قصة وحدث

قصة وحدث: ضمير الرسم.. حلم بمسافة وطن

 

كانت الساعة تشير إلى الخامسة والربع تقريبا من بعد ظهر الأربعاء 22 يوليو عام 1987م، حين أوقف سيارته وترجل حاملا لوحتين هما آخر ما رسم، عبر شارع درايكوت إيفنيو إلى شارع آيفز في حي كلسي حيث تقع مكاتب جريدة القبس الدولية في الرقم 22 من الشارع.

ثمة رسالة أراد إن يوصلها عبر رسوماته، وحرب ضد الاحتلال لكنها حرب من نوع آخر.. وعلى الواجهة الأخرى من الطريق ثمة شخص يلاحقه، يتعقب خطواته، إلا أن ناجي لم يشعر بأن أحدا كان يلاحقه.

 

جدران توثق الحرية

بعد احتلال إسرائيل لفلسطين هاجر ناجي مع أهله عام 1948 إلى جنوب لبنان وعاش في مخيم عين الحلوة، ثم هَجر من هناك وهو في العاشرة، ومن ذلك الحين لم يعرف الاستقرار أبدا، فبعد أن مكث مع أسرته في مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان اعتقلته القوات الإسرائيلية وهو صبي لنشاطاته المعادية للاحتلال، وقضى أغلب وقته داخل الزنزانة يرسم على جدرانها.

ثم إن جدران أخرى وثقت رسمه، حتى أن الطفل حنظلة كان رفيقه أيضا، لم تكن زنزانة الاحتلال الإسرائيلي وحدها من قيدته، فقد اعتقل أكثر من مرة على يد الجيش اللبناني.

 بعد خروجه من الأسر سافر إلى طرابلس ونال منها على شهادة ميكانيكا السيارات، تزوج وأنجب أربعة أولاد هم خالد وأسامة وليال وجودي.

 

هجرة السياسية

بعد إنهاء دراسته هاجر إلى الكويت والتحق بعدد من الصحف الكويتية كرسام كاريكاتير، قبل أن يعود إلى صحيفة السفير اللبنانية، لكنه التحق مجددا في العام 1982 بجريدة القبس الكويتية.

ثمة ضغوط سياسية  أجبرت "ناجي العلي" على الرحيل إلى لندن في العام 1985..

إذ أن ناجي كان كثيرا ما يردد.. "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت".

ومن منطلق رؤيته و وعيه وإدراكه بقضية فلسطين، يقول: هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب.

الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة.

متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها، أنا منحاز لمن هم "تحت".

أن نكون أو لا نكون، التحدي قائم والمسؤولية تاريخية.

 

حمل العلي طفله ذو العشرة أعوام معه أينما كان، حتى إن حنظلة أصبح فيما بعد بمثابة توقيع "ناجي العلي" على لوحاته، وحظيت بحب الجماهير العربية لكونها تعبير عن صمود الشعب الفلسطيني بوجه المصاعب التي تواجهه.

 

 

 الطفل الذي ظل في العاشرة من عمره

هي حكاية بدأت عام 1969م، ومازالت كقضية حية إلى عامنا هذا 2016م، ومابين البداية حتى النهاية عمر مضى، وأطفال شابت وهرمت، ولكن.. ثمة طفل ولد في العاشرة من عمره وظل في العاشرة.

ولد حنظلة في العاشرة في عمره، وسيظل دائما في العاشرة من عمره، "فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء".

ففي تلك السن غادر فلسطين، وظل مهاجرا، لكنه حين يعود إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، والغريب إن أحدا لم ير وجهه منذ ولادته.

أمضى كل عمره وقد أعطى الآخرين ظهره بيدين مكتفتين خلفه،وأما السر في تكتيف يديه منذ ولادته، فثمة سبب يرويه ناجي، يقول: "كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة فهو ثائر وليس مطبع".

 

ما بين ناجي وحنظلة.. القمع العربي أولا

ثمة هناك من يرفض ما تميزت به أعمال "ناجي العلي" الفنية والغنية بالنقد اللاذع والموجه، وهو أشهر فنان فلسطيني سخر فنه للتغيرات السياسية ولخدمة فلسطين وشعبها ولفضح الاحتلال.

لم ترق للكثير رسومات ناجي، حتى العرب أنفسهم الذي كان يرسم ويحكي معانتهم، وقفوا ضده..

وهو في طريقه إلى مكتب جريدة القبس الكويتية، اقترب منه شاب ذو شعر أسود داكن يراوح عمره بين 25 و30 عاما، راح يلاحقه خطوة خطوة، وفي لحظة من عمر الزمان أخرج الشاب مسدسه وأخفاه في الصحيفة، وحين أصبح ناجي قريبا بما فيه الكفاية أطلق على رأسه رصاصة واحدة ثم لاذ بالفرار واختفى في أحد الشوارع الفرعية.

بقي ناجي ممددا ينزف بشدة إلى أن وصل المدعو آندريه ميلر وحاول وقف النزف، وكان شخص اسمه "فواز عابدين" قد شاهد الجريمة، حاول ملاحقة القاتل لكنه اختفى. 

ثمة غموض يكتنف اغتيال "ناجي العلي" ففي اغتياله هناك جهات مسؤولة مباشرة، الأولى الموساد الإسرائيلي والثانية منظمة فلسطينية كونه رسم بعض الرسومات التي تمس القيادات آنذاك، أما قضية الاغتيال إن جاز التعبير قد تنتهي بفرضية التصفية أو بعض الأنظمة العربية مثل السعودية بسبب انتقاده اللاذع لهم.

 أسفرت التحقيقات البريطانية  عن اتهام  شخص يدعى "بشار سمارة" وهو على ما يبدو الاسم الحركي لبشار الذي كان منتسبا إلى منظمة فلسطينية، إلا إنه  كان موظفا لدى جهاز الموساد الإسرائيلي.

عملية الاغتيال والتصفية كانت في لندن بتاريخ 22 يوليو عام 1987م أصيب تحت عينه اليمنى، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في 29 أغسطس 1987، ودفن في لندن رغم طلبه أن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده وذلك لصعوبة تحقيق طلبه.

رحل ناجي العلي، إلا أن طفله المقيد والمكتف مازال ينبض بالحياة، إذ أن "خالد ناجي العلي" أعاد إنتاج رسومات والده في عدة كتب جمعها من مصادر كثيرة، وتم ترجمة العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى.

في ذكرى شهادة ناجي ظل طفله حنظلة شاهدا حتى اليوم على ما يشهده العالم العربي من تطبيع مع العدو الإسرائيلي وضعف بات أكثر من الماضي في القيادات العربية..

اليوم ليس وحده حنظلة الطفل الوحيد الذي فقد وطنه وظل مكتفا يديه خلفه.. ثمة عشرات الآلاف من الأطفال في العالم العربي نسخة مكررة من حنظلة، وفلسطين التي انتظر العودة إليها لم تكن إلا البداية.

أضيف بتاريخ :2016/08/30

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد