آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. يوسف مكي
عن الكاتب :
دكتوراه في السياسة المقارنة - جامعة دينفر كولورادو. - رئيس تحرير صحيفة الحقيقة الأسبوعية، ورئيس التجديد العربي ومشارك في مجلة المستقبل العربي أستاذ محكم بمركز دراسات الوحدة العربية. - عضو في العديد من اللجان والمؤتمرات. - صدر له مؤلفات منها ولا يزال البعض تحت الطبع.

لماذا ينجح التطرف في دفع الشباب لمحرقة الموت

 

يوسف مكي ..

علم النفس مهم جدا في دراسة المجتمعات الإنسانية، ولكنه يبقى عاجزا عن تقديم تفسير واقعي وحقيقي للظواهر الاجتماعية إن لم يتم ربطه بالاقتصاد والسوسيولوجيا والسياسة والتاريخ

 

أن تكون هناك جماعة متطرفة تحمل مشروعا سياسيا يهدف إلى إحداث انقلاب في الواقع العربي لصالحها، ذلك أمر مفهوم. وأن يمارس العنف في ميادين الصراع بين المعارضين وسلطة الدولة، في كثير من البلدان العربية، فذلك مفهوم أيضا. وحتى التحريض على الكراهية يمكن استيعابه باعتباره جزءا من الصراع الأيديولوجي بين قوى التطرف والحداثة، لكن ما يستعصي على الفهم هو السلوك العدواني، وغير الإنساني، الذي يمارسه بعض من تم غسل أدمغتهم، من الشباب اليافعين، تجاه أقرب الناس لهم. فعلى سبيل الأمثلة لا الحصر، ما الذي يدفع شابا يافعا لطعن والده ووالدته؟ وما الذي يدفع آخر إلى قتل مدرسه، وشخص ثالث يستدرج صديقه إلى مكان معزول ويقوم بقتله.

 

والكارثة أن هؤلاء القتلة مقتنعون بأنهم يسيرون على الجادة الصحيحة، وأنهم يعيدون لرسالة الإسلام الخالدة اعتبارها، بعد ما لحقها من ظلم. هل يعقل أن يصل التزييف وغسل الأدمغة حد تجريد الفرد من عواطفه ومشاعره، وماذا يتبقى من منظومة القيم والمبادئ التي يدعي المتطرفون الالتزام بها، إن هي جردت الفرد عن بيئته ومحيطه ومحبيه؟!

 

أسئلة كثيرة تخالج النفس، وهي ترى هذا الانهيار الأخلاقي، المعمد بالدم، يعم باختيال عدد كبير من ساحاتنا. ما ملكات تلك القوى في تحويل الباطل إلى حق، وإقناع الشباب الغض بالسير طواعية نحو محرقة الموت؟ وهل تسعفنا مدارس التحليل النفسي في الحصول على جواب مقنع يعيد للنفس شيئا من اليقين؟.

 

في هذا السياق، يقدم كتاب سيكولوجية الجماهير، للمؤلف جوستاف لوبون بعض الأجوبة. لقد صدر هذا الكتاب عام 1895، وترجمه إلى العربية الأستاذ هاشم صالح. وقد اعتبر هذا الكتاب إضافة رئيسية فيما بات يعرف في علم النفس بعلم الجماهير.

 

ورغم أن الكتاب يركز على دور الشخصية القيادية، المتمتعة بجاذبية عالية في تجييش الجمهور، لكنه يتناول أيضا تأثير الأديان والمذاهب السياسية عليها. ومن وجهة نظره، فإن الأيديولوجية الدينية، حين تتحول إلى دوغما، تكون قادرة على تهييج الجمهور وتجييشه لينخرط في الحركات الكبرى. وكمثال على ذلك، يذكر لوبون بالحروب الصليبية، والدعاية العباسية التي قلبت الدولة الأموية، كدليل على ذلك.

 

لقد حلت السياسة مكان الدين، لكن جوهر التسعير بقي على ما هو عليه. أضحت الأحزاب السياسية والحركات المهنية هي التي تعبئ الجمهور. وبدلا من الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت حلت الحروب بين الأحزاب السياسية. إن ذلك يعني استمرار مرحلة البربرية والهمجية، والتراجع عن الحضارة.

 

درس لوبون ظاهرة الجماهير، ليس من زاوية علم الاقتصاد أو التاريخ، بل في علم النفس. وتوصل إلى أن هناك "روحا" لها، مكونة من الانفعالات البدائية، ومكرسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية. وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي. إن روح الفرد شبيهة بالخضوع لتحريضات المنوم المغناطيسي، تخضع لإيعازات وتحريضات أحد المحركين، أو القادة الذين يعرفون كيف يفرضون إرادتهم عليها.

 

إن الفرد يقدم على أشياء استثنائية، ما كان ليقدم عليها لو كان في حالته الفردية المتعقلة. إن ذلك في حقيقته خضوع للصور الموجبة والشعارات البراقة التي يستخدمها القائد، مستعيضا بها عن الأفكار المنطقية والواقعية التي لا تمكنه من تحقيق السيطرة على الجماهير وامتلاك روحها.

 

وهكذا فإن الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح واحدة، وعاطفة مشتركة، تقضي على المواصفات الشخصية، وتخفض من مستوى الملكات العقلية. ولوبون يشبه ذلك بالمركب الكيماوي الناتج عن صهر عدة عناصر مختلفة، تذوب وتفقد خصائصها الأولى نتيجة التفاعل، وبسبب من المركب الجديد.

 

يقع لوبون في ارتباك واضح في حديثه عن العرق، حيث يغيب التمييز بين مفهوم العرق ومفهوم الموروث. ويرى أن الجماهير لعبت أدوارا مهمة في صناعة التاريخ، بفعل دورها اللاواعي. إن الانقلابات الكبرى في التاريخ هي نتاج التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. وإن المتغير الحقيقي في التاريخ هو التغير الذي يؤثر في عواطف البشر بشكل جمعي.

 

وعلى هذا الأساس فإن وعي التغير في مسار التاريخ ينبغي ألا يتجه نحو الفرد، بل نحو الكتل الكبرى من الجمهور. إن تكتل ما من البشر يمتلك خصائص مختلفة جدا عن خصائص كل فرد. فشخصية الفرد الواعية تنطمس في شخصية الجمهور. وتغدو عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور موجهة في نفس الاتجاه، وتشكل كينونة واحدة خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجمهور.

 

إن الظواهر اللاواعية تلعب دورا حاسما في طريقة اشتغال الذهن. والحياة الواعية للروح البشرية لا تشكل إلا نزرا يسيرا من الحياة اللاواعية. والكفاءة العقلية للبشر تمحى وتذوب في الروح الجماعية، فلا يبقى مكان للمختلف أمام المؤتلف. والائتلاف بهذا المعنى هو نزول عن سقف الحضارة، وعودة للبدائية.  والسؤال بعد كل هذا هو هل تسعفنا هذه القراءة في تحديد أسباب تغول ظاهرتي التطرف والإرهاب في مجتمعنا العربي، اللتين باتتا معضلة المعضلات بالسنوات الأخيرة. الجواب بنعم ولا في نفس الوقت. إن التفسير الذي قدمه لوبون قد فتح أعيننا على جوانب خافية من التحليل، ولكنه لا يقدم قراءة شافية لأسباب استفحال هذه الظاهرة في مكان وزمن محددين.

 

إن علم النفس مهم جدا في دراسة المجتمعات الإنسانية، ولكنه يبقى عاجزا عن تقديم تفسير واقعي وحقيقي للظواهر الاجتماعية، إن لم يتم ربطه بالاقتصاد والسوسيولوجيا والسياسة والتاريخ. على أن ذلك لا ينفي إسهاماته في تقديم شيء من التفسير عن الانهيارات الراهنة في مجتمعنا العربي.

 

ولعل هذه القراءة، التي طرحها لوبون، تقدم رؤية أولية يمكن أن تبنى عليها دراسات علمية مستقبلية للخروج من نفق الأزمة الراهنة.

 

لصالح صحيفة الوطن

أضيف بتاريخ :2016/08/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد