آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

أولويات الأمة بين الحروب الداخلية وتحرير فلسطين


د. سعيد الشهابي

شهدت مدينة القدس الأسبوع الماضي توترا جديدا انتهى بانتصار إرادة الفلسطينيين. بدأت المشكلة عندما أراد الإسرائيليون إحكام السيطرة على المسجد الأقصى بنصب بوابات الكترونية، الأمر الذي رفضه الفلسطينيون. وحسنا فعلت القيادات الدينية عندما قررت الامتناع عن دخول المسجد عبر تلك البوابات، فامتثل الناس بذلك المنع واستبدل الحضور باحتجاجات أوصلت الصوت إلى العالم. كان المسلمون في أقطاب الأرض يعيشون حالة من الخدر وغياب الوعي، خصوصا تجاه القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي لأرض المعراج.

كان عويل النساء اللاتي فقدن العشرات من أبنائهن في المواجهات مع قوات الاحتلال كفيلا بإيصال صوت الظلامة إلى خارج حدود فلسطين، الأمر الذي كان سيقلب الطاولة على رؤوس الحكام الذين ما برحوا يعملون لتغييب قضية فلسطين عن الوجدان العربي والإسلامي، واستبدالها بتطبيع مع الاحتلال. هذا التطبيع ليس ناجما عن ضعف حقيقي في الأمة، بل عن تضعيف لها وتوهين لإرادتها تواصل عقودا.
صرخة الأقصى هذه المرة كانت ناقوسا مؤثرا، أذهل الصهاينة وداعميهم والمطبعين معهم. وفي السابق لم تكن قوات الاحتلال مستعدة للتنازل عن سياسات فرض الأمر الواقع بالقوة وأن اقتضى ذلك عدوانا آخر على أهل فلسطين. ولكن هذه المرة بلغ الاحتقان في النفوس مبلغا غير مسبوق، ليس في نفوس الفلسطينيين فحسب، لدى عموم العرب والمسلمين. من أسباب هذا الاحتقان سياسات قوى الثورة المضادة التي مزقت الأمة وقتلت تطلعات الشعوب وسعت لفرض أمر واقع جديد عليهم يتميز باستبداد أشد وقمع أعمق وتجهيل غير مسبوق.

لم يقتصر ما شهدته شعوبنا في السنوات الست الماضية على القمع الجسدي، حيث اكتظت السجون بعشرات الآلاف من الأبرياء في مصر والبحرين والسعودية و»إسرائيل» بل بلغ العدوان مدى أوسع بفرض أيديولوجيات وقناعات دينية وسياسية غير مسبوقة. الأمر المؤسف أن تلك القوى نجحت في تمرير مشروعها على قطاعات واسعة من الأمة والعلماء والمثقفين والكتاب، فاعتقدت أنها استطاعت اختراق المناعة الفطرية لدى الأمة، وإعادة توجيهها لأهداف مختلفة تماما عن مضامين رسالتها. بدأ التكفير للمشروع والتخطيط له بعد حوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية، التي كسرت العديد مما كان يعتبر من الثوابت لدى تلك القوى. فكيف تستطيع مجموعة إرهابية محدودة الإمكانات أحداث ذلك التدمير البشري والمادي الهائل؟ تأسس المشروع على ثلاثة أهداف:

الأول ضرب المجموعات الإرهابية عسكريا وأمنيا بلا هوادة، ودك متاريسها في جبال تورا بورا بأفغانستان وفي كافة البلدان التي تمدد لها، وثانيها: اختراق تنظيم «القاعدة» وإعادة توجيهه (فكريا وعقيديا وأيديولوجيا) بعيدا عن أهدافه الأساسية المتمثلة أساسا باستهداف الغرب خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، وثالثها: توسيع مفهوم الإرهاب ليتجاوز حاملي السلاح وليشمل من يتصدى لقوى الثورة المضادة فكرا وممارسة. ويمكن القول أن العالم لم يشهد هندسة فكرية وإستراتيجية كهذه. فقد ضرب تنظيم القاعدة الإرهابي واستهدفت رموزه في كافة البلدان، واختطف أفراده من أكثر من ثلاثين بلدا ضمن سجون وطلعات جوية سرية، ومورس التعذيب بإقرار رسمي أمريكي مع أفراده لانتزاع «الاعترافات» والمعلومات. وكان أهم تجليات تلك الممارسة أسلوب الإيهام بالغرق. أما على الصعيد العقيدي فقد طرحت قوى الثورة المضادة مبدأ استغفل الكثيرين وتم العمل بمقتضاه طوال عقد ونصف، مفاده أن «الشيعة أخطر من اليهود».

تلك المقولة أسست لإعادة توجيه بوصلة الاهتمام العربي والإسلامي بعيدا عن مبادئ الحرية والاستقلال ونبذ الهيمنة الأجنبية على بلدان العالم الإسلامي والوحدة الإسلامية وتحرير فلسطين، وتم إشغال الأمة بحرب مذهبية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. ووفقا لتلك الأيديولوجيا تم تدمير التراث الإسلامي وأهدرت دماء المسلمين، ليس الشيعة منهم فحسب، بل في أغلب البلدان، من سوريا والعراق إلى اليمن وليبيا ونيجيريا ومصر وباكستان وأفغانستان وغيرها. وأشعلت نيران الفتن في كل مكان، فأصبح القتل على الهوية ممارسة يومية لم تتوقف حتى هذه اللحظة. أن أمة تنشغل بحروب داخلية وتصفيات دموية على أسس الانتماء للدين أو المذهب أو العرق، لا يمكن أن تواجه التحديات الخارجية أو تنهض بأعباء مشروع حضاري منوط بها.

أما الإرهاب فقد تعمدت قوى الثورة المضادة منع التوافق الدولي لتحديد مفهوم واضح له. وبينما يفهمه غالبية البشر أنه استخدام العنف غير المبرر ضد الأبرياء بدون تمييز، فأن تلك القوى وسعت مفهومه. فأصبح من يعارض سياساتها متهما بالإرهاب. وهناك الآلاف من العرب يحاكمون بتهم الإرهاب لأنهم شاركوا في ثورات الربيع العربي بشكل سلمي، خصوصا في مصر والسعودية والبحرين. يساق الشباب بالمئات أمام المحاكم بتلك التهم وتصدر بحقهم أحكام الإعدام الجماعية أو السجن المؤبد، ليس لأنهم قتلوا أحدا أو استخدموا السلاح بل لأنهم رفعوا أصواتهم مطالبين بالحرية والتحول الديمقراطي. وبعد أن بدا لها أنها سيطرت على الوضع العربي تماما، وكممت أفواه النشطاء والثوريين، عمدت لاستهداف من يرفض الانسياق وراء مشاريعها. ما هي أولويات الأمة؟

وهل يجوز إقحامها في هذه الفوضى السياسية التي تساهم قوى الثورة المضادة في بثها هربا من استحقاقات التغيير؟ من الناحية النظرية والدينية فأن أولى مهمة الأمة إقامة العدل الذي جاءت الأديان جميعا من أجله، وهذا لا يتحقق إلا بامتلاك الإرادة والتمتع بحرية أداء الدور، واحترام الإنسان كخليفة لله على الإرض، وصون كرامته. ومن الناحية العملية فأن الشعوب العربية تبحث عن الحرية واستقلال القرار والشراكة السياسية والتنمية البشرية والاقتصادية، وتسعى للخروج من هذه الحقبة السوداء التي تميزت بالاستبداد والديكتاتورية. لكنها ما أن تحركت لتحقيق ذلك في 2011 حتى تصدت لها قوى الثورة المضادة بأبشع أساليب القمع والتصفية، فانتهت الثورات إلى فوضى غير مسبوقة أدت إلى تدمير البلدان وتعميق النزعة لتفتيتها، ومهدت الوضع لتغلغل الغرب في الشؤون المحلية للدول العربية. وفرض على الشعوب تغيير قناعاتها، فأصبحت أمريكا الداعمة بلا حدود للكيان الإسرائيلي، لاعبا أساسيا يخطب وده الكثيرون، ومن بينهم من كانوا محسوبين على الخط الثوري في هذه البلدان.
هذا التغير في التصور ليس من أولويات الأمة ولا يخدم مصالحها. أما الاختلافات المذهبية فهي قديمة بقدم دين الإسلام، وقد تعايش المسلمون، بمذاهبهم العديدة، ضمن إطار الأمة الواحدة، كما هم الأفراد الذين يعيشون ضمن عائلة واحدة. فالتعدد المذهبي والفكري ليس مشكلة في أساسه، ولكن قوى الثورة المضادة حولته إلى قضية ومشكلة لأمور عديدة: أولها إشغال الجمهور العربي الواسع عن قضايا التغيير والإصلاح السياسي، والحيلولة دون أية محاولة للعودة إلى خيار الثورة. ولأن الكيان الإسرائيلي ساهم في قمع الثورات والتخطيط لحرف أولويات الأمة حتى أدخلها في متاهات التصدع الديني والمذهبي، فقد أصبح على تحالف قوى الثورة أن تقبل بمبدأ التعايش مع الاحتلال والاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وأن اقتضى ذلك التصادم مع قوى المقاومة الرافضة للاحتلال. انتفاضة القدس هذه المرة أرعبت تحالف قوى الثورة المضادة. فأدركت أن بإمكانها تخدير الشعوب أو حرف مسارها أو تضليلها حقبة من الزمن، ولكن الفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها سرعان ما تفرض نفسها على البشر وتعيدهم إلى مساراتهم الطبيعية. وربما من أهم النتائج المتوقعة لتلك الانتفاضة استعادة الأمة قوامها وقدراتها وعودتها لطريق التحرر من الاستبداد وتحرير الأرض من الاحتلال، والعمل لتعميق الانسجام، والتوافق على أن الاحتلال هو جوهر أزمة المنطقة، وأن الاستبداد هو الوجه الآخر لهذه الأزمة.

وحين ينطلق نداء البعض من داخل الجزيرة العربية «لن ننصر الأقصى» فأن ذلك خط مفاصلة بين قوى التحرر وتحالف قوى الثورة المضادة، هذه المرة فأن دروس الحقبة الماضية ستفرض نفسها على جماهير العرب والمسلمين لتوقظهم وتملأهم إيمانا وثقة بالنفس والهدف، وتدفعهم للقيام بدور معتبر في مشروع الحرية وفتح طريق التحرير. فلسطين وحدت الأمة طوال عقود سبعة، فلا يجوز التفريط بتلك الوحدة بالاستماع لهرطقات قوى الثورة المضادة التي تصدت للجماهير الثائرة ومزقت وحدتها ثم فتحت السجون والأقبية للتنكيل بالأحرار وطلاب الحرية. والأمل أن تؤدي تجربة صرخة القدس لمستقبل أفضل في منطقة الشام، يوفر الحرية للشعوب ويؤسس لاستقلال فلسطين، ويحول دون التطبيع مع الاحتلال.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/07/31

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد