آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

الصين والاحتكار العسكري


عامر محسن

يكتب سمير أمين أن المعسكر الغربي قد خسر، منذ عقود، تقسيمة دول صناعية\ دول غير صناعية التي كانت تتيح له تفوّقاً مستداماً (في الانتاج والانتاجية، والقدرة العسكرية، ومعادلة الاستيراد والتصدير) على الجنوب العالمي. بمعنى آخر، أصبحت الكثير من دول العالم الثالث دولاً «صناعيّة»، تنتج المواد ذاتها التي كان يحتكرها الغرب في المرحلة الاستعمارية، أو هي قادرة ــــ ضمن خطّة تنمية وطنية ــــ على امتلاك هذه الأدوات.

لم تعد دولٌ غربية قليلة تمثّل أكثر من 80% من الاقتصاد العالمي. حتى الميزان الديمغرافي على مستوى الكوكب قد مال بشكلٍ أكبر بكثير الى غير صالحها (يشرح أمين أنّ شعوب الجنوب التي خرجت من عهد الاستعمار مثلنا هي، في نهاية الأمر، من «الناجين»، إذ ترافقت مرحلة التوسّع الأوروبي مع إبادات لأقوامٍ كثيرة في أميركا واستراليا وآسيا وأفريقيا، حتّى أنّ نسبة الغربيين البيض من سكّان الكوكب كانت ترتفع باضطراد في تلك الحقبة، قبل أن تنعكس الآية في القرن الماضي). بالمعنى العملي: لو أنّ الحصار الاقتصادي الأخير على إيران قد جرى في مرحلة الخمسينيات، حين كانت أوروبا الغربية واليابان تمثّلان ــــ وحدهما ــــ أكثر من 90% من سوق النفط العالمي، لتكرّر سيناريو مصدّق، ولما تمكّنت طهران من بيع برميل نفطٍ واحد، فالأعداء وحدهم من يشتري، والفقراء لم يكن لهم «سوق». هنا، السّياق التاريخي صنع الفارق: لو جاء مصدّق بعد عشرين عاماً لكان مصيره مختلفاً، ولكن سنة 1953 كانت زمناً مبكراً لتحدّي المنظومة العالمية.

في مواجهة هذا الواقع الجديد وتراجع «الامتياز الامبريالي»، يقول سمير أمين، ترتكز الهيمنة الغربية في عالم اليوم على «احتكاراتٍ» محدّدة («الاحتكارات الخمسة»)، هي التي تؤمّن لها التفوّق والامتياز الاقتصادي، وتجعل دخل المواطن في فرنسا ــــ للعمل نفسه ــــ أكثر من دخل نظيره في الهند بأضعاف، وحياته قيمتها أكبر، وله «حقوق» وكرامة. من بين هذه «الاحتكارات» احتكار التكنولوجيا الفائقة، احتكار النظام النقدي الدولي وعملية وضع قواعده، واحتكار أسلحة الدمار الشامل (ويضيف أمين أنّ أكثر هذه الاحتكارات يجري كسرها هي الأخرى، تدريجياً، في دول الجنوب). التفوّق العسكري هنا ليس تفصيلياً، من قدرة أميركا (التي أثبتتها خلال التسعينيات) على ضرب أيّ بلدٍ في العالم، وصولاً إلى امتلاك القوة البحرية التي تؤهّلك لـ«حراسة» الطرق التجارية والمعابر الإستراتيجية وناقلات النّفط، وخلق شبكةٍ منيعة تصل بين قواعد واشنطن حول الكرة الأرضية (البحريّة لا تزال، بالمعنى الاستراتيجي، السلاح الأهمّ، فأنت لن تهيمن على العالم من قاعدةٍ جويّة).

المسافة هنا بين «الحراسة» و«وضع اليد» لغويّة بالكامل. أذكر أنّ أميركياً كان مستشاراً في العلاقات الدولية لحملة هيلاري كلينتون الأولى (الفاشلة) قد اشتكى لي من أنّ أميركا تدفع كلفة هذا الأسطول الهائل، و«تؤمّن» شرايين التجارة العالمية بسبب سيطرتها على البحار السّبعة، ولا أحد يدفع لها «مقابلاً» عن هذه الهيمنة. كان الرّجل، من دون قصد، يستخدم منطقاً «ترامبياً» قبل أن يظهر دونالد ترامب في السّياسة، وهو الذي طالما دعا إلى جعل الحلفاء يدفعون «مقابلاً» (خوّة؟) يساعد أميركا على تحمّل كلفة الأمبراطورية. قد يبدو هذا الخطاب سخيفاً أو مدعاةً للسخرية بين النخب الغربية، ولكنّه يعبّر ــــ بجلافة ووضوح ــــ عن منطقٍ متماسك، ينطلق من واقع العالم اليوم وتراتبية القوّة فيه. ترامب يتوجّه تحديداً إلى «الحلقة الأعلى» في النظام العالمي، أوروبا الغربية واليابان والخليج وكوريا، الحكومات التي «تستفيد» من العائدات الامبريالية وتساهم في حكم العالم. دونالد ترامب يقول لهم «رخاؤكم وامتيازاتكم في أوروبا تدين إلى النّظام الذي أحرسه، آل سعود وباقي سلالات الخليج تلعب بالأموال واليخوت لأنني نصّبتهم وأحميهم، وأكثركم لا يتكلّف ميزانيات دفاع حقيقية لأنّه يعتمد على جيشنا. لذا، لا تتظاهروا بأننا في سوقٍ حرّة ولا دخل لأحدنا بالآخر في مجال التجارة والتنافس؛ حين تواجه أميركا صعوبات ماليّة ونطلب منكم الدّفع ستدفعون». العقاب المُضمر، بالطبع، هو أن تخرج من حلقة «الشركاء» وتخسر المظلة الامبريالية، وهذا لا يعني سوى المتاعب والمشاكل والانحدار. توجد هنا فرصةٌ واضحة لفرض خوّة، وترامب يعرف بداهةً ــــ كأيّ تاجرٍ أو مؤرّخ ــــ أنّه لم يحصل أن وجد أحدهم في التّاريخ نفسه في موقع فرض خوّةٍ على الآخرين (لا يهمّ أن كان «دولة حارسة» أو رجل مافيا) واستنكف عن ذلك.

الغرب والأعداء

حين نراقب بناء الجيش الصيني «الجديد» يجب أن نفهم، بدايةً، أن أكثر السيناريوات التي يقارن الإعلام الغربي فيها بين أميركا والصّين عسكرياً (وهي دوماً على شاكلة حربٍ ومواجهة في بحر الصين الجنوبي، أو حربٍ على تايوان، الخ) لا تعكس حقيقة التّنافس بين القوّتين، وهي مكتوبةٌ أساساً لأهدافٍ دعائية خارجياً وداخلياً ــــ يوجد تقليدٌ قديم في المؤسسة الأميركية بتخيّل حروبٍ طاحنة والتخويف من قوّة العدو «المتنامية» بغية استجلاب التمويل من الكونغرس وخلق جوٍّ شعبيّ يشعر بالتهديد، ويوافق على أي زيادات في الإنفاق العسكري الأميركي (في زمنٍ مضى، كان الإعلام الأميركي يخيف المواطنين ــــ بجديّة ــــ من ليبيا و«تهديدها» على الوطن الأميركي). المسألة هي أنّ أكثر هذه السيناريوات التي يتمّ تخيّلها والتحذير منها، مع تصاعد القوة العسكرية الصينية، لن تحصل تحديداً لهذا السّبب، أي لأنّ الصّين بدأت تمتلك قوّة رادعة ولن تحتاج للحرب، ولا أميركا ستدخل معها في مواجهة. كما ذكرنا في السّابق، حين يكون ثمن حربٍ في بحر الصّين خسارة حاملات طائراتٍ وسفنٍ كبيرة، فإنّ أميركا ببساطةٍ لن تخاطر بذلك لحماية تايوان أو حتّى الكيان الصهيوني؛ وحين لا يعود في قدرة أميركا خوض حربٍ «عن بعد»، تضرب فيها برّ الصّين وهي في أمانٍ نسبيّ، بل هي تعرف أنّه، مهما حصل، فإنّ بيجينغ ستكون قادرة على توجيه مئات الضربات ــــ عبر غوّاصات وصواريخ بالستية وأخرى جوّالة ووسائط كثيرة ــــ إلى أيّ موقعٍ تشاء في العمق الأميركي، لا تعود الحرب مغامرة استعمارية محدودة العواقب. حتّى سيناريو «الحرب النووية المقبولة التكلفة» التي راجت بين أوساط أميركية في الماضي، وهي تلوح من جديد مع مواجهة الأمبراطورية لـ«صعوبات»، لم تعد ممكنة. مفاد النّظريّة أن تقبل الولايات المتّحدة بخوض حربٍ يمكن أن تتحوّل إلى نووية ضدّ خصمٍ يمتلك بضع قنابل، وصواريخ قليلة، باعتبار أنّ الخصم على الأرجح لن يستخدم هذه الأسلحة ولو فعل فإنّه لن يطال أميركا إلّا بشكلٍ محدود، يمكن للبلد التعافي منه، فيما تتمّ إبادته بالمقابل. هذا السيناريو كان ينطبق على الصين إلى عهدٍ قريب، ولكنّه ولّى. أصبحت هذه شروط المواجهة مع كوريا، فيما الصّين تملك أعداداً كبيرة من القنابل النووية، لا يعرف أحدٌ مقداره، و«تشكيلة» واسعة من الوسائط لإيصالها إلى عشرات الأهداف في أميركا. ما تسعى دولٌ مثل الصّين تجاهه هو تحديداً هذه «المناعة»، وواشنطن تريد إبطالها، وليس هدف بيجينغ أن تصمد في حربٍ أمام الأسطول الأميركي في مضيق تايوان، بل أن تثبت أن في استطاعتها ذلك، فتستنكف واشنطن عن الحرب وقد خسرت قدرتها على فرض «الخوة» والابتزاز عبر التفوّق العسكري.

في موضوع الإعلام الغربي والنظرة إلى الدّول «المنافسة». أصدرت استخبارات الدفاع الأميركية مؤخّراً «القوّة العسكرية الروسية» وأتاحته للعموم، وهو استنساخ لتجربة التقرير السنوي «القوة العسكرية السوفياتية» الذي كانت تصدره الوكالة في الثمانينيات، وله قصّة تستحقّ أن تروى. حين أفرجت الاستخبارات العسكرية عن تقريرها العسكري الأوّل، عام 1981، لاقى نجاحاً وانتشاراً هائلين: وكالة إستخبارية عليا تقدّم للعموم كلّ ما تعرفه عن الجيش السوفياتي! لم يكن هناك وجودٌ لهذه الأرقام والاحصائيات يومها، وقد كُتب التقرير (على عكس نسخته الجديدة) بطريقة جذّابة وممتعة: كان مليئاً بالصّور والجداول والخرائط، والمقارنات بين قوى «ناتو» و«وارسو» في كلّ مجال، و«غرافيكس» ورسوم ملوّنة مدهشة (المسألة على ما يبدو هي أنّ صور الاستخبارات الأميركية عن المعدّات السوفياتية الحديثة كانت تأتي عن طريق التجسّس، وهم لا يريدون نشر هذه الصّور بصيغتها الأصلية في دوائرهم مع احتمال الكشف عن مصدرها، فاكترى الجيش الأميركي ــــ منذ الستينيات ــــ مجموعةً من الفنانين لترسم هذه الأسلحة بأوضاعٍ مختلفة، وبطريقة وفيّة للأصل، فخرجت أعمال فنيّة دقيقة وجميلة للطائرات والصواريخ والسفن السوفياتية، كانت تزيّن صفحات التقرير السّنوي). التقرير كان، بالطبع، عمليّة مخابراتية نجحت بهدفها المزدوج: جعلت العالم يعتمد عليها في استحصال المعلومات عن الجيش السوفياتي (حتّى داخل روسيا نفسها) ويراه كما تريده المخابرات الأميركية أن يراه، وخلق موجة رعبٍ في الأوساط الأميركية من الجيش الأحمر وسلاحه المتقدّم، سهّلت عملية التوسّع العسكري خلال إدارة ريغان.

النّوع والكمّ معاً

تضجّ الدوريات الأميركية العسكرية هذه الأيّام بأخبار الجيش الصيني، وآخرها تدشين أوّل مدمّرة من طراز «تايب 055»، التي عنون مقالٌ في «بوبيلار ساينس» واصفاً إياها بـ«أكبر بارجة مقاتلة في آسيا منذ الحرب العالمية الثانية». تشرح التقارير كيف أنّ المدمّرة تفوق ــــ وزناً وأداءً ــــ أيّ مدمّرة أميركية أو غربيّة (أقرب سفينة إليها، تقول المجلّة أعلاه، هي المدمّرة الكورية «سيونغ العظيم»)، وفيها أربعة رادارات من أحدث طراز، وتقدر على تغطية مساحة مليون كيلومتر من حولها، وتحمل مئات الصواريخ في خزاناتها الحديثة، من صواريخ دفاع جوي إلى صواريخ «كروز» البعيدة المدى. هناك فارقٌ أساسي بين البناء العسكري السوفياتي وما يجري في الصين حالياً: الاتّحاد السوفياتي، رغم بنائه لصناعات ثقيلة وضخمة، ظلّ في حالة تخلّفٍ تكنولوجي ولحاقٍ مستدام. أغلب الأسلحة السوفياتية كانت مصمّمة لمواجهة سلاح غربي أمّا عبر الكمّ، أو عبر تطوير تكنولوجيات «مضادة»، كالتركيز على أبحاث الدفاعات الجوية المتحرّكة، والغواصات والصواريخ العابرة للقارات. الصّين، بالمقابل، تسابق اميركا كمّاً ونوعاً، وتكاد تذلّل آخر المراحل في الاحتكار التكنولوجي. من الطائرات الخفيّة إلى المحرّكات المتقدّمة، وهي ــــ مع مثال «تايب 055» وحاملات الطائرات ــــ تبني قوةً مثيلةً للأسطول الأميركي، لا «مضادّة» له. وهذا ينطبق حتّى على البحريّة، حيث التكلفة هي الأعلى والتكنولوجيا أكثر تقدّماً من أي مجالٍ عسكريّ آخر. حين حاولت أميركا أن تعزل الصّين عن تكنولوجيا طائرات الاستطلاع («أواكس»)، ومنعت إسرائيل والدول الأوروبية من التعاون معها في هذا المضمار الحسّاس، أطلقت بيجينغ أبحاثها الخاصّة، وهي اليوم تشغّل أكثر طائرات «أواكس» تقدّماً في العالم بتكنولوجيا صينيّة.

في العالم اليوم تحدّيّان حقيقيّان للهيمنة: التقدّم والتراكم الذي تقوم به دولٌ صاعدة مثل الصّين، صارت تملك مناعةً وثقلها الخاص، والتحدّي العسكري الذي تواجهه أميركا وحلفاؤها في أطرافٍ مثل بلادنا، فتخرج قوىً تتحدّى الصهاينة، وتنازع النفوذ الأميركي، وتتصدّى لحكومات الخليج وحلفائها. السّياق هنا، أيضاً، أساسيّ، فكما يشرح أناسٌ مثل سمير أمين وعلي القادري وغيرهما، أنت في بلادنا تقاتل الهيمنة بلحمك الحيّ، فيما هم يقاتلونك عبر مرتزقةٍ وميليشيات، وكلفة الحرب هائلة عليك وعلى أرضك، فيما هي زهيدةٌ وبعيدةٌ بالنّسبة إلى واشنطن والرّياض، وهي معادلةٌ من الصّعب أن تصمد فيها إلى الأبد من دون أن يجري تغيير لصالحك على المستوى العالمي. غير أنّ هذه الأحداث ليست منفصلة. كنّا نستذكر مع رفاقٍ، ونحن نمرّ في ذكرى حرب 2006، أنّه لولا تلك المواجهة (الفشل العسكري الأوّل للإرادة الأميركية، على مستوى العالم، منذ تأسيس «النظام العالمي الجديد») لربّما ما تشجّع الرّوس عام 2008 ودخلوا جورجيا، ولما فكّر الأوكران ــــ بعدها بسنوات ــــ بأنّ في وسعهم صنع واقعٍ، رغماً عن إرادة واشنطن، بالبندقية. والحرب القائمة في الأقليم اليوم ستكون نتائجها أكبر وأعمق بما لا يُقاس.

عودةً إلى الصّين. خلال الحرب الكوريّة، أصرّ الجنرال دوغلاس ماك آرثر على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية ضدّ الصّين (وهي لم تكن تملك القنبلة يومها، وتجربة هيروشيما لما يمرّ عليها سنوات، والجمهور الغربي اعتاد على الفكرة حين توضع في إطار «الضرورة»، ولن يمانع بشدّةٍ إبادة أقوامٍ آسيوية جديدة). كان حجّة ماك آرثر أنّ الهدف ليس الفوز في كوريا، بل تدمير هذا الجيش الصيني الشيوعي في مهده، وطرد النظام الماوي ومنع الصّين من تهديد أميركا مجدّداً. تمّ صرف ماك آرثر بسبب آرائه هذا وعصيانه للقيادة، وتنظر المؤسسة الأميركية إلى اقتراحه بتدمير الصين على أنّه «لطخة» لوّثت تاريخه، ومنعته من التسلّق إلى منصبٍ سياسي. في العقود القادمة، قد ينظر القادة الأميركيّون إلى وضع أمبراطوريتهم ويفكّرون أن ماك آرثر، من بين كلّ مجايليه، كان «الامبريالي العقلاني» الوحيد الذي استطاع رؤية الخطر قبل الجميع، وفهم ضرورة التحرّك بأيّ ثمنٍ (ولو كان خياراً رهيباً على الآسيويين) قبل أن تفوت «الفرصة» ويصعد التنّين.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2017/07/19

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد