آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

رحيل رفسنجاني رجل فلسطين في إيران

 

د. سعيد الشهابي ..

في الأسبوع الماضي رحل رئيس مجلس مصلحة النظام في إيران، آية الله الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني نتيجة إصابته بأزمة قلبية. وبعد يومين شيع إلى مثواه الأخير بجانب قبر الإمام الخميني. وبرحيله خسرت جمهورية إيران الإسلامية وثورتها واحدا من أقوى أعمدتها، ودفع للتساؤلات عن «قادة المستقبل» في هذا البلد الذي يختلف عن بقية دول المنطقة برمزيته الدينية وسياساته المناكفة للنفوذ الغربي في المنطقة ورفضه الاعتراف بالكيان الإسرائيلي.

 

 وبدا الحزن واضحا على قائد الجمهورية، آية الله السيد علي خامنئي، الذي كان الفقيد رفيق دربه، برغم ما اعترى تلك العلاقة من تصدع في السنوات الأخيرة. رفسنجاني دخل ميدان الصراع ضد نظام الشاه منذ أكثر من نصف قرن، وقضى حوالي خمسة أعوام في سجون السافاك، بينما كان يتلقى تعليمه الديني على أيدي فقهاء كبار من بينهم الإمام الخميني.

 

 وبعد سقوط نظام الشاه قام بأدوار عديدة أولها رئاسة البرلمان لدورتين ثم رئاسة الجمهورية لدورتين أيضا، حسب نص دستور الجمهورية الإسلامية التي تحدد رئاسة الشخص بدورتين فقط. وما أكثر ما كتب حول شخصية رفسنجاني، وأدواره العديدة قبل الثورة وخلال الحرب العراقية ـ الإيرانية ودوره في ما سمي قضية «إيران ـ كونترا» في 1985. وكانت الأزمة التي صاحبت الانتخابات الرئاسية في العام 2009 آخر المحطات المهمة في تاريخ الرجل الذي دار اللغط حوله بسبب ما ظهر من انحيازه لتيار الإصلاحيين. وبرغم تداعيات تلك الأزمة فقد استطاع العودة إلى الحياة العامة وكأن شيئا لم يكن.

 

يمكن القول أن من بين السمات المهمة التي كانت جلية في شخصية هذا المسؤول الإيراني الكبير ارتباطه بالقضية الفلسطينية قبل الثورة وبعدها. وهنا من الضرورة بمكان أن يبادر علماء الأمة ومثقفوها لإعادة السجال حول هذه القضية التي ستبقى محورية في حياة أمتي العرب والمسلمين، برغم محاولات تهميشها وإبعادها عن الأضواء والاهتمام الشعبي. رفسنجاني بدأ رحلته بشكل جاد مع هذه القضية في منتصف السبعينات، بعد أن تابعها شابا وقرأ عنها في ما كان متيسرا من مصادر خبرية آنذاك. في تلك الفترة قام بزيارة إلى لبنان والتقى عددا من القيادات الفلسطينية واللاجئين في المخيمات، بالإضافة لعدد من الإيرانيين الذين سبقوه لها، مثل مصطفى جمران الذي أصبح وزيرا للدفاع لاحقا ثم لقي مصرعه على جبهات الحرب. يومها كان الزعيم اللبناني، السيد موسى الصدر قد أسس حركة أمل (أفواج المقاومة اللبنانية) وكان على تواصل مع الفلسطينيين نظرا لتقاطع شؤون الطرفين خصوصا في الجنوب اللبناني. رفسنجاني احتضن القضية خصوصا بعد أن التقى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في بيروت. وكما جاء في كتابه «حياتي» الذي أرخ فيه تاريخه النضالي، فقد أصبح أكثر وعيا للخطر الصهيوني في المنطقة وأعمق شعورا بضرورة اطلاع الرأي العام الإيراني عليها. في تلك الفترة كان نظام الشاه حليفا للكيان الإسرائيلي، يزوده بالنفط ويتيح له فرص الاستثمار والتعامل التجاري. كما كان جهاز الموساد يعمل بنشاط في الساحة الإيرانية، يتابع المعارضين ويثير الفتنة المذهبية بشكل واضح. وكثيرا ما أشار المفكر الإيراني، علي شريعتي، الذي توفي في ظروف غامضة في 1977 إلى دور القوى الغربية خصوصا الإسرائيلية في إثارة الفتنة المذهبية لإلهاء المسلمين عن فلسطين وأشغالهم داخليا.

 

ما بين منتصف الستينات ونهاية السبعينات تصاعد وعي الإيرانيين الوطنيين والثوريين وتضامنهم مع المقاومة الفلسطينية. فحاول عدد كبير من الشباب المنتظمين في مجموعات سرية ثورية أو كأفراد متعاطفين مع الثورة الفلسطينية الذهاب إلى أماكن وجود الفلسطينيين للالتحاق بصفوف المقاومة، وساهم مثقفوهم في تثقيف الرأي العام الإيراني واطلاعه على نضال الشعب الفلسطيني ودعمه إعلامياً وعسكرياً ومادياً وثقافياً. واختلط الدم الإيراني بالدم الفلسطيني حيث عمل وقاتل بعض الإيرانيين إلى جانب الفلسطينيين في الأردن ولبنان. أما داخل إيران فقد أكد أحد رؤساء وزراء الشاه، أسد الله علم، في مذكراته التي نشرت قبل أكثر من 15 عاما المحاولات الكثيفة لكشف علاقة الشاه بالكيان الإسرائيلي ومنها ما يلي: الزيارات السرية التي قام بها مسؤولون إسرائيليون مثل ليفي اشكول وغولدا مائير وإسحاق رابين، والاتفاق على مشروع مشترك لبناء أنبوب نفط بين إيران والإراضي المحتلة، وتكريم رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، دافيد أليعازر، في طهران، ومنح ميدالية التارج لممثل «إسرائيل» في إيران المدعو «عزري». وفي أيلول/ سبتمبر 1969 دوت الشعارات المنددة بـ»إسرائيل» أثناء مباراة بين الفريقين الإيراني والإسرائيلي. وخرجوا بعدها في شكل تظاهرة نادرة في إيران الشاه. وبعد سقوط الشاه كان الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية عارما، فتم إغلاق السفارة الإسرائيلية واستبدالها بسفارة منظمة التحرير الفلسطينية.

 

رفسنجاني كان سياسيا من نمط خاص. في البداية رأى أن مهمته تتطلب بث الوعي في المجتمع الإيراني تجاه القضية الفلسطينية. واعتبر أن الأهم بث ذلك الوعي في الأوساط الدينية خصوصا بين الفقهاء في مدينة قم. وكان متأثرا بمواقف الإمام الخميني الذي التفت لقضية الفلسطينية مبكرا، وبدأ في الستينات بإصدار البيانات والمواقف حول القضية. فاصدر نشرة للتوعية تناول فيها الحركات التحررية خصوصا الفلسطينية، وبثها في أوساط العلماء، الأمر الذي أدى تدريجيا إلى تصاعد اهتمامهم بتلك القضية. كان يعتقد أن فلسطين يجب أن تحظى باهتمام القادة الدينيين القادرين على توجيه الجماهير نحوها وتعبئة طاقاتهم لدعم نضال شعبها. وكان يرى أن جهاز الموساد كان وراء الكثير من خطط تمزيق الأمة لمنع التلاحم بين الشعب الإيراني مع الشعوب العربية وحرمان القضية الفلسطينية من وحدة مواقف المسلمين وتصديهم بشكل جماعي للاحتلال. وفي العام 1965 ترجم كتابا عن تاريخ فلسطين للسياسي الأردني (من أصل فلسطيني) أكرم زعيتر وعنوانه: «القضية الفلسطينية» إلى الفارسية، طبع سنة 1955 وترجمه موسى خوري إلى الإنكليزية سنة 1958. وقد اعتقل رفسنجاني بسبب ذلك ولكنه بقي مناصرا للقضية الفلسطينية قبل الثورة. وما أن سقط نظام الشاه في العام 1979 حتى كان ياسر عرفات أول من استقبل في طهران. وتظهر صور تلك الزيارة الزعيم الفلسطيني محاطا بالمسؤولين الإيرانيين خصوصا الشيخ رفسنجاني. ولم يعد خافيا أن السياسة الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية، التي ساهم رفسنجاني في بلورتها من أهم أسباب القطيعة بين الدول الغربية وإيران، ولولا تلك السياسة لما استهدف المشروع النووي الإيراني بالطريقة التي حدثت.

 

وفي مقابلة مع وكالة أنباء تسنيم في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 قال آية الله رفسنجاني إن تاريخ قيام كيان الاحتلال الصهيوني يدعو للتأمل والاعتبار، وقال: «إن المستعمرين الغربيين ومن أجل أن يريحوا أنفسهم إزاء اليهود، قد رموا نار هذه الفتنة في أحضان المسلمين، للإبقاء علي اليهود وهم في منتهى الراحة». ووصف أية الله رفسنجاني «عصبة الأمم» سابقا ومنظمة «الأمم المتحدة» حاليا بأنهما أداة قانونية لممارسة الظلم ضد الشعب الفلسطيني، وقال: رغم أن أحد مندوبي الأمم المتحدة قتل في طريق العدالة وفي الدفاع عن الشعب الفلسطيني من قبل فرق الاغتيال الصهيونية إلا أنه جعل بريطانيا وصية على فلسطين، كانت البداية لجريمة تاريخية مازالت مستمرة في الأراضي المحتل». لقد كان رفسنجاني «فلسطينيا» في هواه وتوجهاته وسياساته. وتناغم في ذلك مع بقية رموز الثورة الذين لم يتأرجحوا في مواقفهم إزاءها، بل ما تزال إيران لا ترفض الاعتراف بـ «إسرائيل» أو ترفض إقامة العلاقات معها فحسب، بل أنها لا تخفي أملها في زوال دولتها. الخطاب الإيراني قد يبدو غريبا في عالم تحكمه أنظمة الهيمنة الغربية وحكومات الاستبداد العربية، ولكن هناك من رمز التحرر الوطني من يهتف باسم فلسطين وحريتها. ففي الأسبوع الماضي طلب السيد جاكوب زوما (رئيس جنوب أفريقيا) من مواطنيه عدم زيارة «إسرائيل» وذلك لكي يظهروا التضامن مع الفلسطينيين. كان رفسنجاني مناضلا حقيقيا من أجل فلسطين، فيما لاذ الكثيرون بالاستسلام للمحتلين بدون خشية أو خجل. أما حان الوقت لصحوة ضميرية تحرر الأقصى وتضفي على القدس جمالها وجلالها كعاصمة للأديان جميعا؟

 

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/01/16

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد