آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الانقلاب العسكري الفاشل يغير المسار التركي

 

د. سعيد الشهابي ..

مضماران متوازيان يمثلان مسار ظاهرة الإرهاب المتجسد بأبشع صوره في الوقت الحاضر بتنظيم داعش: سياسي وعسكري. وفيما يتبادل المتحاربون في سوريا والعراق المواقع، مع ترجيح طفيف لصالح حكومتي البلدين، يتواصل السجال السياسي خارج حدود الشام ابتداء بدول الجوار وصولا لمضامير التنافس على أعلى منصب في العالم، رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.

 

هذا السجال لا يتوقف في دائرتين أخريين: الأولى عالم السياسة في العالمين العربي والإسلامي، والثانية الفضاء الديني فيهما. ومع أن السجالات ضرورة لتوضيح المواقف وتحديد السياسات إلا أن الحضور الميداني هو الأساس لتحديد مستقبل ظواهر التطرف والإرهاب والصراع الإيديولوجي والديني والمذهبي. وفيما تستمر مدينة حلب تحت الحصار وترتفع الصيحات للسماح بعبور حملات الإغاثة يبدو الوضع السوري ساحة للسباق ليس ضمن حدود الشام فحسب بل في الساحات المذكورة أيضا. ويتطرق هذا السجال تارة للسياسات الحالية المرتبطة بالمشروع الأمريكي المتهالك تحت مسمى «الحرب ضد الإرهاب» وأخرى حول أثر سياسات الدول في مواجهة هذه الظاهرة، وثالثة حول التحالفات المطلوبة لإنهاء هذه الحقبة من التاريخ الأسود لعالم القرن الحادي والعشرين.

 

فليس جديدا القول بوجود صراع إقليمي على النفوذ بين السعودية وإيران، فهذا أمر واضح ليس منذ انتشار تنظيمات القاعدة وداعش وبقية فصائل العنف، بل منذ انتصار ثورة إيران قبل أكثر من 37 عاما. هذا السجال يتخذ في بعض الأحيان أبعادا مزعجة وغير متوقعة، وأخرى يبدو «عتابا» أو «نقدا» أو «شجبا». فحين يتهم سركوزي، رئيس حزب المحافظين الفرنسي، الرئيس أولاند بالتقصير في مواجهة ظاهرة التطرف والعنف في بلاده، وما نجم عنها من أعمال إرهابية حصدت أرواح العشرات، يتضح بعض الأبعاد الخطيرة للظاهرة، وآثارها على التماسك الوطني في البلدان «الديمقراطية» التي يفترض أنها تجاوزت أساليب «كسر العظم» عند الاختلاف السياسي. وحين يوجه دونالد ترامب سهامه الحادة لمنافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون، ويتهمها بالتقصير في مواجهة تصاعد الظاهرة عندما كانت وزيرة الخارجية في الإدارة السابقة للرئيس اوباما، يتضح كذلك ليس عمق مشاعر الانزعاج فحسب، بل عجز السياسيين عن انتهاج سياسات فاعلة للتعاطي مع الظواهر التي تهدد الأمن والسلام الدوليين. وحين توجه القوى الديمقراطية ونشطاء حقوق الإنسان العتاب لزعماء «العالم الحر» لدعمهم الاستبداد وخيانتهم حقوق الإنسان والتخلي عن الإصلاح السياسي في الدول التي تحكمها «أنظمة صديقة» يضاف بعد آخر لازمة عالم اليوم. وفي هذا السياق، ثمة قضايا عديدة تؤكد هذا العجز، برغم ما يبدو من تطور الأداء السياسي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتقفز قضية فلسطين إلى الواجهة لتتحدث بطلاقة ووضوح عن العجز الدولي إزاء الاحتلال والعدوان برغم مرور قرابة السبعين عاما. ويتعمق الغضب العربي والإسلامي حين يتكشف يوما بعد آخر تصاعد ظاهرة التطبيع مع الاحتلال، وتهميش قضية فلسطين في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي، والانشغال بالاحتراب الداخلي وتمزيق الجسدين العربي والإسلامي وفق خطوط التمايز العرقي والديني والمذهبي.

 

السجال لا ينحصر باللوم المتبادل، وان كان ذلك يعكس واحدا من أمرين: إما غياب الإستراتيجية المناسبة لمكافحة العنف والإرهاب أو وجود تواطؤ دولي مع هذه الظاهرة التي تخدم سياسات عديدة إقليمية ودولية. كما أن الاهتمام بظاهرة الإرهاب أو داعش لا تحكمه المواقف «المبدئية» إزاءها، بل أن التطورات السياسية الأخرى غير المرتبطة بالموقف الإيديولوجي تنعكس على المواقف والسياسات للدول المعنية. فمثلا حتى وقت قريب كانت السياسة التركية مؤسسة على أمور ثلاثة: الأولى المطالبة بتغير النظام السوري، الثانية: دعم المجموعات المناهضة له، وأغلبها يحمل السلاح ضد النظام، والثالثة، العمل ضمن التحالف الغربي خصوصا أنها عضو بحلف شمال الأطلسي (ناتو). الرئيس التركي هندس سياساته وفق ما يعتبره «مواقف «مبدئية» مؤسسة على البعد الديني والمذهبي وكذلك على الحسابات السياسية المرتبطة بالعلاقات و التحالفات مع القوى الإقليمية والدولية. وكثيرا ما طرحت التساؤلات حول الظاهرة التركية خصوصا بلحاظ الخصوصية الدينية لهذا البلد الكبير الذي نشأت منه إمبراطورية كبرى حكمت العالم الإسلامي قرونا، والتاريخ السياسي الذي امتد أكثر من سبعة عقود بعد سقوط آخر الخلافات الإسلامية والذي هيمن عليه العسكر، والانكفاء على الذات طوال تلك العقود. فكيف لأصبحت تركيا لاعبا أساسيا في مضمار سوريا المعقد؟

 

والملاحظ أن أنقرة، برغم ذلك، التزمت قدرا من الاعتدال النسبي طوال السنوات الخمس الماضية التي كانت من أكثر الحقب تعقيدا، وسعت للالتزام بسياسة تطالب بالتغيير في سوريا ولكن مع عدم القطيعة مع الإطراف التي تبنت سياسات مختلفة خصوصا إيران. تلك السياسة أثمرت أخيرا حين تعرضت تركيا لأخطر محاولة انقلابية منذ انقلاب كنعان ايفرين في 1980.

 

فقد تميزت إيران بموقفها الرافض للانقلاب منذ لحظاته الأولى، وفي تلك الليلة كان وزيرا خارجية البلدين على تواصل مستمر حتى فشل الانقلاب، وأكد ذلك وزير خارجيتها الأسبوع الماضي بقوله إن نظيره الإيراني اتصل به أربع أو خمس مرات في تلك الليلة للاطمئنان على وضع الحكومة والتأكد من فشل الانقلاب. الإيرانيون أعلنوا رفضهم لانقلاب كمبدأ أولا وكحالة خاصة في تركيا ثانيا. بينما كان الغربيون ينتظرون نتائج تلك المحاولة الفاشلة بدون أن يرفضوها بشكل قاطع. أردوغان يعرف إزدواجية المعايير الغربية وغياب المبدئية في سياسات ضفتي الأطلسي، خصوصا إزاء قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

 

كما يعرف الرئيس التركي عدم واقعية التعويل على السياسة الغربية حول قضايا المنطقة، وانه سيدفع ثمن ذلك أن لم يستوعب تلك الحقائق. فالغربيون لم يرفضوا الانقلاب العسكري على التجربة الديمقراطية في الجزائر في العام 1992، ذلك الانقلاب الذي كان من نتائجه قتل قرابة 200 ألف جزائري على مدى السنوات العشر اللاحقة. ذلك الموقف الغربي ساهم في انتشار ظاهرة العنف والقتل بالأساليب الوحشية التي أصبحت مألوفة اليوم في الدول المبتلاة بالإرهاب.

 

ولم يكن الموقف الغربي من الانقلاب العسكري في مصر أفضل، بل وقف الغرب متفرجا أمام ما كان يجري من قتل وسجن لآلاف المصريين، ومن بينهم الرئيس المنتخب. ووقف الغربيون متفرجين أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وغزة، ولم يلتزم بموقف سياسي رافض للعدوان.

 

يمكن القول أن محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها تركيا أصبحت نقطة تحول في السياسة الخارجية التركية. وزاد في تصلب الموقف التركي من الغرب الأصرار الأوروبي على رفض عضويتها في الاتحاد الأوروبي.

 

ويتوقع أن تتصاعد الانتقادات الغربية لأنقرة في ضوء الاعتقالات التي طالت الآلاف من المتهمين بالتورط في المحاولة الانقلابية الفاشلة. وقد شعر أردوغان بمرارة شديدة بعد أن أفشل محاولة إسقاطه عسكريا وسط صمت الحلفاء الغربيين، وتعمق هذا الشعور بعد أن ارتفعت الأصوات الغربية المنتقدة للسياسة الأمنية التي انتهجتها أنقرة باعتقال الانقلابيين. ومن المتوقع أن ترفع مجددا يافطة «حقوق الإنسان» من قبل أولئك الحلفاء الذين يمارسون سياسات انتقائية مكشوفة. فهي سيف يستخدمونه بشكل انتقائي وليس وفق مبدأ ثابت. فحقوق الإنسان لدى الغربيين أصبحت نسبية، فقد يقلبون الدنيا حين يعتقل شخص من قبل نظام «غير صديق»، ولكن الصمت يصبح سيد الموقف حين تكتظ سجون الدول الصديقة بسجناء الرأي. وقد عبرت تركيا عن غضبها بأشكال عديدة: أولها التوجه نحو روسيا والتفاهم معها بشأن الوضع السوري، خصوصا أنها أصبحت لاعبا أساسيا في أرض الشام، ولا يمكن تجاوزها في ضوء إصرار الرئيس بوتين على مواصلة حربه الخاصة ضد الإرهاب. وجاء التفاهم الأخير الذي تم الأسبوع الماضي بين موسكو وأنقرة ليزيد الوضع تعقيدا من جهة وليعيد ترتيب أوراق اللعبة السورية والتحالفات المرتبطة بها من جهة ثانية. فالتقارب مع روسيا يتبعه تقارب مع إيران، وبذلك يمكن تصور قيام محور فاعل بموازاة المحور الذي تقوده أمريكا. ومع الاعتراف بأن الاعتماد على روسيا يجب أن لا يكون أمرا مطلقا، فأن سياسة تعدد المحاور خيار معمول به من قبل الدول الحرة في اتخاذ القرار.

 

قد لا يتفق المرء مع سياسات أردوغان، ولكن هناك سمة مميزة لها: أنها في أغلبها منسجمة وليست متناقضة، كما هي سياسات الغرب وبعض الدول العربية. فتركيا وقفت مع ثورات الربيع العربي المنطقة. وحذر رئيس وزراء تركيا من عواقب تدخل قوات درع الجزيرة في الشأن الداخلي البحراني الوخيمة. هذا في الوقت الذي لم ينطق أحد من الساسة الغربيين بموقف واضح آنذاك. وتركيا رفضت الانقلاب العسكري في مصر من اللحظات الأولى حتى الآن. تركيا لم ترفع الشعار الطائفي، بل بقي أهلها، بمشاعرهم المتباينة، متعايشين، سنة وشيعة وعلويين، مسلمين ومسيحيين. وكانت الحكومة التركية قد رفضت المشاركة في الحرب الانجلو ـ أمريكية على العراق في 2003. ورفضت أنقرة المشاركة في الحرب على اليمن التي تقودها السعودية، بينما قام بعض الدول الغربية بدعم ذلك التدخل ووفر المعلومات الإستخباراتية والصواريخ والقنابل الموجهة والخبراء للجانب السعودي.

 

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/08/15

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد