آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
هالة القحطاني
عن الكاتب :
كاتبة سعودية

هكذا أصبح السجن أرحم


هالة القحطاني

بقاء الفتاة في دور الرعاية دون أن يتسلمها أهلها لعدة سنوات، يُعدّ خللا في خطط الوزارة التي ينبغي أن تغير أنظمتها، وتطوعها لخدمة الظروف المتغيرة

إنسانيتنا هي ما تبقينا أحياء في هذا العالم المزدحم بالمشكلات، وتحدد قيمتنا في مجتمعنا. فبدلا من أن يتخذ الفرد منا خطوة إيجابية لوقف أذى بسيط عن آخر بشجاعة، يدير ظهره وكأنه لا يرى، لأنه يعتقد أن هذا ليس من مسؤوليته، حتى يتحول الأذى البسيط عظيما لا يطاق. مع أن القوانين الكونية والفطرية تدفعنا إلى أن نتحرك في الاتجاه الآخر، لمنع مكروه أو صد ضرر عن الآخرين، لأن هذه ضمن مسؤوليتنا الدينية والاجتماعية.

احتوت الجهات الأمنية الأسبوع الماضي، عملية فوضى تحطيم وتهشيم زجاج، قامت بها عدد من نزيلات دار رعاية الفتيات في مكة، بسبب عدم تجاوب إدارة الدار مع مطالب كانت الفتيات تقدمت بها مسبقا، وبسبب انتهاء محكومياتهن أيضا، ورفض ذويهن استلامهن.

بعد السيطرة على الموقف وتهدئة الفتيات، أُحيلت 9 منهن إلى سجن النساء، وبعد انتهاء التحقيقات أفرجت النيابة عنهن، فرفضن الخروج من السجن بسبب اعتراضهن على سوء المعاملة في الدار، ليصبح السجن أرحم على أنفسهن المحطمة.

وبصراحة، أضم صوتي إلى الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، في تحميل الدار مسؤولية ما تعرضت له الفتيات من تجاوزات، وما نتج عنه من تطورات أدت إلى إيداعهن السجن.

ملف «نزيلات دور الرعاية» ملف حساس ومعقد، تتشابه تفاصيله الاجتماعية في عدة مناطق للأسف. فحين تهرب الفتاة أو ترتكب جريمة، لا تغفر لها أسرتها فقط، بل المجتمع بأكمله، الذي من أفراده العاملون في دور الرعاية، وغالبهم ليسوا متخصصين في التعامل مع هذه الحالات.

وغالب الأمور التي تعترض عليها الفتيات في تلك الدور، ينحصر في احتياجاتهن اليومية والنفسية البسيطة مثل، سوء المعاملة والمضايقات التي يتعرضن لها من بعض العاملات، وسوء التغذية التي تقدّم لهن، وتدني مستوى الخدمات.

ولا يلتفت المسؤول لتعديل أو تطوير الخدمات في أي قطاع، إلا بعد أن ينهار السقف وتعم الفوضى. وحين يكون الأمر متعلقا بشؤون الفتيات، تكون الاستجابة أضعف، وأحيانا لا تذكر، إلا بعد أن يجنح الأمر عن مساره، فيلفت الانتباه، لأننا اعتدنا أن ننكر أن الأخطاء تبدأ دائما صغيرة، وإهمالنا لها هو ما يحولها إلى كارثة كبيرة.

وحين يُجْمع المختصون من أساتذة علم الاجتماع والنفس والإرشاد على نبرة «لا حول ولا قوة لنا» في هذه القضية، ويقترحون حلولا مثل «تحويل الأمر لمحكمة التنفيذ لإلزام الأسر باستلام بناتها بالقوة، أو أن تتدخل الإمارة لتصلح ذات البين لضمان عدم إيذاء الفتيات، أو إيقاف خدمات الأب كي يذعن باستلام ابنته، أو إجباره بكتابة تعهد»، كلها اقتراحات وحلول وقتية تستفز الآباء في إجبارهم، وغير منطقية للفتيات الخائفات من مستقبل مجهول. بل تبدي عجز المسؤولين عن إيجاد حلول هادفة تخدم المتضررات والمجتمع، بإلقاء الكرة في ملعب آخر، وكأنهم لا يدركون أن الهاربات من التعنيف، هربن من الأساس من أسر قاسية، فككت ترابطها المشكلاتُ بين أفرادها، فكيف يرون أن الحل هو «إلزام الأسر باستلامهن ولا بديل لهن من التعنيف إلا أسرهن!».

إعادة الفتيات إلى ذويهن بالقوة الجبرية لا تنهي المشكلة، بل تصنع منها سلسلة حلقات جديدة لا تنتهي، بل ربما تزداد تفاقما.

ومثل تلك القضية لا تحتاج منا سوى تغيير اتجاه التفكير 180 درجة، بدلا من الدوران في المتاهة نفسها، فبقاء النزيلات في السجن أو في دور الرعاية بعد انتهاء محكومياتهن تعد عقوبة بلا جرم. وعلى الجهات أن تطلقهن تطبيقا للأمر السامي، بتسهيل أمورهن واجراءاتهن دون ولي أمر.

فتأهيلهن لا يعني حبسهن ومعاملتهن كمجرمات، ولن يتم عن طريق جلسات نفسية فقط، بل عن طريق ملء أوقاتهن، وإشغالهن بالعمل والتدريب، فبقاء الفتاة في الدار دون أن يتسلمها أهلها لعدة سنوات يعد خللا في خطط الوزارة التي ينبغي أن تغير أنظمتها وتطوعها لخدمة الظروف المتغيرة، شريطة أن تعمل عليها مع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، بوضع خطط بديلة، بدلا من أن تتكدس الفتيات في الدور. مثل أن تضع شهرا واحد فقط حدا أقصى لتسليم الفتاة في حالة الأسر الطبيعية، أو تحول ملفها للتوظيف في حالة الأسر الصعبة التي تعاني خللا في تركيبها. فالعمل يُخرج قدرة وطاقة الإنسان الكامنة، ويغير شخصيته للأفضل ويصقلها ويعلمه ما لم يكن يعلم من قبل، وما إن يشعر بأنه ينجز وينتج، حتى يمنحه ذلك الشعور بالرضا، فتتولد مع الوقت عملية التعزيز وإعادة الثقة في النفس تلقائيا.

وحين تعمل الفتاة تتغير شخصيتها وتتقدم، وتنظر إليها أسرتها والمجتمع بنظرة مختلفة، فتعود العلاقات تدريجيا بشكل صحي وأكثر إقناعا، وإن لم تعد نكون كسبنا عضوا فاعلا في المجتمع.

الظروف تغيرت، والاحتياجات الفردية للإنسان تغيرت، والدولة بأكملها في مرحلة تحول، فإذا لا يملك المسؤولون إيجاد حل يرضي حقوق الإنسان البسيطة، فهذا في حد ذاته مشكلة أخرى.

ملف «نزيلات دور الرعاية» ملف حساس، لم يصل إلى حلول منصفة أو منطقية، بل ما زال يعاني فشلا ذريعا، فلا يمكن أن تستمر اللجنة التي تناقش تفاصيله، أن يكون غالبها من الرجال الذين لا يستطيعون فهم المراحل النفسية التي تمر فيها الفتاة، ولا يدركون خطورة أن يصبح السجن بالنسبة لها أرحم.
 
صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2017/07/23

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد