آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

العراق «المنتصر» يواجه شبح التقسيم مجددا


د. سعيد الشهابي

من حق العراقيين أن يحرروا أراضيهم من الإرهاب، كما هو حق الفلسطينيين تحرير أرضهم من الاحتلال، وحق الشعوب العربية في التخلص من الاستبداد، وحق الأمة في استرجاع كرامتها ووحدتها وإنهاء الهيمنة الأجنبية على بلدانها. ولقد كان أمرا طبيعيا أن يحتفي العراقيون باسترجاع مدنهم من المنظمات الإرهابية التي تبنت العنف المفرط أسلوبا لعملها. وقد انهالت التهاني على حكومة ذلك البلد بعد عمليات تحرير الموصل.

وتستعيد الذاكرة ما حدث في مثل هذه الأيام تقريبا قبل 27 عاما، عندما اجتاحت القوات العراقية الكويت وأسقطت حكومتها، فكان ذلك سببا للتدخل الأجنبي الذي مهدت له دول مجلس التعاون الخليجي. حكومة الكويت هي الأخرى استلمت برقيات التهاني بعد إخراج القوات العراقية من بلدها، بعد حرب كانت الأشد في التاريخ الحديث للمنطقة. كل ذلك يبدو منطقيا ومقبولا. ولكن التبعات المتوقعة لتلك التطورات، سواء في الكويت أم العراق، كانت غائبة عن الرأي العام، وان استشرفها بعض الساسة على نطاق ضيق. فالخليج بعد حرب الكويت لم يعد كما كان قبلها. أمريكا أصبحت اليوم صاحبة القرار برغم ما تبديه الرياض من صدارة قيادية وقرارات تبدو مستقلة عن أمريكا. وبرغم التقليل من حقيقة كلمة أطلقها الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات قبل قرابة الأربعين عاما، إلا أنها أصبحت اليوم أكثر صدقية. يومها قال السادات أن أمريكا تمتلك 99 بالمائة من أوراق اللعبة.

وكان بإمكان أمة العرب والمسلمين تغيير ذلك لو توفر لها حكام ذوو سيادة وقرار مستقلين. ولكن ذلك لم يحدث. ومنذ ثلاثين عاما بدأ الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة يتوسع بشكل تصاعدي. فقد رأت أمريكا في ما كانت تسميه «الإسلام السياسي» تهديدا حقيقيا لهيمنتها من جهة والوجود الإسرائيلي من جهة أخرى. فكانت جادة في التصدي لتلك الظاهرة التي كانت إيران تمثلها آنذاك، وكانت الحركات الإسلامية الأخرى تمثل امتداداتها الشعبية في أغلب البلدان العربية.

بدأ التواجد العسكري الأمريكي بشكل عملي خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية خصوصا عندما قامت المدمرات الأمريكية بمصاحبة السفن الكويتية إلى خارج الخليج لحمايتها من الصواريخ الإيرانية. ثم جاءت حرب الكويت لتؤكد ذلك الحضور وتدخل المنطقة حقبة جديدة تكثف فيها الحضور الأمريكي. ومن المؤكد أن الكويت اليوم ليست هي كويت الأمس. فقد أصبحت مدينة للتحالف الأنكلو ـ أمريكي بسبب دوره في ضرب القوات العراقية وإخراجها من الكويت. ذلك الدور كان مقدمة لتدخل أوسع أدى لإسقاط النظام العراقي في العام 2003، وجعل أمريكا صاحبة القرار الاستراتيجي في المنطقة. هذا القرار لا ينحصر بالبعد الأمني أو العسكري، بل يشمل السياسات العامة للحكومات خصوصا الموقف إزاء الكيان الإسرائيلي لجهة الاعتراف به أو التطبيع معه. هذا الكيان لم يعد يشعر بالعزلة، بل أصبح لاعبا أساسيا في الوضع العربي. ولا يمكن فصل القرار الكويتي الأسبوع الماضي بطرد اغلب الدبلوماسيين الإيرانيين من الكويت بمن فيهم السفير خلال 45 يوما، وغلق القنصلية الإيرانية، عن سياسة الاملاءات الأمريكية. فالكويت تتمتع بعلاقات مستقرة مع كل من إيران والعراق، وتسعى لاستخدام تلك العلاقة للحفاظ على التوازن مع علاقاتها بالسعودية. أما ما يقال عن خلية «العدلي» فقد استغلت للإساءة للعلاقات بين الكويت وإيران.

وكانت المحكمة قد برأت أغلب المتهمين بالضلوع فيها، ولكن في الأسابيع الأخيرة عادت المحكمة لتصدر، بشكل مفاجئ أحكاما مشددة بحقهم، الأمر الذي تم تفسيره أنه استجابة كويتية للضغوط التي تمارسها قوى الثورة المضادة التي تتصدرها السعودية و «إسرائيل».
هذا في الوقت الذي يوسع الاحتلال فيه سيطرته على الأراضي الفلسطينية سواء ببناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، أم بالسيطرة على المسجد الأقصى بنصب بوابات الكترونية لفحص المصلين وفرض سيطرة إسرائيلية على المسجد، الأمر الذي رفضه المقدسيون جملة وتفصيلا.

النفوذ الأمريكي تتغير أهدافه ودوائر نفوذه مع تغير إدارات البيت الأبيض، ولكن تبقى حماية «إسرائيل» على رأس أولوياته، وكذلك إجبار الأنظمة العربية على التطبيع معها. واشنطن تعلم أن وحدة المنطقة من أهم معوقات تلك السياسة، ولذلك تسعى بشكل متواصل لمنع تحقق تلك الوحدة بأساليب شتى من بينها الحضور العسكري والسياسي الأمريكي المكثف، وترويج المشروع الطائفي لتفتيت شعوبها، وثالثة بافتعال أزمات بين دولها، ورابعة بتعميق القمع السلطوي ومحاصرة نشطاء التغيير وحقوق الإنسان، وخامسة بالسعي لتفتيت الدول العربية الكبرى إلى كيانات صغيرة، لتنشغل بالفتن الداخلية وتضعف إرادتها.

هذه الأساليب تختفي تارة وتظهر أخرى، فهي جاهزة للاستخدام عندما تبرز الحاجة لها. يضاف إلى ذلك أن من سياسات قوى الثورة المضادة حرمان الأمة من الشعور بالانجاز والنصر. فما أن يتحقق انتصار شعبي عبر حراك سياسي أو ثورة شعبية أو صناديق اقتراح (برغم قلتها) حتى يتم تحريك المياه الراكدة وإثارة القضايا النائمة لحرمان الشعوب من الشعور بالانجاز. أمريكا تعرف أن الشعوب وحدها هي القادرة على حماية فلسطين، ولديها من الإيمان بالقضية والإمكانات البشرية ما يؤهلها لتحقيق النصر بدون الاعتماد على الأجانب. ولذلك تسعى لمنع تحقق ذلك النصر. تعرف أن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000 إنما تم بإرادة شعبية، وكذلك الصمود أمام العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006 وهزيمة قوات الاحتلال الإسرائيلية. وكذلك هزيمة الإسرائيليين أمام صمود حماس في غزة عدة مرات، كل ذلك دفع الأمريكيين لانتهاج سياسة تعكير الأجواء ومنع حالة البهجة والشعور بالقوة الذاتية والقدرة على الصمود والتصدي للعدوان والاحتلال والاستبداد.

العراقيون ابتهجوا بما تحقق لهم في الموصل، فخرجوا إلى الشوارع وأقاموا الاحتفالات. لكن الأمريكيين لهم سياسات مختلفة. فالعراق بالنسبة لهم يمثل صيدا ثمينا، وعندما تدخلوا لإسقاط نظام صدام حسين كانوا يتطلعون لتوسيع نفوذهم في هذا البلد الكبير، مستغلين الفراغ السياسي والأمني الذي حدث بعد حرب 2003. ويشعر العراقيون أن دخول داعش قبل ثلاثة أعوام لم يكن عفويا، بل كان انتقاما من العراق الذي أصر على استقلال أراضيه والاحتفاظ بسيادته.

وربما الجانب الأكثر تعقيدا وخطرا السعي الحثيث لتقسيم العراق، وبرغم أن مخاطر التقسيم تضاءلت إلا انه ورقة ما تزال أمريكا تهدد العراق بها. ويتوقع قيام الأكراد في 25 أيلول/سبتمبر المقبل باستفتاء حول استقلال أقليمهم عن العراق، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من التوتر الداخلي. فحتى لو انتهى الخطر الداعشي فأن شبح التقسيم يحول دون استقرار البلاد. والنزعة نحو استقلال كردستان تثير مخاوف الدول الأخرى ذات الأقلية الكردية مثل تركيا وسوريا وإيران. فبعد الأزمة التي نجمت عن الخطر الداعشي تراجعت احتمالات انفصال الأقليم السني، ولكن الطموح الكردي في الاستقلال يشوش الأجواء ويوفر للأمريكيين سيفا مصلتا على رؤوس العراقيين. مطلوب من الساسة العراقيين جمع أمرهم مجددا ضمن الإطار الوطني وإقامة منظومة سياسية ضمن المبدأ الدولي على أساس «لكل مواطن صوت» ومحاربة الفساد وإلغاء نظام المحاصصة وتقوية مؤسسات الدولة المركزية وفتح قنوات الحوار بين كافة مكونات الدولة. لقد أصبح العراق بالونة اختبار لمدى قدرة الغرب على تفكيك الدول العربية والإسلامية الكبرى من الجزائر إلى مصر وسوريا وتركيا والعراق وإيران وباكستان. فأن تكررت تجربة التقسيم التي حدثت في السودان فلن تكون أية دولة بمأمن من ذلك الخطر. أنه التحدي الأكبر ولكن بالإمكان تجاوزه كما حدث مع التحدي الطائفي. ولكي تحصن الأمة من داخلها، مطلوب التخلي عن عقلية التوسع أو التدخل أو التحدي أو الاعتداء. والتجارب الحديثة مع سوريا والعراق واليمن وقطر تستدعي إعادة صياغة العقل العربي لتحصينه ضد الأطماع غير المشروعة والنزعات العدوانية غير المحكومة بدين أو ثقافة أو أخلاق.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/07/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد