آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
زياد حافظ
عن الكاتب :
أمين عام المؤتمر القومي العربي

أحداث ولاية فيرجينيا: الدلالات والتداعيات


زياد حافظ

أحداث مدينة شارلوتفيل في ولاية فيرجينيا أدت بحياة مواطنة أميركية دهستها سيارة يقودها أحد المتطرّفين البيض مستهدفا عددا من المتظاهرين ضد العنصرية.  فعلى ما يبدو فإن ظاهرة “داعش” سمة تضم كافة أشكال العنصرية والتعصّب والغلو حتى داخل دول راقية نظريا كالولايات المتحدة. لكن هذه الحادثة تأتي في سياق تصاعد موجة عنصرية في الولايات المتحدة لم تبدأ مع انتخاب ترامب بل كانت موجودة قبله.  انتخاب ترامب ساهم في تفاقم الخطاب العنصري لدى المجموعات المتطرّفة التي تطالب بتفوّق البيض على كافة مكوّنات المجتمع الأميركي، من سود، أو إسبانيين، أو آسيويين، أو يهود، أو مسلمين، أو أي مجموعة أخرى.  فما هي دلالات تلك الحادثة بغض النظر عن حيثياتها “الميدانية” التي نقلتها وسائل الإعلام الأميركية والدولية على حد سواء؟  وما هي مستويات تلك الدلالات؟

الدلالة الأولى هي أن الأزمة العنصرية في الولايات المتحدة أزمة بنيوية تعود إلى تأسيس الدولة الأميركية.  والعنصرية ليست موجّهة ضدّ عرق واحد أو مجموعة معيّنة بل ضد كل من هو غير أبيض ومنحدر من أصول انجلوسكسونية بروتستنتية.  في البداية كانت موجّهة ضد الكاثوليك أو أتباع البابا (لم يعترفوا إلاّ مؤخرا بهم!)، وضد الشعوب الأولية القاطنة أي الهنود الحمر، وضد السود الذين كانوا عبيدا لهم.  لا ننسى البعد التوراتي لنشأة الولايات المتحدة التي كانت “ارض الميعاد الجديدة”، و”المدينة على الجبل” وأن حكمهم هو “القدر المتجلّي”.  فيمكن القول إن المتطّهرين الإنكليز الذين استعمروا القارة الشمالية كانوا يهود الروح وليسوا يهود الدم على حد تعبير الباحث منير العكش في مؤلّفه “تلمود العم سام”.  فكانت عملية الإبادة الجماعية لتلك السكّان الأصليين بكافة الوسائل المتاحة بما فيها الحرب الجرثومية عندما وزّعوا بطانات ملوّثة بداء الجدري!

ويمكن القول إن الدستور الأميركي الجديد آنذاك كانا دستورا تمييزيا بامتياز حيث استثنى من التمثيل السياسي في الجمهورية الناشئة المرأة، والعبيد، وكل من هم من غير مالكي العقارات.  فالقدرة على دفع الضرائب هي السمة التأهيلية للعمل السياسي.  وهناك من يخلط بين النظام الجمهوري والنظام الديمقراطي.  فالجمهورية نظام سياسي ينزع احتكار الصلاحيات التي كانت محصورة بيد الملك (الملك البريطاني آنذاك) ويوزّعها على ثلاث هيئات مستقلّة نظريا بعضها عن بعض.  البعد الديمقراطي أدخله ابراهم لنكولن عندما أعلن أن الحكومة الأميركية هي حكومة الشعب، من الشعب، وإلى الشعب.

الحرب الأهلية التي قسمت الشعب الأميركي في القرن التاسع عشر كانت حول نقطتين أساسيتين: صلاحيات الولايات وتحرير العبيد.  انتصر الفريق الذي دعا إلى تقليص صلاحيات الولايات لمصلحة الدولة الاتحادية وإلى “تحرير” العبيد.  هذا التحرير كان اسميا لأن النخب الحاكمة، المنتصرة والمهزومة، لم تعط الحقوق المدنية للسود إلاّ بعد قرن من الزمن وبعد سلسلة مواجهات عنصرية تتوّجت بمسيرة مارتن لوتر كينغ في الستينات من القرن الماضي.  تمركز السكاّن السود في المدن الكبرى للولايات المتحدة أجبر النخب الحاكمة آنذاك على الرضوخ إلى الضغط الشعبي فكانت مبادرة ليندون جونسون الذي أقرّ الحقوق المدنية التي ناضل من أجلها مارتن لوثر كينغ والتي كان ضحية لها على يد عنصري أبيض.  انتخاب باراك أوباما إلى البيت الأبيض كان تتويجا لذلك المسار.  لكن لا يمكن أن ننسى حملات التشكيك ب “أميركية” أوباما على لسان الرئيس الحالي دونالد ترامب، كما لا يمكن أن ننسى اتهام العديد من العنصريين أوباما بأنه “مسلم”. كما أن الحزب الجمهوري المعارض وبعض النخب الديمقراطية عارضت البرنامج السياسي له وحتى قانونه للضمان الصحّي.

هذه المقاربة التاريخية كانت ضرورية لتبيان الجذور العميقة للعنصرية في الولايات المتحدة رغم كل الادعاءات المعاكسة.  صحيح أنه هناك من يقاوم تلك العنصرية وهم كثر وربما الأكثرية ولكن في زمن الضيق الاقتصادي وتفاقم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية تزداد النزعات الغاضبة على الوضع المتردّي وتعود العنصرية إلى الواجهة. فلا بد من تحميل المسؤولية لكل من استفاد من دولة الرعاية التي أقرّتها إدارات سابقة بدءا من حقبة فرانكلين روزفلت حتى ليندون جونسون.  الجمهوريون لا يخفون هدفهم إلى تقليص دولة الرعاية وخصخصة الضمان الاجتماعي.  كما لم يتواروا عن تغيير قوانين الانتخاب في بعض الولايات لمنع السود من التصويت أو على الأقل جعل دورهم هامشيا كما حصل في فلوريدا على سبيل المثال.  بالمقابل قام الديمقراطيون بضرب القاعدة النقابية، العمود الفقري للحزب، أسوة بما حصل في بريطانيا على يد مارغريت تاتشر وخاصة فيما بعد على يد طوني بلير.  الحزب الديمقراطي اسوة بحزب العمّال اتجّه في عهد كلنتون وأوباما إلى الوسط وعلى حساب القطاعات العمّالية والفقيرة.

وهنا تكمن الدلالة الثانية وهي توسيل الخطاب العنصري أو حتى العنصرية في الحراك السياسي.  والعنصرية هي الوجه البشع للتمييز ونتيجته الإقصاء.  فثقافة الإقصاء ليست حكرا على العرب والمسلمين بل هي موجودة ومترسّخة في المجتمعات التي تدّعي الحضارة وتحاضر فينا حول التسامح والقبول بالآخر!  والتوسيل السياسي للخطاب العنصري، سلبا أو إيجابا وفقا لمختلف وجهات النظر القائمة في الولايات المتحدة، تهدف إلى تحقيق هدف محدّد وهو إسقاط الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فكما رفض الجمهوريون انتخاب باراك أوباما يرفض اليوم الديمقراطيون ومعهم الإعلام المهيمن صاحب الطابع الليبرالي بالمفهوم الأميركي وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض.  والرئيس الأميركي رجل متهوّر، مندفع، لا يفكّر قبل أن يتكلّم، ولم يستوعب مقام الرئاسة يساهم بتغاريده اليومية على صفحته في التواصل الاجتماعي وفي مؤتمراته الصحفية المرتجلة في توفير المادة للانتقاد.  انزلق الرئيس الأميركي في الدفاع عن العنصريين بقوله إنه ليس جميعهم نازيين بل هناك من هو “جيّد”، كما حمّل المسؤولية أيضا من سمّاهم بالمتطرّفين الليبراليين الذين أقدموا على خلع تماثيل رموز الحرب الأهلية في ولاية فيرجينيا.  فإذا اعتبر الليبراليون أن قائد القوّات الانفصالية روبرت لي رجلا عنصريا وبالتالي يجب هدم تمثاله التذكاري، فلماذا لا يتم هدم تمثال كل من جورج واشنطن وتوماس جيفرسون، وهما من الأباء المؤسسين ومن ولاية فيرجينيا، وكانوا يمتلكون عبيدا!  هذه المعادلة التي طرحها ترامب أثارت غضب الليبراليين، لكن من كان يتابع المداخلات الهاتفية من مواطنين أميركيين على المحطات الأميركية فوجئ بالصدى الإيجابي لتلك المعادلة، ما أثار غضب لمقدمي البرامج الذين سارعوا إلى قطع المكالمة.  الضحية هنا هي فقدان الحقيقة الذي حلّ مكانها السردية الدعائية.  لم تعد وسائل الإعلام تنقل الوقائع بل تنقل المواقف. بالمقابل ساند الرئيس الأميركي كل من الرئيسين بوش، الأب والابن، والشيخ المحافظ اورين هاتش خاصة أن سجّل الرئيس الأميركي خلال الثلاثين سنة الماضية رفض كافة أشكال العنصرية على حد قوله.

الدلالة الثالثة هي حدّة الاستقطاب الداخلي الذي وصل إلى مرحلة تنذر بانفجار شامل في الولايات المتحدة.  تتناول وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإلكترونية وحتى عند بعض المعلّقين المرموقين كدنيس براغير في مجلّة “ناشيونال انترست” وبات بيوكانان في مجلّة “امريان كونسرفاتيف” إمكانية نشوب حرب أهلية ثانية.  دنيس براغير صاحب مصطلح “حرب أهلية ثانية” التي عمّت وسائل التواصل الاجتماعي.  فإذا بعض الأقلام المرموقة الأميركية تتكلّم اليوم عن ذلك الاحتمال فهذا يدعم ما كنّا أنذرنا به منذ عدّة سنوات.  فالظروف الموضوعية مؤاتية لذلك وإن كان العامل الذاتي ما زال غير واضح لإطلاق الشرارة.  فعلى الصعيد الموضوعي نذكّر بترهّل البنية السياسية وتردّي القيادات السياسية الأميركية في مقاربة القضايا الشائكة وحتى غير الشائكة، كما نذكّر بتفاقم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية وثقافة العنف المتأصّلة في التعامل الأميركي، ونذكّر أيضا بثقافة حمل السلاح التي ينصّ عليها الدستور الأميركي الذي يسمح أيضا بتشكيل الميليشيات (لا يجب أن ننسى أن “تحرير

 الولايات المتحدة من قبضة البريطانيين كان على يد الميليشيات أو “الحشد الشعبي” الأميركي آنذاك!).  أضف إلى ذلك التغيير في البنية السكّانية حيث تتراجع نسبة “البيض”. فالإحصاءات تشير أنه بحلول 2050 لن تكون الأكثرية السكّانية للبيض.  في المدن الكبرى في ولايات الجنوب الغربي الأميركي أصبحت الأكثرية للسكان المنحدرين من أصول اسبانية، وأن اللغة الاسبانية أصبحت اللغة الأساسية في المدن الحدودية.  كما نذكّر بإنذار سامويل هنتنغتون بفقدان الهوية الانكلوساكسونية البروتستنتية البيضاء.  فجميع هذه العوامل جاهزة للمشهد الانفجاري.

أما على صعيد التناقضات فهناك خليط من تباين بين “يسار” و”يمين”، وبين “ثري” و”فقير” وبين “نخب حاكمة” وجمهور مهمّش، وبين سياسيين فاسدين وقاعدة مستاءة، وبين إعلام مهيمن فاقد لمصداقيته ووسائل تواصل يعمّها الفوضى، وبين اقتصاد افتراضي مالي مسيطر واقتصاد حقيقي متراجع، وطبعا بين متطرّفين من البيض والسود على حدّ سواء، وبين متطرّفين مسيحيين وأقلّية مسلمة.  أما المواضيع التي تقسم الأميركيين فهي عديدة كالاحتباس الحراري أو التغيير المناخي، أو حرّية التعبير، أو حمل السلاح، المثليين، أو الإجهاض، وطبعا مفهوم الأمن القومي.  فمعظم هذه الملفّات تشكّل مادة الحروب الثقافية باستثناء موضوع الأمن القومي.
وجود بعض المنظّرين للخصوصية الأميركية البيضاء في البيت الأبيض كستيف بانون وعلاقاته مع المتطرّفين منهم ينذر بإمكانية اتخاذ قرارات تصّب الزيت على النار.  فهو صاحب قرار منع المسلمين من بعض الدول العربية والإسلامية للقدوم إلى الولايات المتحدة التي أوقفها القضاء حتى الآن.  ولكن ليس هناك من يمنع المزيد من القرارات المماثلة العبثية التي قد تؤدّي إلى مواجهات بين مختلف مكوّنات المجتمع الأميركي.  أحداث شارلوتفيل ومواقف الرئيس الأميركي حولها لا تبشّر بإمكانية مقاربة الأمور بهدوء وتروّي. من جهة أخرى تقوم بعض وسائل الاعلام كمحطّة سي، ان، أن ومحطّة أم، أس، أن، بي، سي بترويج للمواجهة العنيفة ضد العنصريين غير مبالين لنتائج ذلك.  فهذا الاعلام المهيمن جزء من الدولة العميقة التي تهدف إلى خلق الفوضى كما يدّعي ألكس جونز صاحب موقف “انفو وارز″، أي “حروب المعلومات” والمعروف بتطرّفه اليميني.

على صعيد آخر أدّت مواقف الرئيس الأميركي من أحداث شارلوتفيل إلى استقالة عدد من رؤساء الشركات الصناعية من اللجنة الاستشارية الصناعية في البيت الأبيض.  وتحسّبا للمزيد من الاستقالات التي تضرب هيبة الرئيس أقدم الأخير إلى حل المجالس الاستشارية الاقتصادية في البيت الأبيض.  كما أن وسائل الإعلام، وعلينا أن نكون حذرين من دقة تلك المعلومات المروّجة من قبلها، فهناك على ما يبدو استياء عارم بين مساعديه من تلك المواقف.  من جهة أخرى نقلت أيضا وسائل الإعلام استياء جون كيلي رئيس الموظفين في البيت الأبيض من عدم انضباط الرئيس الأميركي ووضع مساعديه أمام الأمر الواقع.  فكل ذلك ينذر بالمزيد من الاستقالات.  فهل الولايات المتحدة أصبحت على أبواب أزمة حكم؟

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2017/08/19

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد