آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

القوة العسكرية المفرطة لا تحقق النصر بل الدمار


د. سعيد الشهابي ..

بعد ستة أعوام على انطلاق ثورات الربيع العربي ما يزال السجال الموضوعي المحايد حولها من حيث الأسباب والمآلات غائبا، الأمر الذي يعني أن دروسها لم تستوعب بعد. كما يعني أن حدوث حراكات مشابهة ليس مستبعدا. فالثورات لا تحدث تباعا بل تفصل بينها حقب تتفاعل الظروف فيها لتتهيأ الأسباب وتظهر أجيال جديدة تحمل لواء التغيير مجددا. وبرغم اختلاف ظروف كل من تلك الثورات فأن الرغبة في تغيير الأوضاع السياسية في بلدانها كان الإطار المشترك لها جميعا. فهي لم تكون ثورات من أجل الخبز أو الاحتجاج على سياسة هذا الوزير أم ذاك، بل كانت صرخة مدوية في ليل دامس تهدف لكسر الجمود في الساحة العربية لتستعيد الشعوب كرامتها المسلوبة، وتجمع شتاتها لتحقيق الذات القادرة على خوض معركة تحرير الأرض المحتلة وإنهاء الهيمنة الأجنبية على مقدرات الأمة. فمن أصعب الأمور استعباد البشر إلى الأبد أو تحويلهم إلى دمى جامدة أو أرقام لا يربطها رابط.

وقد أثبتت تجارب القرن الماضي هذه الحقيقة. فعندما رفع الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر شعار العروبة ولم شمل العرب على أساس قومي، كان لدعوته صدى في شرق العالم العربي وغربه. وعندما كانت القيادات الفلسطينية قادرة على رفع شعار التحرير واستنهضت الأمة لدعم قضية فلسطين وجدت أصداء واسعة في نفوس الجماهير العربية. ومن الخطأ بمكان الاعتقاد بإمكان قتل الشعوب أو القضاء على هويتها أو احتواء مشاعرها. فقد تصاب هذه الشعوب بالفتور والسلبية تحت ضغط الظروف التي تعيشها، ولكنها كالأرض التي يعيد الماء لها الحياة فتنبت أشجارها وورودها.

الثورات العربية استهدفت بأساليب متعددة، فمنها ما أجهض بإبعاد رئيس بلادها عن الهرم السياسي مع الحفاظ على النظام لتعود «الدولة العميقة» لاحقا وتحكم قبضتها على الأمور، ومنها ما تم تحويل مجراه نحو العنف الذي هو في جوهره مضاد لمشروع التغيير الثوري الذي عادة ما يكون سلميا، ومنها ما تم تجاوزه بافتعال الأزمات الداخلية التي أدت إلى حروب أهلية مدمرة، ومنها ما استهدف بالقوة لكسر شوكة أبنائه. وفي مثل هذه الأيام قبل ستة أعوام كانت ثورة شعب البحرين على موعد مع إجراء صارم اشتركت فيه قوى عديدة بهدف إنهاء حراكها السلمي وقطع الطريق على مطالب التغيير. وتختزن الذاكرة ما حدث في الساعات الأولى من اليوم الرابع عشر من آذار/مارس 2011 عندما عبرت القوات السعودية والإماراتية الجسر الواصل بين البلدين لتساهم في التصدي للحراك الشعبي الذي كان يتوسع يوميا. وفي غضون أيام معدودة استهدف دوار اللؤلؤة الذي كان المحتجون يرابطون فيه (على غرار ميدان التحرير في مصر) وقتل العديد من المواطنين. ثم عمدت السلطات لإزالة نصب اللؤلؤة بأضلاعه الستة التي تمثل الدول الست الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي. واستهدف المتظاهرون في مناطق عديدة بالذخيرة الحية، وتواصل سقوط الضحايا تباعا. وتزامن مع ذلك حملة اعتقالات واسعة استهدفت رموز الثورة وقادتها، وفي غضون أيام كانت السجون تزدحم بنازليها في أوسع حملة أمنية شهدتها البلاد في تاريخها المعاصر.

كان دخول القوات السعودية بعنوان «الأمن الخليجي المشترك» الذي ينص على توفير الدعم العسكري لأي من دول مجلس التعاون عندما تتعرض لعدوان خارجي. وبرغم عدم وجود أدلة على تدخل خارجي يبرر التدخل السعودي فقد اعتبر ذلك التدخل استجابة لذلك الاتفاق، الأمر الذي زاد من تعقيدات القضية. وفي ما عدا دولة الأمارات والسعودية لم تبعث أي من دول مجلس التعاون الأخرى قوات برية. فقد امتنعت كل من سلطنة عمان ودولة قطر عن المشاركة بينما اكتفت الكويت بإرساله قطع بحرية لـ «منع أي تسلل من الخارج». وبرر ذلك التدخل بأنه من أجل «حماية المنشآت الحيوية» وليس للمشاركة في القمع الداخلي. أيًا كان الأمر فقد أصبح للتدخل العسكري السعودي والإماراتي تبعات أمنية وسياسية خصوصا أن ذلك التدخل لم يؤد إلى وقف الاحتجاجات يوما. ولذلك بادرت الحكومة لاستقدام المزيد من القوات الباكستانية حتى بلغ عددها 30 ألفا. ثم استقدمت فرقا من قوات الدرك الأردني الذي شارك في السيطرة على سجن «جو» الذي شهد قبل عام موجة احتجاجات واسعة من قبل المعتقلين.

التدخل العسكري السعودي للمشاركة في إنهاء الحراك الشعبي في البحرين كان بالون اختبار للإرادة الدولية، وما إذا كان هناك استعداد لقبوله بما له من تبعات، خصوصا إذا كان الحراك الذي تستهدفه داخليا وسلميا. فإذا كانت التدخلات العسكرية الأجنبية في الدول العربية الأخرى مثار لغط متواصل ومصدر توتر أمني وسياسي لم يتوقف، فأن من المنطقي طرح التساؤلات عن مدى شرعية التصدي المسلح للاحتجاجات التي تنطلق بين الحين والآخر داخل الدول التي تطالب شعوبها بإصلاحات سياسية. وفي الحالة البحرانية فأن هذه الحراكات ليست جديدة بل تعود إلى قرابة المائة عام عندما بدأت في العام 1922 مطالبة بالمساواة بين المواطنين خصوصا في مجال التمثيل في المجالس التي كانت آنذاك تشارك في إدارة البلاد كالمجلس العرفي ومجلس التجارة ومجلس المعارف وسواها. كان التدخل السعودي العسكري المباشر بالونة اختبار لفحص مدى تحمل المجتمع الدولي لتحريك الأوضاع الراهنة وتجاوز الحدود الدولية بعناوين شتى. فإذا كان مثل هذا التدخل مقبولا فلماذا شنت الحرب على العراق عندما اخترقت قواته الحدود ودخلت الكويت في 2 آب/أغسطس 1990؟ يومها تم حشد تحالف دولي خاض أكبر حرب تكنولوجية في التاريخ الحديث وارتكب فظاعات آخرها ما حدث بمنطقة «المطلاع» الكويتية عندما حصدت طائرات «أباتشي» الأمريكية أرواح عشرات الآلاف من الجنود العراقيين المنسحبين.

وهنا تطرح التساؤلات حول قضايا «الشرعية» و «الحرب العادلة» و «حق تقرير المصير». ولا تنفصل هذه التساؤلات عن الحالة الفلسطينية التي تستعصي على الحل بسبب التشبث بمنطق القوة والاحتلال، ويتم تجاوز القيم الإنسانية الأخرى التي يتشبث بها أهل الأرض. وهنا تبرز واحدة من أهم مشاكل العالم المعاصر، متمثلة بسيادة منطق القوة وأن ذلك المنطق له الحاكمية على بقية المفردات مثل «الحق الطبيعي» و «حق تقرير المصير» ورفض الاحتلال وسواها.

ولعل الأخطر في سياق الحديث عن الربيع العربي ومآلاته بروز ظاهرة التطبيع مع قوات الاحتلال الإسرائيلية، وهي الظاهرة التي طالما رفضها داعمو الشعب الفلسطيني واعتبروها «خطا أحمر». ولتجاوز ذلك يتم تطبيع الشعوب العربية على التعاطي مع قوات الاحتلال باستيراد صادراتهم والاستعانة بقواتهم الأمنية وافتعال قضايا جديدة أقل أهمية لإبعاد الأضواء عن فلسطين التي تئن تحت وطأة الاحتلال. ولقد أصبح واضحا أن الإسرائيليين لن يكتفوا بما تحت أيديهم من الأراضي الفلسطينية، بل أصبحوا يقضمون يوميا أجزاء من الضفة الغربية وقد تدفعهم وقاحتهم لاستهداف قطاع غزة والقضاء على جبهة المقاومة المتمثلة بشكل أساسي بحركتي حماس والجهاد الإسلامي. والأخطر من ذلك إعادة توجيه بوصلة الموقف الدولي بعيدا عن مشروع الدولتين لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة. وهذا ما أشار إليه الرئيس الأمريكي الذي رفض ضمنا مشروع إقامة دولة فلسطينية، وشجع حكومة نتنياهو على الاستمرار ببناء المستوطنات. البعد الإسرائيلي أصبح عاملا مهما في الصراع من اجل الحرية في العالم العربي. فالمحتلون يرون في تلك الحرية خطرا على وجودهم لأنها تعيد للشعوب قوتها وموقعها وتدفعها للتضامن العملي مع الشعب الفلسطيني الذي صمد متصديا للاحتلال قرابة السبعين عاما.

ماذا يعني ذلك؟ من الناحية العملية أصبح مصير الشعوب العربية مرتبطا من الناحية العملية بالشعب الفلسطيني، لأن الإسرائيليين انحازوا إلى الاستبداد وتحالفوا معه في الحرب ضد الشعوب المطالبة بالحرية وحق تقرير المصير. كما أصبحوا جزءا من «قوى الثورة المضادة» التي شنت حربا شعواء على الربيع العربي وقمعت الشعوب بلا هوادة. هذه الحقائق لها دلالات أهمها أن الصراع من أجل الحرية متواصل في البلدان العربية على كافة الصعدان، وأن التدخلات الأمنية والعسكرية لا تقضي على حركات الشعوب وسعيها للبحث عن مستقبل أفضل في ظل أنظمة سياسية تختارها بنفسها وتحدد مساراتها وسياساتها ضمن دساتير عصرية تنظم المسارات السياسية داخل فلسطين وفي العالم العربي المحيط.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/03/14

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد