آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

من هو الصديق ومن هو العدو؟


د. سعيد الشهابي

في عالم محكوم بالظلم والقوة المادية المفرطة تفقد الأخلاق والقيم والقانون الدور الذي يساهم في إقامة العدل بين البشر. هذه ليست ظاهرة جديدة، بل سادت خلال التاريخ البشري. الجديد في الأمر ترويج مقولات «التحضر» و «التمدن» من جهة، بالإضافة لما يقال عن وجود آليات دولية لمنع حدوث الحرب إلا بموافقة المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. فإذا حدثت الحرب فيفترض أن هناك من المواثيق والقوانين التي شرعتها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ما يمنع حدوث التجاوزات. بل أن هذه القوانين تنص على اعتبار جرائم الحرب اعتداء على الإنسانية.

وعلى غرار محاكمات «نورومبرغ» التي أقيمت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة القادة الألمان بارتكاب جرائم حرب، أقيمت محاكم أخرى مثل «محكمة الحرب اليوغسلافية»، و «محكمة الحرب لرواندا» وسواهما. ظاهر هذه المحاكم معاقبة مرتكبي جرائم الحرب ومنها استهداف المدنيين والأطفال والنساء وتدمير المنشآت المدنية واستخدام الأسلحة المحرمة مثل الأسلحة الكيماوية والجرثومية. ولكن هل تطورت مجريات الحروب حقا؟ أم أن العالم أصبح تحت رحمة القوى العظمى التي كثيرا ما كانت هي القاضي والخصم في الوقت نفسه؟ ومع «تطور» العالم» وضع المزيد من آليات المحاسبة والرقابة، وآخرها المحكمة الجنائية الدولية التي يفترض امتلاكها صلاحية النظر في قضايا جرائم الحرب والإبادة الجماعية. هذه «الانجازات» تضاف إلى سلسلة أخرى مماثلة من الإجراءات، ومنها منظومة حقوق الإنسان ومواثيق جنيف لتنظيم الحروب. ونشأت منظمات بصلاحيات محدودة مثل الصليب الأحمر ومنظمات المجتمع المدني الأخرى المعنية بحقوق الإنسان.
هل تطورت الأوضاع حقا؟ هل ان الحروب التي نشأت على مدى السبعين عاما الأخيرة كانت نظيفة ومنسجمة مع القوانين الدولية؟ هل استمدت تلك الحروب شرعية من المجتمع الدولي؟ وهل كان لمجلس الأمن دور سواء في انطلاقها أم وقفها؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحرب العالمية الثانية لم تنته إلا بعد استخدام القنبلة النووية التي حولت مدينتي هيروشيما وناغاساكي إلى ركام نووي ما تزال آثاره ملحوظة حتى اليوم. وما تزال مدينة «درزدن» الألمانية تشهد على ما تعرضت له من قصف بريطاني أدى لقتل أكثر من 100000 إنسان في ليلة واحدة. وبعد تلك الحرب المدمرة كانت الحرب الكورية في مطلع الخمسينيات من النزاعات المسلحة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ارتكب فيها الكثير من جرائم الحرب منها قيام وحدة برية وطائرات عسكرية أمريكية بقتل ما بين 300 إلى 400 مدني في الأيام ما بين 26 إلى 29 تموز/يوليو 1950. أغلبهم نساء وأطفال وشيوخ في قرية نوجن-ري بكوريا الجنوبية. ولم يتم التعرف على أغلب القتلى والمفقودين حتى اليوم.. وتختزن ذاكرة الكثيرين من المتقدمين في العمر مشاهد الحرب الأمريكية في فيتنام، وتستحضر مشاهد ضحايا قنابل النابالم والتدمير الكاسح وتوالت الحروب تباعا بدون أن يكون للمؤسسات الدولية الكبرى مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة دور في إدارتها أو تنظيمها أو وقفها. فالحروب الإسرائيلية على العرب كانت بشعة، وقتل الأسرى المصريين لدى الإسرائيليين بعد انتهاء عدوان 1967 ليس إلا واحدة من جرائم الحرب التي ارتكبت بدون أن يكون هناك من تعرض للمساءلة أو المحاكمة. وتعايش «العالم الحر» مع الحرب العراقية ـ الإيرانية ثمانية أعوام متواصلة، ولم تتم مساءلة احد عن استخدام الأسلحة الكيماوية واستهداف المدن وقتل المدنيين. أما الحرب الانكلو ـ أمريكية على القوات العراقية في الكويت فسجلت جرائم بشعة لم يعاقب احد بسببها. فقد حصدت طائرات «أباتشي» الأمريكية أرواح آلاف الجنود العراقيين بمنطقة المطلاع وهم ينسحبون من الكويت إلى العراق، في واحدة من أبشع جرائم الحرب التي لم يتوقف «العالم المتحضر» عندها، ولم يحاسب احد عنها. ساهم ذلك التجاهل في تشجيع الأمريكيين على الاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب في الحرب الانكلو ـ أمريكية على العراق في 2003، وهي حرب لم تكون مدعومة بقرار دولي. وشهدت تلك الحرب تدميرا واسعا وجرائم لا تحصى. وما استهداف ملجأ «العامرية» في بغداد وحصد أرواح المئات من اللاجئين فيه إلا واحدة من جرائم الحرب التي ارتكبت آنذاك.

الأمر الذي يبعث على الإحباط واليأس من جدوى ما يقال عن «التطور المدني» على الصعيد الدولي عدم وجود مواقف دولية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب إلا إذا كانوا من الطرف الآخر غير المتحالف مع الولايات المتحدة. ولذلك حين يتحدث المسؤولون الأمريكيون عن جرائم الحرب ويبالغون في إثارة الإبعاد الأخلاقية والقيمية والقانونية، فأنهم يمارسون أبشع أشكال النفاق. لماذا يرفضون الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية والتصديق على بروتوكولات روما؟ لماذا يرفضون مساءلة جنودهم ومسؤوليهم أمام القضاء الدولي؟ لماذا يستخدمون الفيتو ضد أي قرار دولي يهدف لمحاسبة الإسرائيليين عن الجرائم التي يرتكبونها بشكل متواصل بحق الفلسطينيين واللبنانيين ( كما حدث في قانا)؟

وزير الدفاع الأمريكي، جيم ماتيس، زار السعودية الأسبوع الماضي. لماذا؟ لأنه يريد تسويق المزيد من الأسلحة لدول الخليج. ولذلك تتواصل الحرب في اليمن والأزمات في سوريا والعراق وليبيا لان هدوء أوضاع المنطقة يضعف تجارة السلاح. الأمريكيون ليسوا أصدقاء للعرب والمسلمين، بل يؤسسون سياساتهم وفق المصالح التجارية والعسكرية. فحين يزورون السعودية لا بد أن يستهدفوا إيران ويبالغوا في خطرها العسكري على المنطقة، الهدف توفير ظروف عقد صفقات السلاح وتهيئة المناخ لتوترات داخلية بين دول المسلمين، تؤدي إلى الحرب وسفك الدماء. وحين طرح عدد من أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي انزعاجهم من ترويج تجارة السلاح الذي يعتبر وقودا للحرب في اليمن، أعلن ماتيس انه سيضغط من أجل تقليص إصابة الأهداف المدنية. ويتجلى النفاق بشكل أوضح حين يقول أن حرب اليمن يجب أن تحل بحوار سياسي وليس بالحرب قائلا: إن هدفنا هو أن يتم تسليم هذه الأزمة إلى فريق من المفاوضين تحت رعاية الأمم المتحدة لإيجاد حل سياسي في أقرب وقت ممكن”. ولكنه في الوقت نفسه يتعهد بتقديم الدعم العسكري والإستخباراتي لأحد طرفي النزاع. فهل هذا هو الطريق للحل السياسي؟ وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بقصف الأهداف الجوية من البحر وأن الطيران الحربي سيوقف غاراته لتصبح المهمة بيد البوارج الحربية الأمريكية.

الأمر المؤكد أن كلا من واشنطن ولندن تنظران لمنطقة الشرق الأوسط من زوايا عديدة، وتسعيان لهندسة سياستيهما بما يترك الباب مفتوحا لتدخلاتهما أما مباشرة أو من خلال بيع السلاح. ويوما بعد آخر تتحول المنطقة إلى بؤرة صراع على المصالح بين كل من أمريكا (ومعها بريطانيا) وروسيا، ومع أن ذلك ليس جديدا ولكن الجديد أن هذا التنافس أصبح يتخذ أشكالا خطيرة في مقدمتها افتعال الحروب التي تستعصي على التوقف وتستخدم للتدخلات العسكرية المباشرة بوتائر غير مسبوقة. وهذا يعني منع العودة إلى الحياة المدنية الطبيعية المحكومة بالاستقرار والتنمية. الأمر المؤكد أن شعوب المنطقة تعيش حالة من التوتر والإحباط. وهذا واضح من استعداد شبابها للاستجابة لدعوات التطرف والانخراط في مسلسلات الموت والتدمير. وبدلا من التعاطي مع هذه الظواهر من منطلقات الحب والدين والدوافع الإنسانية، أصبحت المنطقات مصلحية أو فئوية أو جاهلية. وبدلا من احتواء هذه الظواهر ازدادت توسعا وخطرا. ومن أهم نتائج ذلك تراجع دور العقل والمنطق في هذه الصراعات المفتعلة، وتغول مشاعر الرغبة في الغلبة والتخندق الفئوي والديني والمذهبي، وتهميش أسباب الأخوة وأواصر الحب والاحترام المتبادل والحرص على التعايش السلمي.


جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/04/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد