آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الغرب يضرب «الديمقراطية الليبرالية»

 

د. سعيد الشهابي ..

 هل يمكن اعتبار الديمقراطية في شكلها الغربي ذروة عطاء الفكر السياسي البشري كما قال فرانسيس فوكوياما قبل ربع قرن؟ وهل يمكن القول بإن التجربة البشرية وصلت بذلك إلى ما يمكن اعتباره «نهاية التاريخ»؟ يصعب تقديم إجابة حاسمة لهذا التساؤل. فقد جاءت نظرة الرجل في ذروة التطورات السياسية التي حدثت آنذاك وأدت لانتهاء الحرب الباردة. فقد خرج السوفيات من أفغانستان، وتفككت منظومة الاتحاد السوفياتي، ودخل العالم فترة هيمنة القطب الواحد الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأ وكأن التجربة الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية قد حسمت السجال الفكري السياسي لصالحها بدون منازع.

 

ولكن أعقب ذلك أكبر حرب الكترونية مدمرة حين استهدف التحالف الذي قادته الولايات المتحدة القوات العراقية لإخراجها من الكويت. تلك الحرب وضعت نهاية لحماس المفكرين الغربيين الذين أدرك بعضهم أنهم تسرعوا عندما أعلنوا انتصار نظامهم السياسي بشكل حاسم. وحتى فوكوياما نفسه غير موقفه في غضون فترة بسيطة عندما رأى الطغيان الأمريكي متجسدا في مقولات الرئيس جورج بوش (الوالد) وسياساته. فلم ير الرجل في ما سمي آنذاك «النظام العالمي الجديد» تجسيدا للمشروع الديمقراطي من قريب أو بعيد، بل رأى فيه نزعة نحو الهيمنة المطلقة والتسلط وتقديم المصالح على المبادئ وتجاهل الدعوات الدولية لوقف الحروب ومنع انتشار السلاح.

 

كان أولئك المفكرون يطمحون في هيمنة الديمقراطية الليبرالية على العالم بقيادة الولايات المتحدة التي كانت تتزعم ما يسمى «العالم الحر». حقبة السنوات العشر اللاحقة (التي شملت فترة رئاسة بيل كلينتون) لم تكن مشجعة لذوي النزعات الليبرالية الذين لم يجدوا انتشارا حقيقيا للمشروع الديمقراطي إلا بشكل محدود في الكيانات الجديدة التي نجمت عن تفكك الاتحاد السوفياتي. ولم تكن تجاب تلك الدول مشجعة كثيرا. ولم تؤد الحرب الأنجلو أمريكية في الكويت لحالة استقرار إقليمي أو دولي، خصوصا أن المؤسسة الانكلو ـ أمريكية لم تتخذ قرار ترويج الديمقراطية في الدول «الصديقة» لتلك المؤسسة. في بداية الحقبة جاءت قمة فيينا في 1993 لتوفر دفعة لرواد المشروع الديمقراطي، لأنها أضفت على المشروع الحقوقي سمة دولية تتجاوز الحدود الإقليمية خصوصا في مجال حماية المدافعين عن حقوق الإنسان. غير أن ذلك الحماس لم يستمر طويلا. فمع خروج ظاهرة الإرهاب من رحم التطورات السياسية التي أحدثتها الحرب الأولى على العراق، بدأت الأمور تتجه بمسارات متناقضة تماما مع طموحات منظري الديمقراطية الليبرالية، وجاءت حوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية، لتؤدي لنتائج مختلفة تماما. فقد أصبح العالم الغربي مهووسا بظاهرة الإرهاب والتصدي لها، وأصبح مرتهنا لأوضاع اقتصادية تزداد سوءا نتيجة تراجع أسعار النفط وانخفاض مبيعات السلاح. ولكن الأهم من ذلك جانبان: أن ظاهرة جورج بوش الابن كانت انقلابا على المبادئ الديمقراطية والحقوقية التي جسدتها أطروحات فوكوياما. وبدلا من الإصرار على المشروع الغربي ذي الدعامتين (الديمقراطية وحقوق الإنسان) تخلت أمريكا وحليفاتها عن ذلك المشروع برغم تصريحات أولية بعد حوادث 11 سبتمبر توحي بتوجهات غربية للتكفير عن خطايا الإدارات الأمريكية المتتالية التي تجاهلت المشروع المذكور. وجاء اعتراف الأمريكيين بممارسة التعذيب مع معتقلي تنظيم القاعدة، والسجون الأمريكية السرية في أكثر من 30 بلدا والرحلات الجوية السرية وخطف الأفراد من شوارع بلدانهم، لينهي أي أمل في ترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان.

 

المشروع الديمقراطي إلى أين؟ يواجه الغربيون تحديات وجودية عديدة، ولكن أهمها يتجسد في مدى قدرتهم على إعادة إحياء مشروعهم الديمقراطي الذي ازداد قوة بعد الحرب العالمية الثانية عندما أضيفت له منظومة حقوق الإنسان.

 

اليوم يواجه ذلك المشروع امتحانات صعبة تجسدها ظواهر عديدة: أولها التحالف الغربي مع أنظمة الاستبداد والاحتلال في الشرق الأوسط، وهو تحالف يستعصي على التغيير أو الإضعاف، خصوصا مع شيخوخة الظاهرة الديمقراطية ورموزها وغياب الأشخاص التاريخيين على رأس الحكم في تلك البلدان. فزعماء مثل جورج بوش أو توني بلير أو ديفيد كاميرون لا يمكن اعتبارهم قادة تاريخيين، فهم أصغر من المناصب التي تقلدوها، وليست لديهم مشاريع إصلاحية عالمية، كما لم يعرفوا بدورهم في الدفاع عن حقوق المظلومين، وهو شرط أساس للعظمة الشخصية. ثانيها: أن الممارسة السياسية داخل البلدان الغربية لا تجسد روح المشروع الديمقراطي، فالشعوب ليست هي التي تحكم فعلا، بل ينحصر دورها في الإدلاء بأصواتها في صناديق الانتخاب لاختيار مرشحين مفروضين عليهم من المؤسسة الحاكمة التي هي صاحبة القرارات من الناحية العملية. أما البرلمانات فيظهر يوما بعد آخر هامشيتها في صنع القرارات اليومية، وتنحصر أدوارها في التشريع الذي لا يعرض عليها إلا بعد اطلاع المؤسسة الحاكمة عليها وإقرارها من قبلها.

 

الثالثة: أن المؤسسة الحاكمة في تلك البلدان تتشكل من فروع لكل منها دوره، ولا يستطيع أي منها تجاوز الخطوط التي رسمت له. فكما أن السلطات الثلاث جزء أساسي من المؤسسة، فكذلك الإعلام (برغم المبالغة في التشدق بحريته) ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية. فلكل منها دور محدد، ولكن القرار النافذ هو ما تراه الحكومة.

 

الرابعة: أن الديمقراطية كمبدأ وعقيدة سياسية يفترض أن يكون لها الحاكمية في صنع القرارات والمواقف، وأن نتائج الالتزام بمقتضيات المشروع الديمقراطي يفترض أن يحقق المصالح الوطنية. ولكن الملاحظ أن الديمقراطية فقدت جوهرها وبقيت قشورها.الخامسة: أن الديمقراطية تحولت من مشروع عالمي إلى ممارسة محلية. بمعنى أن الأنظمة الغربية قد تكون ملزمة بتنفيذ مقتضيات الديمقراطية داخل حدودها، ولكنها غير ملزمة بترويجها خارج تلك الحدود. وأصبح من الراسخ لدى الساسة الغربيين أن بالإمكان التعايش مع الاستبداد والتعامل معه وان ترويج المشروع الديمقراطي عالميا ليس ضرورة لإنجاحه وتقويته محليا، وبذلك تحول المشروع من قيمة مطلقة إلى مبدأ نسبي يخضع للظروف والإمكانات.

لقد كان مفترضا أن يكون المشروع الديمقراطي بديلا للطريقة الميكافيللية في الحكم، وأن الغاية لا تبرر الوسيلة، ولكن التجارب الغربية تظهر يوما بعد آخر أن الميكافيللية تحل تدريجيا محل المواقف المبدئية، وأن القليل من القادة الغربيين قادر على تقديم المبدأ على المصلحة. وعندما يبرز شخص لديه قدر من المبدئية فسرعان ما يصبح مستهدفا من «المؤسسة» بكافة فروعها خصوصا الإعلام والقضاء، بحثا عن ثغرات في شخصه تستخدم لإسقاطه كما يحدث حاليا مع جيريمي كوربين.

 

إذا كان للشعب دور في صنع القرار في الغرب «الديمقراطي» فإنه لا يتجاوز أن يكون بمثابة «الرأي» و «النصح» وليس الإلزام. التقدم في العمر يوفر للشخص تجربة مباشرة في الأوضاع من حوله. فإذا كانت سنوات الشباب قد أقنعته بأن الديمقراطية الليبرالية تمثل ذروة الناتج البشري في مجال السياسة والحكم والإدارة، فان التجربة تؤكد أن الواقع ليس كذلك، وان القرارات الكبرى لا تخضع للذوق الشعبي، ولا للمبادئ الأخلاقية والقيمية التي تؤمن بها نخب محدودة الوجود والتأثير.

 

وما الموقف الغربي إزاء ثورات الربيع العربي إلا مصداق لمقولات «المصلحة» و «الانتهازية» و «المبادئ النسبية». فقد رفض الغربيون دعم حركات التغيير في أي من البلدان، وانتظر حسم المواجهات الاحتجاجية ليعلن دعمه للأنظمة القائمة، وإمداد بعضها بالخبرات الأمنية التي تحتاجها لقمع الشعوب الناهضة.

 

هذا مع علم الغربيين أن تدخلات الغرب ضد قوى الاستقلال والتحرر إنما يؤدي لتصاعد ظواهر التطرف والإرهاب، بسب حالات اليأس الكامنة في نفوس الجيل الحاضر من أبناء الأمة. الغربيون ليسوا أوفياء لمبادئهم، وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ومبادئها يتم التعامل معها بنسبية مقززة وانتقائية مؤلمة، وروح مصلحية رخيصة. وبعد ربع قرن على المقولات التاريخية للمفكر الأمريكي، من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، يمكن القول إن تلك المقولات قد استنفدت أغراضها وأن الغرب انقلب على مبادئه، وأصبح عليه دفع ثمن ذلك، خسارة في الأرواح، وانتشارا للإرهاب ومجموعاته، واستشراء الفقر في أوساط شعوبه.

 

صحيفة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/09/12

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد