آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

فييتنام في أميركا: عن الحرب والديمقراطية


عامر محسن

«حين تستلقي جريحاً في سهول افغانستان
ثمّ تأتي النساء لتقطيع ما تبقّى
انقلب على بندقيتك وفجّر دماغك
وأذهب إلى ربّك كجندي»
من قصيدة لرُديار كيبلينغ،
«الجندي البريطاني الشاب»، 1895

الدول الكبرى لا تحبّ أن تُمعن النّظر في هزائمها وفي اللحظات التي تُتحدّى سرديتها الوطنية عن الصّعود والنّصر والتوسّع؛ لهذا السبب لا تلقى حرب فييتنام المساحة الكافية من الاهتمام في الكتابات والدّراسات الغربيّة المعاصرة (الأمر ذاته ينطبق على غزو العراق حيث، ما أن خمدت العمليّات العسكريّة بعد عام 2006، لم تعد الكتب عن العراق تلقى رواجاً في أميركا، ولا أحد يهمّه أن يبحث في جذور الحرب وأسبابها، ومن كذب ومن صدق؛ الجمهور يريد، فحسب، أن يتجاوز الذكرى السيئة و«يضعها خلفه»). من جهةٍ أخرى، أن تتجاهل حقبةً من التّاريخ لا يعني أنّ هذا التاريخ لم يصنع واقعك، ولا يؤثّر عليك اليوم في كلّ لحظة، بل هو يعني أنّك، ببساطة، غير واعٍ لأثره.

«الحرب\ الخطأ»؟

في الذاكرة الشعبية الأميركية وفي الكلام السّياسي، مثلاً، حصل إجماعٌ على تصنيف فييتنام تحت فئة الحروب «الخطأ»، حربٌ «غير ضرورية»، «انزلق» إليها القادة الأميركيون بسبب «غرورهم وقصر نظرهم»، «تضحيةٌ لم تكن لازمة»، «حسابات انتهازية» جعلت الأميركيين يأخذون جانب فرنسا الاستعمارية بعد الحرب العالمية، فذهب الفييتناميون إلى أحضان السوفيات والشيوعيّة… غير أنّ هذا التأريخ، الذي يأخذ فييتنام كحالة معزولة، ويعيّن كلّ الاحتمالات التي كانت موجودة لتجنّب الحرب، يتناسى السّياق الذي وقع فيه الصّراع. وهو يظهر أنّ الشّراسة التي أبدتها أميركا في الهند الصينية لم تكن نتيجة «خطأ» أو تصعيدٍ «غير مدروس»، بل جزءاً من ردّة فعلٍ عنيفة وشاملة انطلقت بعد الحرب العالميّة الثانية، ولا يمكن فهم الحملة العسكرية في فييتنام من خارجها (أنتجت «نِتفليكس»، السنة الماضية، وثائقياً من عدّة أجزاءٍ عن الحرب، هو قيّمٌ لجهة المواد الأرشيفية فيه ــــ احرصوا على مشاهدته بدقّة عالية ــــ ولكنّه، في المضمون، مثالٌ على سرديّة «الحرب الخطأ» أعلاه).

يجب أن تضع نفسك في مكان الأميركيين وحلفائهم من القوى الاستعمارية القديمة في السّنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية: المعسكر الغربي، بعد أن خسر روسيا وشرق أوروبا، خسر الصّين، والهند نالت استقلالها ونشأ فيها نظامٌ اشتراكيّ، ومثلها اندونيسيا ومصر، وقد بدأت حركات التحرّر تكتسح أفريقيا وآسيا. في لحظةٍ معيّنة، كان من الممكن تصوّر أنّ الأمور، لو ظلّت على حالها من دون تدخّل حاسم، لتقلّصت سلطة «الامبرياليات القديمة» الى زاويةٍ صغيرةٍ من العالم؛ ومن هنا يجب أن نفهم ردّ الفعل الشّرس الذي قادته واشنطن على مدى أكثر من عقدين، وما كانت حرب فييتنام إلّا جزءاً من هذه «الثورة المضادّة». من هنا، مثلاً، يمكن لنا أن نفسّر مقدار العنف الذي اعترى حروب تلك الحقبة، والذي لم يكن يتناسب في حالاتٍ كثيرة مع الأهمية الاستراتيجية أو الاقتصادية للبلد المستهدف. في كوريا وفييتنام مثلاً، ألقت أميركا متفجّراتٍ وقنابل تفوق ما كان يُستخدم في مسارح الحرب العالمية الثانية، وذلك ضدّ بلادٍ صغيرة من العالم الثالث، وفي حروبٍ «ثانوية» وراء البحار. نسبة من قُتل من الفييتناميين خلال الحرب لا تقلّ عن نسبة ضحايا الاتحاد السوفياتي من إجماليّ السكّان خلال الحرب الكبرى (ونحن هنا نتكلّم على مناطق شاسعة، مثل أوكرانيا وبيلوروسيا، اجتاحتها ذهاباً وإياباً أكبر جيوش العالم، وحاصرت مدنها ودمّرتها أكثر من مرّة). بالمثل، كانت القوى الغربية مستعدّةٌ لأن تتسبّب بموت ملايين الأفارقة في حروبٍ «قذرة» ــــ من ليبيريا إلى الكونغو ــــ وأن ترعى مذابح في اندونيسيا وغيرها، حتّى لا تصل أنظمة «عدوّة» إلى الحكم أو تنجح في الاستقرار.

بالانطلاق من هذا السّياق أيضاً نكتشف أنّ هذه السياسة (وإن فشلت في فييتنام ووجدت من يصدّها) فهي لم تكن «عارضة» ولا «غير ضرورية»، بل كانت ضروريّة و«ناجحة»، حدّت ــــ بحلول السبعينيات ــــ من توسّع حركات التحرّر الوطني في أكثر من إقليم، وأسقطت أنظمةً مناوئة من اندونيسيا إلى أفريقيا، و«قلبت» النّخب في أكثر من بلدٍ أساسيّ (كما في مصر والهند) لتميل صوب المعسكر الغربي، وصولاً إلى القيادة في روسيا نفسها. حتّى تقلّص تراث «حركة التحرّر الوطني» في بلاد الجنوب، اثر سقوط الاتحاد السوفياتي، إلى حفنةٍ من الأنظمة المُحاصرة، الفقيرة، لا ترى فيها النخب الإمبراطورية إلّا موضوعاً للسخرية و«المقارن»، أو مثالاً للتدليل على «فشل» أيّ فكرةٍ أو مفهومٍ يعادي الهيمنة. الفييتناميّون أنفسهم، اليوم، قد «تجاوزوا» إشكاليات الاستقلال والوحدة بعد أن كسبوا الحرب، وأصبحت عندهم بمثابة ذكرى وتاريخ، خاصّة وأنّهم أسّسوا بلداً «ناجحاً»، وانصبّ اهتمامهم على التنمية والتأقلم مع الظروف الدولية، وليس القتال أو الانتقام.

من الميليشيا إلى حاملة الطائرات

لا يتّسع المجال هنا للكلام عن الحرب من وجهة نظر أهل فييتنام ونضالهم المرير. تخيّل أن تحارب اليابانيين، ثمّ تقاتل قوّة استعماريّة كفرنسا لأكثر من عشر سنوات، وتُنهي الاحتلال مع انتصارٍ ملحميّ في «ديان بيان فو» (يقول الجنرال جياب ــــ تُلفظ بالفيتنامية «زاب» ــــ أنّ أحد أهداف المعركة، التي تجنّد لها مئات آلاف الفييتناميين بين القتال والتجهيز ونقل المعدّات في قلب الأدغال، لم يكن مجرّد احتلال قاعدةٍ فرنسيّة أو إلحاق هزيمةٍ موضعيّة، بل كان لها أيضاً هدفٌ نفسيّ: أن يُثبت الفييتناميون لأنفسهم، بعد عهدٍ طويلٍ من الاستعمارٍ والدونيّة، أنّهم أصبحوا منظّمين وقادرين على إلحاق الهزيمة بالفرنسي في مواجهة مباشرة، لا معركة كرّ وفرّ، وحصار قواته في موقعة كلاسيكيّة وإجباره على الاستسلام). تخيّل، بعد كلّ هذا وبعد أن تصل إلى خطّ النهاية لاهثاً، أن تضع الأقدار أميركا في وجهك من حيث لم تحتسب ــــ أقوى جيشٍ في العالم ــــ ولأسبابٍ دولية خارجة عن إرادتك. ويُصبح استقلالك واستعادة وحدتك رهناً بأن تبدأ الحرب من جديد، وبمستوىً أقسى وأعنف وتضحيات أكبر بما لا يُقاس. إن كان تفجير مقرّ الـ«مارينز» قد خلد في الذّاكرة اللبنانيّة (والأميركية)، تخيّلوا أن توقع بالجيش الأميركي خسائر توازي تفجير الـ«مارينز» كلّ أسبوع، وهذا تحديداً هو ما فعله أهل فييتنام على مدى سنوات. الرّواية الأميركية، بالمناسبة، تضخّم من حجم الدّعم السوفياتي والصيني لفييتنام، ولكنّ الحقّ هو أنّ الفييتناميين قرّروا خوض الحرب في وجه نصائح السوفيات ــــ الذين كانوا قد دخلوا في مرحلة «تهدئة» ولا تهمّهم مواجهة مع الأميركيين ــــ ودعم «الرّفاق» بالسّلاح كان أقلّ الممكن، وبخاصّة لو قارنّاه بسلوك أميركا مع حلفائها ــــ إذ كانت تحضر بجيشها إلى فييتنام الجنوبية، وتقاتل عنهم، وتأخذ الحرب إلى فييتنام الشمالية وتقصف عاصمتها وبناها التحتيّة؛ فيما اكتفى السوفيات والصينيون بإرسال السلاح والخبراء إلى الشّمال.

موضوعنا هنا هو تأثير حرب فييتنام على أميركا، وعلى العلاقة بين الامبرياليّة والديمقراطية. حجّتي هي أنّ حرب فييتنام، التي أنهت نظام التجنيد الإجباري في الولايات المتّحدة وأدّت إلى خلق «الجيش المحترف» في أوائل السبعينيات، كانت اختباراً لحدود الديمقراطية الأميركية ونقطة تحوّل، غيّرت شكل الحكم في أميركا مثلما غيّرت نمط حروبها الخارجية. البعض يعتبر أن التحوّل إلى نموذج «الجيش المحترف» (الذي اكتمل الانتقال إليه عام 1974) كان مجرّد مسألة «تقنيّة»، أو نزعة كونيّة صوب «جيش التطوّع» وإلغاء التجنيد. أوّلاً يجمع أكثر الخبراء العسكريين، ويثبت التّاريخ العسكريّ، أنّه لا يوجد امتيازٌ «جوهري» للجيش «المحترف» على «جيش المواطنين» (إلّا لو كنت بلداً صغيراً للغاية من حيث القدرة البشرية، ولديه إمكانات ماليّة كبرى، مثل سنغافورة)؛ وقد أثبتت التجربة القريبة في بلادنا أنّ الجيوش النظامية ليست، بالتعريف، أفعل أو أكثر نجاعةً من جيوش التطوّع والميليشيات. بل إنّ أهمّ الحروب التي ثبّتت مكانة أميركا في العالم، من الحربين العالميتين إلى كوريا، قد خيضت بجيش التجنيد الإجباري.

كما يشرح كتابٌ للمؤرّخ كينيث غريفيث (وهو من إصدار الجيش الأميركي) عن انتقال الجيش الى «قوّة تطوّعيّة بالكامل»، فإنّ المسألة كانت سياسيّة الى أقصى الحدود، وليست تقنيّة أو عمليّة، وكانت فييتنام في قلبها ــــ فقد حسمت الحرب النّقاش وخلقت رفضاً قاطعاً لدى الشّعب الأميركي لاستمرار التجنيد وإرسال أولادهم للموت في حروبٍ قصيّة. كما يقول غريفيث، فإنّ وجود جيشٍ فيديراليّ محترفٍ وضخم، كما هي الحال اليوم، يتناقض بقوّةٍ مع التراث السياسي الأميركي الذي كان يرفض، على الدّوام، أن تحظى الحكومة بقوّة عسكريّة محترفة ــــ وبالتالي سلطة وقدرة ــــ «أكبر من اللازم». تاريخياً، كانت القوى المسلّحة الأميركية مكوّنةٌ من جيشٍ فيديراليّ صغير ترفده «الميليشيات» التي تتبع للولايات وتقوم مقام الاحتياط؛ وهذا تقليدٌ أميركي قديم من النّوع الذي امتدحه توكفيل في قيام مواطنين بالتطوّع في الميليشيا والتدرّب دوريّاً مع رفاقهم، تحسّباً لاستدعائهم حين تقع الحرب. حتّى خلال الحرب الأهلية، يضيف المؤلّف، كان التجنيد يعني أساساً استدعاء جنود الميليشيا (التي تحوّلت في ما بعد الى «الحرس الوطني») وزجّهم في الجيش الفيديرالي. ولم يبدأ التجنيد من عموم النّاس إلّا مع الحرب العالميّة الأولى، بالتوازي مع صعود الامبريالية الأميركية وحروبها الكونيّة، وقد زجّ عشرات ملايين المواطنين في القتال ضمن هذا النظام على مدى أكثر من نصف قرن، حتّى دفنت حرب فييتنام والزلزال السياسي الذي أحدثته هذه التجربة وأنهتها.

التجنيد والتسييس

قد يكون المؤرّخ العسكري الأميركي فيكتور دايفيس ــــ هانسون يمينيّاً وعنصرياً، وبعض نظرياته التاريخيّة مغرقة في الثقافويّة، غير أنّ هناك شيئاً قيّماً في كلامه عن «جيش المواطنين الأحرار»، كنموذجٍ ولد بالتوازي مع الحكومات الشعبية، من اليونان القديمة إلى جيش الثورة الفرنسية وجيوش الدّول\ الأمم في العصر الحديث. المعنى الحقيقي لـ«التطوّع»، لدى هانسون، هو في أن يقبل مواطنٌ حرّ بأن يخلع ثيابه المدنيّة ويتحوّل إلى عسكريّ لأن بلده طلب منه ذلك، ولأنّه يعتبر أنّ هذه السّلطة شرعيّة ويحقّ لها أن تطلب منه القتال. هذا النّمط من الجيوش، يدفع هانسون في أكثر من كتاب له، يؤمّن معيناً لا ينضب من الجّنود ــــ وبكلفةٍ رخيصة ــــ وقد كان يتفوّق غالباً على جيوش العبيد أو المرتزقة. هنا ايضاً، يقول العديد من الخبراء، يوجد تضليلٌ في تسمية الجيوش المحترفة بـ«جيوش تطوّعٍ» كما يفعل الأميركيّون، فأن تكون العسكريّة بمثابة «مهنة»، مقابل بدلٍ ماديّ وضمانات، هو أقرب إلى نموذج «المرتزقة» منه الى التطوّع (يروي كينيث غريفيث أنّه خلال الحرب العالمية الأولى، حين طرحت فكرة رفع الرواتب والحافز المادي لاجتذاب حاجة الجيش من «المتطوعين» والتخلّي عن التّجنيد، أجاب سيناتور أميركي بأنّ الرواتب حينها كانت أصلاً مرتفعة للغاية بالمقياس العالمي، وأنّ أيّ زيادةٍ لها ستضعها خارج نطاق المنطق ــــ وهو ما حصل بعد فييتنام، حين تحوّل الجيش الأميركي إلى فرصةٍ نادرة للشباب الفقير وغير المتعلّم، أو المهاجرين الجدد، لبدء حياةٍِ مهنيّة مقبولة أو الدراسة على حساب الدّولة).

كما يقول تشارلز تيللي، فإنّ للدولة علاقتين أساسيتين مع المجتمع، الأولى هي استخراج الضرائب (وهذه أساساً علاقة مع البرجوازية والأثرياء، الذين يدفعون أكثر الرسوم ويتحكمون بالاقتصاد) و، ثانياً، بناء الجيوش وشنّ الحرب ــــ والعلاقة هنا هي مع الشرائح الفقيرة من الشّعب. بهذا المعنى، حين تحوّلت أميركا إلى الجيش «المحترف» على الطريقة الرومانيّة فهي كانت، عمليّاً، تبتر علاقةً أساسيّة مع سواد النّاس، وتستغني عن حاجتها إليهم.

لم تكن حرب فييتنام مشكلة للدّولة من جهة الخسائر والاحتجاج فحسب، بل كانت اختباراً لحدود الديمقراطيّة في أميركا. الدّيمقراطية بالمعنى الليبرالي هي دائماً أسهل تطبيقاً كلّما كانت نخبويّة أو اقصائيّة (بمعنى أنّه من الأيسر لك أن تمارس الـ«ديمقراطية» في الجامعة الأميركية في بيروت، مثلاً، حيث الأكثرية تنتمي إلى طبقةٍ واحدة ومصالحها وثقافتها تتشابه، من أن تمارسها على مستوىً أوسع تختلط فيه الطبقات والأولويات والمشاكل). بالمعنى ذاته، فإنّ الجيش الأميركي والميليشيا، حين كان مكوّناً حصراً من مواطنين بيض، كان أكثر استقراراً من جيش فييتنام الذي كاد أن ينفجر بالتوتّرات العرقيّة. من الأمور التي يتجاهلها التاريخ الرسمي هو أنّ ما هزم أميركا في فييتنام لم يكن العدوّ وحده، بل ترهّل الجيش وفقدان الانضباط داخله، وهو ما تثبته التقارير العسكرية من تلك الفترة. وصلت الحالات التي اتّهم فيها جنودٌ (أكثرهم سود ومن الأقليات) بقتل ضبّاطهم (وغالبيّتهم من البيض) في فييتنام إلى ما يُقارب الألف، وهذه نسبةٌ مرتفعة بأيّ مقياس. بل إنّ المجنّدين، في السنوات الأخيرة للحرب، أصبحوا يرفضون صراحةً تنفيذ أوامر رؤسائهم حين تنطوي على خطرٍ عليهم. «جيش المواطنين»، حين أصبح يعكس تكوين المجتمع الأميركي حقيقةً، لم يعد قابلاً للاستمرار.

خاتمة

كما كتب جوزيف مسعد، فإنّ النّظر إلى التّجربة الأميركيّة كخطٍّ مستقيم صاعد، وتخيّلها كديمقراطيّة «تتفتّح باستمرار»، يعمينا عن التطوّر الفعلي للتجربة السياسية الأميركيّة (أنّ الوجه الآخر لإلغاء العبودية مثلاً، كانت قوانين الفصل العنصري، وأنّ إعطاء الحقوق المدنيّة قد تبعه مباشرةً تحويل المدن الأميركية إلى «غيتو»، وعزل السّود اقتصاديّاً واجتماعياً، الخ). نظرتي هي أنّ حرب فييتنام كانت مفصليّة في إبعاد عموم النّاس عن السياسة في أميركا، وانتفاء «حاجة» الدّولة إليهم وحصر العلاقة معهم بالضرائب والتصويت ــــ أو التحوّل المضطرد نحو نموذج الديمقراطيّة الشكليّة. من الممكن أن نرسم خطّاً سببياً بين اكتمال الجيش المحترف ووقف التجنيد من جهة، وبين انقلاب النّخب الحاكمة، منذ السبعينيات، على أكثر المكتسبات الاقتصادية التي تراكمت لعموم المواطنين، وعقد اتفاقات تجاريّة تضرب الطبقة العاملة، من دون اكتراثٍ للملايين الذين يتمّ أفقارهم ــــ أو خوفٍ من ردّة فعلهم. هذا النّمط الجديد، حيث الدّولة «مستقلّة» بالكامل عن أكثرية الناس، أعطى النّخب الحاكمة هامشاً هائلاً في تقرير السياسات، سواء على المستوى الداخلي أو على مستوى الحروب والمغامرات الخارجية (الفارق بين حالة فييتنام وبين فشل حركة «لا للحرب» في العراق ــــ على الرغم من كلّ التظاهرات والجّموع ــــ يكمن في الفارق بين الجيشين وعلاقتهما بالمجتمع).

الفكرة الأساس هنا هي عن طبيعة الديمقراطية والمشاركة الشعبية، وأنّ أحد أهمّ معاييرها يذهب إلى ما هو أبعد من شكل النّظام أو حقّ الاقتراع أو انتظام الانتخابات، وهو ما يسمّيه سمير أمين «تسييس الجماهير» ــــ و«الجيش الشعبي»، الحقيقي والذي يملك شرعية، هو أحد أهمّ أدوات «التسييس». ما أسقط الاتّحاد السوفياتي، في نظر أمين، كان الحكم البيروقراطي الذي أخرج النّاس من السياسة والتنظيم، فلم يخرج أحدٌ تقريباً للدفاع عن بلده حتّى وهو يُسرق أمام عينيه. ما يصنع الفارق بين النظامٍ الذي يسقط لدى أوّل تحدّ (كما حصل في عراق صدّام حسين) وبين ذاك الذي يصمد في وجه أعتى الظّروف، يبدأ في وجود شرائح شعبيّة تملك ايديولوجيا وتنظيماً، وتكون مستعدّة بقناعة للدفاع عن قضيّتها. أميركا، لأسبابها الخاصّة، تطوّرت صوب جيشٍ «نخبويٍّ» غير مسيّس، يتحكّم به الحكّام في واشنطن والمؤسسة الصناعية\ العسكرية بدرجةٍ عاليةٍ من الحريّة؛ ومواجهة التحدّي الأميركي تبدأ عبر فهم هذا الجّيش «الامبريالي» وتاريخه السياسي، ومعرفة مزاياه وحدوده.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/01/12

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد