قصة وحدث

"إعدام عقيدة": الشهيد صادق مال الله

 

عبد العظيم محمد ..

ثمانينيات القرن العشرين، لم تكن فترة سهلة على شيعة المملكة الذين كانوا يحاربون في دينهم من قبل السلطة الحاكمة وسعيها لاضطهاد تلك الفئة من الشعب، حتى أوعز النظام الحاكم لعلمائه للإفتاء بكفر الشيعة وصدر ذلك عن الشيخ بن باز و الشيخ بن جبرين و علماء آخرون.

 

كان في تلك الفترة صادق عبد الكريم مال الله يراسل أحد علماء البلاط ويتناقشان في رسائلهما حول بعض القضايا الإسلامية حتى وصولا إلى النقاش حول الأديان وتحدثا حول الدين المسيحي فاعتذر المال الله عن مواصلة النقاش في الدين المسيحي لعدم اطلاعه على المسيحية طالبا نسخة من الإنجيل لمطالعتها، وعلى إثر المطالبة قدم عالم البلاط بإصدار شكوى ضد صادق مال الله تفيد أنه اعتنق الدين المسيحي وأنه يملك إنجيلا في منزله.

 

من هو صادق مال الله؟

صادق عبد الكريم مال الله من مواليد منطقة القطيف – شرق المملكة- عام 1967م،و نشأ وترعرع في حي القلعة والتحق بالتعليم حتى وصل إلى المرحلة المتوسطة ليخرج من الدراسة حيث اضطر للعمل نهارا و إكمال الدراسة ليلا، كان كثير القراءة والإطلاع على الكتب خصوصا الدينية منها، كان صادق يبحث عن الحقيقة وتعلم الدين والمذهب الصحيحين بالأدلة والبراهين، وكان شابا معروفا بالتدين والصلاح بالإضافة  لتمتعه بالجرأة والشجاعة.

 

الاعتقال الأول..

في شهر رجب من العام 1407، اقتيد صادق المال الله إلى سجن مباحث الدمام بعد تفتيش منزله على إثر الشكوى التي أصدرها عالم البلاط، وقد مكث في المعتقل فترة ثلاثة أشهر وهو في عمر 21 سنة.

 

وبعد خروجه من المعتقل واصل صادق القراءة والاطلاع والبحث عن الحقيقة وتوصل إلى نتيجة أن مذهب أهل البيت عليهم السلام هو الأحق بالإتباع.

 

وضعه تحت المراقبة ومحاولات لتجنيده..

من جهة أخرى، كانت عين السلطات على صادق  وتراقبه و تطلب منه الحضور لدائرة المباحث والمحكمة الكبرى حيث استدعي ثلاث مرات على خلفية الشكوى وكذلك للإغراء بالمال للعدول عن المذهب والانضمام للتجسس.

 

ذهب صادق المال الله إلى دائرة المباحث على إثر استدعاء وجه له، وفور دخوله مكتب أحد المسؤولين بالمباحث.. وجد صادق أمام رجل المباحث حزمة من الأموال، فجلس على الكرسي ، ليهيل مسؤول المباحث الأموال عليه ويقول " خذ هذا المال من فلان وفلان" ويعدد أسماء وجهاء وشخصيات، كل ذلك بهدف إغراء الشاب الصادق -الذي كان له من اسمه نصيبا- للعمل معهم في مجال التجسس، ورغم فقره إلا أنه رفض العرض الذي وجه إليه للتجسس على أبناء منطقته ليمنى المسؤول بالفشل.

 

تضييق الخناق عليه وحرمانه من الحقوق المدنية..

كان يحاول الشهيد صادق استخراج البطاقة الشخصية  من الأحوال المدنية بالقطيف، بيد أنهم رفضوا إصدارها له لوجود أوامر من المباحث بعدم إصدار البطاقة له، ووضعوا أمامه المعوقات لعدم إصدار البطاقة تارة بالإعلان في الصحف المحلية بعدم  وجود أي مستحقات مالية عليه وتارة بأخذ التعهدات والاعتراف  بعدم امتلاكه لبطاقة شخصية أو جواز سفر.

 

صلابة الموقف.. والشجاعة في المواجهة..

ومع منع السلطات من إصدار الوثيقة، قام الشهيد المال الله بإرسال رسالة للشيخ الذي تسبب في دخوله السجن أول مرة, كتب فيها: "أنا مسيحي ودارس المسيحية في الخارج فأرني ماذا ستفعل ؟"، عندها أخذ الشيخ السلطة الرسالة وسلمها لدائرة المباحث مرةٍ ثانية فاتخذتها المباحث مصدراً يهددونه بها، وبعدها داهم رجال المباحث منزل الشهيد مجدداً وللمرة الثانية دون أن يجدوا لديه أي شيء.. وقد تحدث لهم الشهيد قائلاً: "إنني لم أحصل على البطاقة الشخصية ولا جواز سفر وأنتم تعلمون ذلك".

 

الأدلة والبراهين السلاح الذي تسلح به..

بعد هذه الحادثة، أستدعي الشهيد صادق مال الله من قبل قاضي محكمة القطيف الكبرى الشيخ فؤاد الماجد ، وكان معه شيخان آخران، عند وصوله أخذ يسأله عما إذا كان مسيحيا أم لا؟ ودخل الشيخ بعد ذلك في نقاش مذهبي لكن الشهيد مال الله رفض الدخول في هذا النقاش لعلمه بأن النظام يحاسب على مثل هذه النقاشات وقال بأن سؤاله حول الفرق بين الشيعة والسنة يجيب عليه العلماء من الشيعة، هنا ظن الشيخ بأن صادق لا يفقه من المذهب الشيعي شيئاً وأنه مائل للمذهب السني بسبب مراسلاته لشيخ الرياض إلا أن ظنونه خابت وفشلت، إلا أن شيوخ المحكمة أصروا عليه بالإجابة، هنا توقف الشهيد عن الإجابة لما يقارب الـ 15 دقيقة, ليس عجزاً في الرد عليهم ولكن لأمرٍ كان يراه، ليبدأ بعدها بالرد على أسئلتهم بالأدلة والبراهين العلمية والمصادر المعتمدة لدى المذهب السني موضحا أن مذهب أهل البيت عليهم السلام على حق.

 

صمت المشائخ الثلاثة عن الكلام وصادق لا يزال مستمراً في حديثه الاستدلالي فتغير لون الشيخ فؤاد وثارت ثائرته، وسأل صادق: "هل أنت شيخ؟" فأجاب الشهيد مال الله: "أنا شخص عادي ولست شيخا".

 

المكيدة مقابل صلابته في الحق..

خرج القاضي من المكتب ومعه ملف لفترة من الزمن وكتب فيه شيئاً يعقد ملف الشهيد مال الله وتحويله للمباحث العامة بحجة اعتناق المسحية مرة وسب الله والرسول والصحابة مرة أخرى, ثم عاد وأعلن انتهاء الموضوع وأمر صادق أن يعود لبيته برفقة رجال المباحث، ذهب الشهيد مع رجال المباحث إلى سيارتهم وفي أثناء ركوبهم السيارة قال له رجال المباحث : "نريدك أن تدعونا إلى وليمة غذاء في منزلك"، فأجاب الشهيد : "أنا لا أدعوا أناس على شاكلتكم ومشبوهين"، فقال رجال المباحث : "إذاً نحن ندعوك إلى ذلك".

 

 

الاعتقال مجددا ومحاولة تقديم الإغراءات له

فتغير اتجاه السيارة غير الاتجاه التي كانت تسير فيه فحس الشهيد بأن هذه مكيدة مدبرة له, وبالفعل ذهبوا به لسجن مباحث الدمام وأودع السجن للمرة الثانية في العام1987 دون تحقيق ولا حكم.

 

وفي المدة التي عاشها الشهيد في سجن مباحث الدمام تكرر العرض عليه وبإصرار شديد بأن يكون من أحد أتباع المذهب الوهابي وأن يكون إماماً لمسجد ويصلي فيه وسوف يحصل مقابل ذلك على فله سكنية وراتب شهري ما يقارب ستة آلاف ريال وسيارة وغير ذلك من الإغراءات ، وحاولوا إقناعه بذلك لكنه رفض وأصر إصراراً قوياً على إتباع مذهب أهل البيت ( ع ).

 

ستندمون ..

 وبعد المدة التي بقي فيها في سجن مباحث الدمام والتي دامت سنتين نقلوه لسجن مباحث الرياض.. بقي هناك لمدة سنتين كاملتين، وبعد مرور أربع سنوات على سجنه في المعتقل ولم يشمله العفو.. ذات يوم ذهب الشهيد إلى المسؤولين وقال لهم: "سنة وثانية وثالثة ورابعة ولم يأتي العفو عني مع الذين قد شملهم العفو "،  فأخذ يضرب بيده الجدار وبرجله الكرسي وهو يقول لهم: "ستندمون على كل لحظة أعيشها في المعتقل".

 

التعذيب النفسي والجسدي الممنهج ..

كان يمارس على الشهيد ضغوط النفسية والجسدية .. من تلك الضغوط كانوا يضعون أحد السجناء الذي سيفرج عنه مع الشهيد في زنزانة واحدة حتى إذا أتى يوم الإفراج عن ذلك السجين يخرج أمام عين الشهيد.. بينما الشهيد صادق ينظر إلى ذلك السجين يخرج.. وهو باق في الزنزانة.. كان هدفهم من ذلك العمل إثارة الهواجس والأفكار لدى الشاب المعتقل ظلماً حتى يتعذب في داخل نفسه،  بالإضافة لوضعهم  لجسم غريب في جسده وبالخصوص من فتحة الشرج بعد عملية أجروها له، حتى أنه يتأذى من ذلك الجسم أذى شديداً لدرجة أنه إذا دخل للخلاء يبعد ذلك الجسم بواسطة إصبعه.

 

بعد الفشل محاولات لإثبات أنه مجنون..

كما هددوا الشهيد صادق بوضعه في مستشفى المجانين إذا لم يكون من أتباع المذهب الوهابي لكنه رفض مطالبهم ولم يبالي بتهديدهم وبعدها ذهبوا به لمستشفى المجانين لكي يخرجوا له وثيقة تثبت بأنه مجنون لكن الدكتور أثبت بأن الشهيد ليس مجنون لِما شاهده في الشهيد من رجاحة عقله وفكره.

 

شعرتُ بالحياة ..

في السادس والعشرين من شهر مارس1992 أعيد الشهيد صادق لسجن مباحث الدمام وفي أثناء عودته في مطار الرياض, كان قد شاهد الأطفال يلعبون ويمرحون في المطار وبراءة الطفولة بادية على وجوههم, وكان لهذا المنظر تأثيراً على الشهيد فأخذ يمازح الأطفال, وقد قال: "لم أشعر بالحياة إلا حينما رأيت السماء خارج المعتقل والأطفال يلعبون في المطار عند ذلك شعرت بالحياة"، بعد ذلك هيئت السلطات الوضع لإعدام صادق مال الله.

 

بعد فشلهم ..أعدموه!

في الثالث من سبتمبر من عام 1992، أركب الشهيد صادق مال الله السيارة التي ستتوجه به إلى ساحة الإعدام مكبلا بالسلاسل والقيود، تسير المركبة حتى تصل إلى ساحة سوق الخميس بمنطقة القطيف، وعند نزوله من السيارة أخذ يردد الشهادتين ويكثر من قولها.  أجلسوه على الأرض تمهيدا للإعدام أمام الملأ وأخذوا يعرضون تهمته بأنه كافر قد سب الذات الإلهية والرسول والصحابة، ليصرخ الشهيد بالتكبير وينادي بأنه مظلوم.. التكبير الذي هو دلالة واضحة على عمق الإيمان والاعتقاد بوجود الله وأنه أكبر من ظلمكم هكذا أراد الشهيد صادق أن يفضحهم أمام الملأ.. وفورا أنزل السيف على وقع الصراخ على رقبة الشهيد لترتحل روحه إلى السموات العلى عن عمر 25 عام .

 

بيان الداخلية لتضليل الرأي العام..

أما السلطة ماكان منها إلا أن أصدرت بياناً من وزارة داخلية في محاولة  للتضليل وادعت فيه أن "الشهيد صادق عبد الكريم مال الله قد سب الله وسب القرآن وسب رسول ووصفه بأنه كاذب دجال مفتر وأن ما أتى به ظلال وأنه مشعوذ مخادع يستعين بالشيطان… ولأن هذا العمل ليس كمجرد الردة عن الإسلام بل أن هذا جرم وجب القتل ولا يدفع القتل عنه توبة".

 

أبواق السلطة لا تحجب الحقيقة..

وعلى الفور، استنكر الأهالي واستهجنوا من إقدام النظام على إعدام المواطن المظلوم مال الله، بالإضافة لاستنكار المعارضة في الجزيرة العربية حادثة الإعدام والتي اعتبرت أول حادثة في تاريخ المملكة.. حادثة تزيف بهذه التهمة الواضحة الكذب، كما أصدرت لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في الجزيرة العربية كراساً بالمناسبة تحت عنوان "إعدام عقيدة".

 

رحل صادق عن هذه الأرض وغيب جثمانه إمعان في الظلم والحقد, لكن روحه التي فاضت ظلماً لا تزال أكبر شاهد على غياب الضمير والرحمة والعدالة..

أضيف بتاريخ :2016/12/05