آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الدورة الأولمبية والصراع لتهميش دور الإنسان

 

د. سعيد الشهابي ..

 الألعاب الأولمبية التي افتتحت دورتها الحادية والثلاثين بمدينة ريو دي جانيرو البرازيلية الأسبوع الماضي تعتبر الحدث الرياضي الدولي الأكبر بعد كأس العالم، الذي يعقد بانتظام مرة كل أربع سنوات وتحظى باهتمام رياضي وسياسي واقتصادي واسع. ونظرا لجذورها التاريخية المرتبطة بالتاريخ اليوناني القديم فان استمرارها طوال هذه القرون يعتبر انجازا إنسانيا كبيرا، ويوفر مثالا حيا لقدرة البشرية على التقارب والتفاهم في كافة الميادين، ومنها الرياضة.

 

هذا لا يلغي حقائق عديدة مرتبطة بالألعاب الأولمبية وغيرها من الأنشطة ذات البعد الدولي. فبرغم تكاليفها الباهظة تحرص الدول القادرة على الفوز باستضافتها بدوافع عديدة: اقتصادية وسياسية وإعلامية. فاستضافتها تضع البلد المضيف على الخريطة العالمية وتوفر له أضواء لا تتوفر دائما. فالبرازيل هي البلد الأكبر في أمريكا اللاتينية، وكثيرا ما يبرز اسمها مرتبطا بالرياضة، خصوصا كأس العالم الذي سلط الأضواء على كبار الرياضيين مثل إديسون أرانتيس دو ناسيمنتو (المشهور باسم بيليه) الذي اختير في 1999 «لاعب القرن» الماضي. مع ذلك فالإعلام الغربي لا يوفر فرصة إلا وسلط أضواءه على الجوانب السلبية في البلدان المضيفة خصوصا إذا كانت من بلدان ما كان يسمى «العالم الثالث». فتراجع الأوضاع الاقتصادية في ذلك البلد كانت له انعكاسات سلبية على أجواء الدورة، خصوصا بخروج المسيرات والاحتجاجات في شوارع العاصمة محتجة على عقد الدورة في الوقت الذي تعاني البلاد فيه من أوضاع اقتصادية صعبة. ومع المماحكات السياسية في الساحة السياسية واتهام الرئيسة السابقة، ديلما روسيف، بالتلاعب في حسابات الحكومة، بهدف إخفاء العجز المتزايد، ومن ثم عزلها، توفرت للإعلام الغربي مادة دسمة لتسليط الأضواء على أوضاع البلاد قبيل افتتاح الدورة مساء الجمعة الماضية. والدورة الحالية تعتبر امتدادا لتاريخ امتد 120 عاما منذ انطلاق الدورة الأولمبية الحديثة في أثينا في 1896، وتنقلها بين عواصم العالم، حتى أصبحت تعقد مرتين في العام، صيفا وشتاء. وقد حققت الكثير في مجال تطوير لياقة الأجسام وإتقان المهارات.

 

يفترض أن يكون الهدف من إقامة الألعاب الأولمبية تطوير المهارات وبناء الأجسام وتمرين العضلات لتتمكن من أداء المهمات التي تتطلبها حياة الإنسان. ويفترض كذلك أن يكون هذا التطوير طبيعيا، أي بالممارسة والتمرين المتواصلين والاستفادة من التجارب، وليس بالاستعانة بالمنشطات غير الطبيعية. فليس هناك مشكلة في تناول الفواكه والأطعمة الطبيعية التي تساهم في تقوية الجسد وتوفير احتياجاته من الغذاء ليستطيع مقاومة المرض وتطوير الجهد، ولكن ليس باستخدام العقاقير والمنشطات. وقد تصاعدت المطالبة في السنوات الأخيرة بالالتزام بسياسة منع تعاطي المنشطات بشكل مطلق. أدى ذلك لاتهام الرياضيين الروس بعدم الالتزام بذلك، حتى طرح اقتراح بمنعهم جميعا من المشاركة. ولكن أكد رئيس اللجنة الأولمبية الروسية، ألكسندر جوكوف، أن اللجنة الأولمبية الدولية سمحت لما مجموعه 271 رياضيا روسيا بالمشاركة في ريو دي جانيرو. وأشار إلى أن المنتخب الروسي «تكبد خسائر» في 7 من أنواع الرياضة قبيل انطلاق الدورة الأولمبية. وبالإضافة للمنشطات فقد أصيب عالم الرياضة بالفساد المالي والإداري. ففي العام الماضي استقال رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) جوزيف بلاتر من المنصب. وخلال الـ 17 عاما التي قضاها رئيسا للفيفا توالت فضائح الفساد في المنظمة حتى وجهت وزارة العدل الأمريكية اتهاما لـ14 شخصا لتورطهم في قضايا فساد ورشى ومنح صفقات متعلقة بحقوق البث التلفزيوني. وسبق ذلك حملة أوروبية شرسة إثر قرار فوز كل من روسيا وقطر باستضافة مونديالي 2018 و2022 على التوالي، الحملة استهدفته شخصيا واتهمته بالفساد، غير أنه رد على ذلك بتشكيل لجنة تحقيق في 2012 لدراسة القضية، وقد خلصت في نهاية 2014 إلى أن الملفين سليمان ونفت عنهما شبهة الفساد. أما البعد السياسي للصراع من أجل الهيمنة على العالم الرياضي فله إشكال عديدة. وقد كان للصراع بين المعسكر الأوروبي وبلاتر أثر على النهاية التي آل إليها مشواره مع الفيفا الذي امتد نحو أربعين عاما. وحاول السويسري الاستقواء بـ»الدول الضعيفة» لمواجهة المعارضة الشرسة من قبل الأوروبيين، وخصص مشاريع لكل من أفريقيا وآسيا ضمنت له نصف أصوات الجمعية العامة للفيفا. ولكن الضغط الغربي أسقطه في النهاية. انه جانب من الصراع السياسي من اجل الهيمنة وبسط النفوذ على العالم الرياضي الذي تسعى الشركات الكبرى لاستغلاله ببشاعة. واستخدمت الرياضة للضغط على أنظمة الاستبداد والاحتلال والعنصرية. فقاطعت الفرق الرياضية نظام جنوب أفريقيا العنصري مرارا، واستهدف الفريق الإسرائيلي في الدورة الأولمبية التي أقيمت في ميونيخ في 1972، وقوطعت دورات عديدة خلال الحرب الباردة من قبل المعسكرين.

 

الرياضة عالم رحب فرض نفسه بشكل متصاعد على المجتمعات، وازدادت أهميته بتوفر وسائل التواصل الاجتماعي والالكتروني والبث التلفزيوني المباشر. وبشكل مضطرد أصبحت الرياضة شغلا للكثيرين، خصوصا من يسعى للابتعاد عن الهم السياسي. وفي البلدان التي تعاني أوضاعها من القمع والاستبداد يبالغ الحكم في صرف أنظار الشباب عن الأوضاع الداخلية لتنشغل بالرياضة وأخبارها. ولا يقل الاهتمام بها في البلدان ذات الأنظمة السياسية المستقرة، لأن الآلة الإعلامية فرضت الرياضة بقوة على الواقع الاجتماعي. فما من بيت إلا وينشغل شبابه بالدورات الرياضية والمباريات التي تتوسع باستمرار. فلم يعد كأس العالم وحده يحظى بالاهتمام، بل أن دورات التجمعات الإقليمية مثل كأس الأمم الأفريقية وكأس آسيا وكأس الخليج وكأس أوروبا تحظى باهتمام الشباب والكبار ومتابعتهم. وكذلك الدورات داخل البلد الواحد. وقد أصبحت متابعة تفصيلات المباريات والدورات هما للكثيرين، نجم عنها مشاكل اجتماعية أدت إلى حالات طلاق وانتحار. فكيف تحولت الرياضة التي يفترض أن تكون عنوانا للوعي الاجتماعي إلى ممارسة رسمية، وابتعدت عن العفوية التي يفترض أن تمارس بها؟ ينسب للرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، احتجاجه على الطريقة التي تمارس بها كرة القدم، ومطالبته بنزول الجماهير كلها إلى الملعب وعدم اكتفائها بالتفرج. أي أن الرياضة يجب أن تكون جماهيرية وأن يشارك فيها الجميع، وأن لا تتحول إلى مهنة أو وظيفة. ومن المؤكد أن الكثيرين يعتقدون أن العالم الرياضي اليوم تطور كثيرا وأن هذا التطور فرض النمط الحالي من التعاطي الدولي مع الرياضة سواء من خلال دورات كأس العالم أم الدورات الأولمبية. وتحول الرياضيون إلى «نجوم» يتقاضون أجورا خيالية تجاوزت أحيانا 50 مليون دولار سنويا. وأصبح «نجوم» الرياضة من كبار أثرياء العالم. والسؤال هنا: هل أن تحول الرياضة إلى مهنة ينسجم مع أهدافها؟ أليس المطلوب أن تكون الرياضة، كما هي الأخلاق أو الحرف أو الفنون أو المهارات، شأنا شخصيا خاصا يدفع صاحبه للمشاركة في إثراء التجربة الإنسانية في المجال الذي يتقنه؟

 

كيف يمكن النظر للرياضة كمفهوم وممارسة؟ فما هي الرياضة؟ وما دورها في تحسين المستويات الصحية للإنسان؟ وهل حقا أصبحت نظاما معيشيا في الأوساط الشعبية؟ وثمة تساؤلات أخرى تفرض نفسها في ظل الاهتمام المتصاعد من الشركات العملاقة، وما إذا كان ذلك من أجل ترويج الثقافة الصحية أم جمع المال. كما أن هناك تساؤلات حول مدى تحول الرياضة إلى نظام حياة للأفراد، ومدى تسييس مؤسساتها من قبل الأنظمة السياسية، الديمقراطية أم المستبدة. وهل حقا أن الرياضة كسرت الحدود التي أقامها البشر على أسس العرق والدين؟ وهل أن تقنين الرياضة دوليا ساهم في تنقيتها من الممارسات المنحرفة أم زاد في ذلك؟ تساؤلات تفرضها أجواء الدورة الحالية بمدينة ريو البرازيلية. لقد تحولت الرياضة إلى تجارة عالمية واسعة، تتلاعب بها الشركات العملاقة، وتستغلها لتسويق منتجاتها بأغلى الأسعار. وحين يتم «بيع» و «شراء» الرياضيين بعشرات الملايين من الدولارات فان ذلك يعكس الاستغلال البشع للرياضة التي تم تحويلها إلى «سوق» تجاري محتكر، فتباع الأحذية والملابس التي تنتجها تلك الشركات بالأسعار المبالغ فيها. وإذا أضيف لذلك أسعار تذاكر حضور الألعاب الدولية (سواء في كأس العالم أم الدورات الأولمبية) اتضحت أمور ثلاثة: أولها قدرة النظام الرأسمالي على تحويل الرياضة من ممارسة للجميع إلى «حرفة» نخبوية لا يتقنها إلا القلة. ثانيها: أن تسويق السوق الرياضي حول الكثيرين إلى مدمنين على المشاهدة وليس المشاركة في الحراك الرياضي، وهذا الانشغال أفرغ العقول من التفكير الإنساني الجاد. ثالثها: أن تعويم الرياضة وفر أسواقا عملاقة للشركات الطامعة في جيوب الفقراء الذين يستدرجون للأنفاق غير المدروس الأمر الذي ساهم في تنامي ظواهر الاستغلال من قبل الشركات الكبرى والضغط على الإمكانات المالية للأفراد. إن تحويل الرياضة إلى سلعة للبيع والشراء ساهم في حرف مسارها وتغيير طبيعتها وحصر ممارستها وأضعاف تأثيرها العملي في مجال تطوير مستويات حياة البشر. كما أن تضخيم الظاهرة «النجومية» بتحويل الرياضة من ممارسة شخصية ذات أبعاد صحية ونفسية إلى مهنة للأفراد تحول الواحد منهم إلى «نجم» رياضي متميز، دمر الرسالة الصحية للرياضة خصوصا مع التوسع في تعاطي المنشطات. وأدى في بعض الحالات إلى فساد أخلاقي في التعامل، خصوصا في حالات الاتفاق السري على تحديد الفائز في السباقات أو المباريات. إنها قضايا مرتبطة بالظاهرة الرياضية التي تبتعد تدريجيا عن شعار «العقل السليم في الجسم السليم». بل إن عالم اليوم امتهن دور العقل في الحياة الإنسانية واستبدله بشكل الإنسان ومهاراته الجسمية. فلم يعد عالم الذرة أو الجراح الحاذق أو نابغة الرياضيات هو «النجم» الذي يستهوي الجماهير، بل أصحاب المهارة الرياضية والممثلات وعارضات الأزياء والراقصات.

 

انه عالم المظاهر الذي سطح الثقافة والعقل والعلم، وركز على شكل الأشياء وليس مضمونها. مطلوب إعادة الروح للرياضة لتصبح ممارسة شعبية للجميع، وسبيلا للعيش السليم ووسيلة لتحريك العقل والفكر بعد أن يصبح الجسد رياضيا. أليس هذا هو الهدف الأساس المؤمل من الرياضة؟

 

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/08/08

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد