكثر من نصف قرن على تلك الذروة عندما كان العالم مهددا بحرب نووية بعد نشر الاتحاد السوفياتي صواريخه النووية في كوبا، ما يزال شبح الحرب ماثلا في أذهان القادة الغربيين والإقليميين. فقد لا تكون الحرب المتصورة في شكل نووي، بل قد تتخذ أشكالا قد تكون اخطر لأنها خارجة عن السيطرة. فامتلاك الأسلحة الكيماوية والجرثومية من قبل مجموعات إرهابية هنا وهناك عامل تهديد كبير للأمن والسلم الدوليين. كما ليس مستبعدا أن يكون لدى بعضها أسلحة نووية صغيرة حصلت عليها بأساليبها الخاصة. ألم يصب العالم بالذهول وهو يرى طوابير السيارات المصفحة في شوارع المدن السورية والعراقية التي سيطرت عليها المجموعات الإرهابية؟ هل بذل العالم جهدا للتعرف على مصادر تلك الحافلات؟ وكثيرا ما تحدث الإعلام الدولي عن قدرة تنظيم «داعش» على بيع النفط من الحقول السورية، فمن اشتراه؟ وكيف تم تحويل عائداته؟ وما الإجراءات التي اتخذت لمنع ذلك؟ وإذا تم استبعاد نظرية المؤامرة والتواطؤ ووجود دور غربي أو عربي في تلك الممارسات، فلا يمكن استبعاد مقولة التقصير أو العجز في ما يجري حتى الآن.

 

سقوط الأمم ليس مرتبطا بعامل واحد، بل أنه النتيجة الحتمية لأخطاء تراكمية يعجز القادة والشعوب عن تصحيحها. وما يعانيه العالم اليوم لا يمكن وصفه بالـ«أخطاء»، بل بالعجز الكامل عن الوفاء بالالتزامات الأخلاقية الكفيلة بتصحيح المسارات والسياسات من جهة، وتعمق الفساد في نفوس أصحاب القرار من جهة أخرى. فالكثير من السياسيين في العالم الغربي مستعدون لبيع مواقفهم مقابل أموال أو هدايا من أنظمة الاستبداد. وما الصراع الذي يعيشه الغرب في الوقت الحاضر إلا مؤشر للتداعي السياسي والأخلاقي والقيمي والحضاري. هذا الغرب الذي اعتقد أنه بلغ الذروة بسقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة يعاني من اضطراب علاقات مكوناته مع بعضها. ولا يمكن النظر للقرار البريطاني بالخروج من أوروبا إلا أنه مصداق للتمزق الداخلي. وبريطانيا نفسها مهددة بالتمزق بعد ذلك القرار، لأن الاسكوتلانديين يخططون لاستفتاء بالانفصال عن «المملكة المتحدة».

 

والعلاقة بين أمريكا وأوربا تشهد، هي الأخرى، تصدعا خصوصا مع احتمال صعود دونالد للرئاسة. وقد أبدى ترامب مرات عديدة أعجابه بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الوقت الذي ما تزال الأزمة في أوكرانيا تضغط على علاقات أوروبا مع روسيا. وأمريكا تعاني من حالة استقطاب غير مسبوقة وهي مقبلة على الانتخابات الرئاسية التي يمثل مرشحاها الأساسيان قطبين متضادين، الأمر الذي أحدث شرخا في المجتمع الأمريكي غير مسبوق. وهي تتأرجح على حافة السقوط في فتنة الصراع العرقي بين السود والبيض، وهو الصراع الذي اعتقدت أمريكا أنها تجاوزته قبل خمسين عاما.

 

وأوروبا تعاني من عجز قادتها عن التعاطي مع التعقيدات التي نجمت عن تدخل دولها لتوجيه مسار «الربيع العربي» ومنعه من تحقيق التحول الديمقراطي الذي تنشده شعوب المنطقة. وصمتت أوروبا على أساليب قمع الشعوب، وتحالفت مع أنظمة الاستبداد والاحتلال. فكان من نتيجة ذلك أمور ثلاثة أساسية: تدفق اللاجئين الذي عمق الخلاف السياسي داخل الاتحاد الأوروبي، وتصاعد أعمال الإرهاب التي كان مخططا لها أن تبقى محصورة بالمنطقة، حتى وصلت فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وبداية خلاف سياسي وقيمي مع أنظمة عربية طالما عولت عليها للحفاظ على مصالحها ولتكون مصدرا ماليا مهما للغرب. وبلغت الأزمة أوجها بقرار بريطانيا الخروج من الاتحاد. أنها أزمة لم تشهد أوروبا مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. يضاف إلى ذلك أن مرحلة «الحرب الباردة» التي اعتقد الغربيون أنها انتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ربع قرن، قد تعود في نسختها الثانية بتصاعد التوتر بين الغرب والصين. وعمق هذا القلق القرار الأمريكي بإعادة ترتيب إستراتيجيتها لتصبح أكثر تركيزا على الصراع مع الصين في جنوب شرق آسيا. وقد يؤدي ذلك لتقارب الصين والروس مجددا برغم تراجع الشيوعية كإيديولوجية مشتركة بين موسكو وبكين.

 

حالة الإحباط تسود دوائر القرار الغربية، ويزيد من هذا الإحباط بلوغ الأزمات مراحل متقدمة تحول دون حل أي منها بالأساليب التقليدية التي تعتمد الدبلوماسية والحوارات البينية. وإذا كان من أهم نتائج انتهاء الحرب الباردة تراجع السباق النووي بين روسيا وأمريكا، فأن الوضع تغير الآن بشكل كبير. صحيح أن الرؤوس النووية لدى كل منهما قد تم خفضه إلى الثلث، ولكن أوروبا تشعر بضعف استعداداتها لمواجهة ما تعتبره تحديا روسيا خصوصا مع استمرار أزمة أوكرانيا. وكان للتدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية أثر نفسي متعب للغربيين الذين لم يحسموا موقفهم حتى الآن إزاء ظاهرة الإرهاب، وما تزال خطوط الفصل بين الإرهاب والنضال المشروع مشوشة لدى أصحاب القرار الغربيين.

 

وجاءت المحاولة الانقلابية التركية لتزيد المشهد الأوروبي تعقيدا، فقد أوضحت المحاولة غياب وضوح الرؤية لدى الغربيين، وعدم قدرتهم على إصدار موقف إزاء تلك المحاولة. فلم يقفوا ضدها من حيث المبدأ، بل انتظروا فشلها ليعيدوا استهداف النظام التركي واتهامه بانتهاك حقوق الإنسان في التعامل مع المشاركين في المحاولة الانقلابية الفاشلة. وبدا للحكومة التركية أن أوروبا التي سعت للانتماء إليها ليس منذ أن تقدمت بطلب عضوية الاتحاد الأوروبي فحسب، بل منذ سقوط الدولة العثمانية وسعي كمال أتاتورك لربط بلاده بأوروبا ثقافة وسياسة ونمط حياة. هذا الاضطراب في العلاقة التركية ـ الأوروبية لا يمكن فصله عن اضطراب علاقات أوروبا مع شعوب المنطقة، خصوصا مع تراجع الموقف الأوروبي إزاء القضية الفلسطينية وانكماش اهتمامه بالشعب الفلسطيني، أو التصدي للاحتلال الإسرائيلي وسياساته التوسعية التي تتجسد يوميا بمشاريع بناء مستوطنات جديدة في الأراضي المحتلة.

 

ليس من باب المبالغة الادعاء بان النظام السياسي العالمي يعيش فصلا أسود من حياته، وأن الاضطراب السياسي والأمني الذي يعصف بالعالم عموما والشرق الأوسط خصوصا، هو الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والأكثر ضغطا على العلاقات الدولية وعلى شعارات الغرب ومشاعره بالانجاز الوهمي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وخوض أول حرب حاسمة في الكويت قبل ربع قرن.

وثمة اعتقاد راسخ بأن الحروب اللاحقة خصوصا حرب العام 2003 في العراق والتدخل في سوريا وليبيا كانت الحفرة التي وقع الغربيون فيها فأثخنوا جراحا وتصدى لهم عدو جديد ساهموا في خلقه وبدأ يتصدى لهم بأساليبه المختلفة. فإذا كانوا قد اعتقدوا أنهم قد حققوا انتصارا تاريخيا على تنظيم القاعدة، وقتلوا زعيمه، أسامة بن لادن، فأن المجموعات التي خرجت من رحم ذلك التنظيم (ومنها داعش وتنظيم النصرة الذي غير اسمه الأسبوع الماضي) ساهمت في المعطيات الحالية التي عمقت الاضطراب الأمني والسياسي والأخلاقي في عالم كان يتهيأ للانسلاخ من الإنسانية ويعيد تدوير الظواهر الشيطانية ضمن مشاريع التشويش والتعتيم والهيمنة الإعلامية. لقد تخلى الغرب عن مبادئه وساوم على قيمه التي عكف على صياغتها منذ الحرب العالمية الثانية، فأصبح عليه دفع استحقاقات ذلك التخلي، بفقدان الأمن وانحسار النفوذ وضعف الأداء وفوق ذلك وقبله، التمزق من الداخل.

 

٭ كاتب بحريني

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/08/01

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد