آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الأمة بين إقامة جسور التواصل وبناء جدران العزل

 

د. سعيد الشهابي ..

 الوحدة قيمة مقدسة لدى العقلاء، بينما الفرقة مذمومة وكذلك البغض والتناحر. وبرغم تباين الأعراق والثقافات لا يعدم البشر أسباب التقارب في ما بينهم، ابتداء بأبسط ظاهرة في المجتمع الإنساني، وهي الزواج وصولا إلى رغبة الأفراد والشعوب في تقارب شعوبهم وأممهم وتوحدها. ولذلك اعتبر القرار البريطاني بالخروج من أوروبا خارج المألوف والمقبول لدى الكثيرين، وأن كانت له أسبابه ودوافعه.

 

وتعبر الرغبة في الوحدة عن وعي حقيقي، وتعتبر مؤشرا لهيمنة العقل والمنطق، بينما تمثل المفاصلة والافتراق استسلاما لواقع مر وتعبيرا عن الهبوط والجهل. والشعوب المتوحدة هي القادرة على فرض التغيير، بينما تسعى قوى الاحتلال والاستبداد لتمزيق الشعوب وتبديد قوتها. ومن مؤشرات الوعي رفض الظلم والديكتاتورية، وكذلك التضامن من أجل الحرية واحترام حقوق البشر وإقامة العدل. أما حين تسود حالة التمزق فتستبدل تلك القيم بالتعصب والجهل وغياب المنطق. وهنا يهيمن الجهال على العلماء، وينظر للأصدقاء بعين العداء، ويتم التقارب مع الأعداء الحقيقيين، بسبب غياب القيم والمبادىء والمعايير.

 

عندها يضيع الحق ويسود الباطل، وينتشر الظلم ويغيب العدل، وتنتشر ظواهر الاضطراب والخوف والجوع، وهي ظواهر ربطها القرآن الكريم بتفشي ظاهرة الظلم. والاستبداد ظلم، وكذلك الاحتلال، وتغييب العدل وتغليب لغة السلاح وتهديد حياة الإنسان. وحين تعيش الأمة مقهورة، تنكفئ على نفسها ويتراجع دورها في التغيير، وتتحول إلى قوة سلبية غير فاعلة، وتصبح أكثر ميلا للسفسطة والاسترخاء والاستسلام للواقع الذي تعيشه، والاستماع إلى «نصائح» الأعداء. وتعيش الشعوب العربية أوضاعها الحالية المزرية التي يشوبها الخلاف والحرب والتناحر الداخلي، نتيجة انقلاب قوى الثورة المضادة على إرادة الشعوب وكسر معنوياتها واحتواء تطلعاتها. وحين تهيمن تلك القوى الشريرة تشجع الفرقة والتناحر والاحتراب الداخلي والاستسلام للهيمنة الأجنبية والاحتلال الغاشم.

 

تعيش أمتا العرب والمسلمين اليوم حالة من التمزق غير المسبوق، ويتسابق بعض قطاعات شعوبها لتكريس تلك الظاهرة التي يشارك فيها بعض»العلماء» و «المثقفين». وقد غاب العقلاء طوعا، أو تم تغييبهم قسرا، عن الشؤون العامة، بعد أن لاحظوا صعود أصوات الفرقة والتناحر واستبدل العقل والمنطق بالعصبية والجهل، واستبدل الدين المؤسس على العقل والمنطق بالتعصب للمذهب استجابة لنزعات العصبية والجهل، ليس حبا في القيم السماوية المقدسة بل تحصنا وراء الخطوط التي رسمها الإنسان. وفيما يتصاعد اللغط في الولايات المتحدة الأمريكية مع اقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية بعد شهرين، تتجلى ظاهرة الجهل والتعصب في مشروع المرشح الرئاسي دونالد ترامب، الذي يدعو لبناء جدار فاصل على الحدود مع المكسيك الذي ساد اللغط حول تمويل بنائه الأسبوع الماضي بعد لقاء ترامب مع الرئيس المكسيكي. وبناء الجدران تعبير بليغ عن الأزمات، ويمثل جدار برلين الذي تم تشييده في ذروة الحرب الباردة في 1961، رمزية واضحة للاختلاف والتفرق. وما أن انتفضت شعوب أوروبا الشرقية على واقعها حتى كان شباب برلين يتوجهون نحو ذلك الجدار ويزيلونه. فالحرية لا تقر التمزق أو الانقسام، بل تدفع رعاتها لبذل الجهد من أجل تحقيق وحدة حقيقية قادرة على التحاور مع القوى الكبرى بهدف تحقيق ما يتطلع الشعب إليه. أما الجدار الذي شيدته قوات الاحتلال الإسرائيلية عند مدينة القدس لعزل الفلسطينيين، فهو الآخر، مصداق للخلاف والاختلاف. وقد أصبح بناء الجدران بين الشعوب تصرفا ممقوتا لدى الكثيرين برغم ضرورته أحيانا. ففي الأسبوع الماضي بدأت الجزائر في بناء جدار ترابي عازل على حدودها مع ليبيا وتونس، لـ«أسباب أمنية تهم حماية الأراضي الجزائرية من تسلّل المقاتلين الجهاديين»، حسب ما قاله مسؤولون جزائريون. وقد شرعت السلطات الجزائرية في بناء الجدار على الجانبين الحدوديين التونسي والليبي.

 

هذا الجدار سبقه آخر قامت به الحكومة التونسية على الحدود مع ليبيا لوقف تسلل الإرهابيين، اعتبر مقبولا لدى الكثيرين، ولكن العقلاء يرفضونه نظرا لرمزيته غير الايجابية. وتشهد الحدود الجزائرية الليبية محاولات اختراق مستمرة من طرف المهربين والمهاجرين غير الشرعيين من مختلف الجنسيات. وفي العام الماضي تداولت أوساط عراقية مقترحا لبناء جدار عازل وسط بغداد لشل حركة الإرهابيين بين مناطقها ذات الانتماءات الدينية والعرقية المتعددة. ولم يجد المقترح طريقه للتنفيذ بعد أن سيطرت الحكومة على الوضع الأمني في العاصمة. بينما استأنفت السلطات التركية الأسبوع الماضي بناء جدار إسمنتي على الحدود مع سوريا في قضاء «قرقامش» بولاية «غازي عنتاب» جنوبي البلاد وذكرت وكالة أنباء «الأناضول»، أن الهدف من بناء الجدار هو مكافحة الإرهاب ومنع عمليات التسلل إلى الأراضي التركية من الجانب السوري، وذلك عقب تطهير المنطقة من الألغام التي زرعها تنظيم «داعش» الإرهابي. وقبل شهرين أقامت حكومة البحرين حواجز من الأسلاك الشائكة لعزل منطقة الدراز بهدف منع المواطنين من دخولها لزيارة الرمز الديني الأكبر في البلاد. واعتبرت تلك الخطوة تجسيدا لازمة، وليس حلا لمشكلة. فالشعوب قادرة على اختراق جدران العزل والفصل، وحين تتوفر لها فرصة هدمها تبادر لذلك بهمم رفيعة، كما حدث لجدار برلين في 1989، إذ تم هدمه في فترة زمنية قياسية.

 

جدران العزل والفصل ليست هي التجلي الوحيد لظواهر الفرقة والاختلاف. فهي ظاهرة مادية ملموسة تستثير الناس للعمل لهدمها لأنها تحد عميق لإنسانيتهم. أما البعد الأخطر للفرقة والانقسام فيتمثل بتجمد مشاعر البشر أمام مظاهر الموت والقتل والاحتراب العبثي. فحين تركن الأمة للصمت أمام الموبقات فأنها تحكم على نفسها بالزوال التدريجي. حين تتكلس المشاعر أمام مشاهد الموت والدمار اليومي فذلك مؤشر للوفاة وموت القلب وتلاشي الضمير. عندما تمر مشاهد القتل الوحشي للبشر والتفنن في تمزيق الأشلاء، سواء بالعمليات الانتحارية أم قطع الرؤوس وتمزيق الجثث واستخدام المناشير الكهربائية لتقطيع الأوصال أو سحل الموتى أو تنفيذ أحكام الإعدام بالحرق أو الإغراق، وسوى ذلك من الأساليب الوحشية، بدون أن تصدر صيحات الاستنكار والرفض والتضامن لوقف ذلك، فإن الأمة تكون قد قطعت شوطا كبيرا على طريق الموت. حين يستمر قصف أفقر بلد عربي على مدى 18 شهرا بدون توقف ولا يصدر صوت واحد لوقف الحرب، فأن ذلك إفلاس أخلاقي وقيمي غير مسبوق. وحين يتواصل تدمير آثار الأمة وتراثها التاريخي بأيدي جهالها ويستخدم الدين غطاء لذلك، فما الذي يشد الأمة إلى تاريخها الخاص أو التاريخ الإنساني الذي ينتمي البشر إليه؟ ما معنى أن تزهق الأسبوع الماضي أرواح جميع أفراد عائلة أمام مسجد (16) بضربة جوية في شمال اليمن ويقتل هو ونجلاه وزوجتاهما وأطفالهما جميعا بدون أن يرف جفن لذلك؟ وماذا يعني أزيز الطائرات في أجواء قرى العرب والمسلمين ليلا ونهارا بدون توقف، ولا تكون هناك ردة فعل أو تصريح أو موقف واضح أو دعوة صريحة لوقف الحروب العبثية؟ أذلك مؤشر لصحة الأمة أم موتها؟

 

ما الذي جرى لهذه الأمة لكي تغيب عنها مشاعرها الإنسانية وتتكلس ضمائرها فلا يبقى شيء يحرك منها ساكنا؟ تختزن ذاكرة الجيل المتقدم في العمر من العرب روح الوطنية والإنسانية التي صدحت يوما: بلاد العرب أوطاني، وكل العرب إخواني. هل كان ذلك شعارا فارغا من المعنى والصدق؟ وحين يصدح شباب الأمة بالنشيد الذي كثيرا ما رددته الإذاعات العربية «التقدمية»: من المحيط الهادر، إلى الخليج الثائر، لبيك عبد الناصر، أليس ذلك تعبيرا عن وضع مختلف تماما عما يعيشه العرب اليوم؟ لم يكن عبد الناصر حاكما مثاليا كما لم يكن أي من حكام عصر التحرر الوطني من العرب وغيرهم، ولكن الهتاف المذكور ينسجم مع واقع عربي مختلف، ومشاعر يتطلع أصحابها لمستقبل من الحرية ويتنصلون من الهيمنة الغربية. أوليس ذلك نسخة من مشاعر شعوب الأمة ليس أيام الرسالة فحسب، بل أيام ثورات الربيع العربي قبل اقل من ستة أعوام.

 

الشعوب يومذاك تحررت من قيود الاستبداد وأصرت على استعادة سيادتها، فقد كبرت نفوس أبنائها وتناغمت قلوبهم، فهتف المشرقيون دعما للمغربيين، وسادت الأمة أجواء الوئام والحب والتضامن، وتفاعلت الشعوب الأخرى معهم، واعتقد الجميع أن غدا مشرقا ينتظر العرب بعد نهضة شعوبهم من أجل الحرية. ولكن سرعان ما انقلب الأمر وتردت الأمور واستعادت قوى الثورة المضادة تماسكها فانقضت على الجماهير بدون رحمة ونكلت بها أيما تنكيل. عندما انطلقت الشعوب لتحقيق أحلامها في الحرية والديمقراطية والاستقلال، لم يكن أي منها ينتظر دعما من الخارج، بل كانت سواعد أبنائها كفيلة بإنجاح الحراك الجماهير الذي تحول سيلا جارفا يهدد عروش الطغيان والاستبداد. كان الضمير حيا، والمشاعر ملتهبة، وأفق التغيير واضحا، ولكن سرعان ما حدث أكبر انقلاب في التاريخ المعاصر على قوى التغيير، فإذا بالسجون تفتح أبوابها للنزلاء الجدد ممن تحدى السلطان وهتف بالتغيير وصدح ضد الاحتلال. لا يمكن إنكار ما أحدثته وحدة الأمة في مسارها التحرري وهدفها والتئام شملها على طريق الحرية من خوف شديد في نفوس الذين مارسوا الديكتاتورية والاستبداد وأولئك الذين فرضوا الاحتلال ودعموه وذادوا عنه. والسؤال هنا: كيف استطاعت القوى الشريرة الانقضاض على مشاعر الخير والحب والحرية والوحدة في نفوس العرب والمسلمين واستبدلتها بالتمزق وثقافة الكراهية والتطرف والطائفية والإرهاب؟ ألم يحن الوقت لصحوة ضمير وعقل توقف التداعي وتعيد التوازن وتحفظ الأمة وتحمي الدين والإنسانية من وبال هذه الأمراض القاتلة؟

 

جريدة القدس العربي

٭ كاتب بحريني

أضيف بتاريخ :2016/09/05

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد