آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
علي محمد فخرو
عن الكاتب :
مفكر بحريني

الاستزلام السياسي في أرض العرب


د. علي محمد فخرو
 
هناك فرق شاسع بين العبودية والاستزلام. فالعبودية بالنسبة للفرد أو الجماعة هي فرض إرادة الآخرين عليهم بدون رضى منهم. وفي العموم فإن الفرد العبد مثلا لا يقبل عبوديته، وهو عادة يقاومها إلى حين استرداده لحريته وكرامته الإنسانية.

أما الاستزلام فهو عبودية زائدا رضى طوعيا تاما لتلك العبودية، لأسباب انتهازية نفعية. إن الاستزلام يمارس عادة بلا خجل وبلا قيم تحكمه، بل إن ممارسه يعتقد أن ذلك شطارة وحنكة وفهم ذكي واقعي للحياة.

الأمر نفسه ينطبق كليا على الدول، ونراه الآن منتشرا بصورة لافتة في طول وعرض بلاد العرب. فالاستزلام الكلي أو الجزئي من قبل هذه الدولة العربية أو تلك لهذه الدولة الأجنبية أو تلك، أصبح ظاهرة محيرة تنبئ بكارثة قومية في المستقبل المنظور. إن مثل الممارسات الآتية، وهي منتقاة من بين العشرات المماثلة، لا يمكن فهمها إلا من منطق الاستزلام، إذ أن تلك الممارسات لا دخل لها بالمصالح الوطنية العليا، ولا بالالتزامات القومية العروبية، ولا حتى بمنطق السياسة الحصيفة.
مثلا، كيف يرتبط العرض الأمريكي، المسَمى «صفقة القرن»، الذي يراد من خلاله تكريس الهيمنة الصهيونية التامة على أرض وشعب فلسطين، وفتح أبواب الوطن العربي كله للاقتصاد والتعاون العسكري والاندماج السياسي التدريجي للعدو الوجودي الصهيوني، ليصبح جزءا مقبولا في المنظومة الإقليمية العربية، كيف يرتبط بدولة عربية لم تخوَل من قبل بقية الدول العربية للتحدث باسمها، ولم تخول من قبل الفلسطينيين، أصحاب الشأن وأصحاب المصلحة وضحايا العنصرية الصهيونية، لمناقشة العرض الأمريكي الاستعماري باسم سلطاتهم الرسمية أو باسم الملايين المهجرين اللاجئين؟ هل هناك تفسير غير القبول بالاستزلام البائس لأمريكا وللكيان الوظيفي الصهيوني من قبل جهات تنصب نفسها وصية على أمة العرب؟
فإذا كانت الصفقة هي في كل تفاصيلها المعروفة ضد المصالح العربية في فلسطين وفي خارجها، وكما أكدته القيادة الفلسطينية، فإن المنطق يقول بأن المروج والمسوق للصفقة لا يمكن إلا أن يخدم مصالحه غير المعلنة، وذلك على حساب أمته العربية والشعب الفلسطيني.

مثال ثان، هل يحق لأية دولة عربية، بدون تخويل من قبل الغالبية الساحقة من الدول العربية، الجلوس مع أمريكا، التي لم تراع الحق والأخلاق والتوازن في المصالح في كل تعاملاتها مع العرب طيلة السبعين سنة الماضية، ومع دول أوروبية، لها تاريخ استعماري أسود مع عدة شعوب عربية، ولها يد في تقسيم الوطن العربي عبر فضيحة وجريمة سايكس – بيكو الشهيرة؟ هل يحق لها أن تجلس مع مسؤولين من تلك الدول لترسم خريطة المستقبل السياسي لشعب عربي آخر؟ لو كان الأمر يتعلق بالحرص على مصلحة ذلك الشعب العربي المنكوب، فلماذا إذن لم تجر تلك المبادرة الغريبة المشبوهة بوجود ممثلين شرعيين لذلك الشعب؟ أو من خلال الجامعة العربية؟

لكن الأمر ليس كذلك وهو، مرة أخرى، لا يمكن فهمه إلا كاستزلام ذليل، إما من أجل مصالح أنانية قطرية ضيقة، أو من أجل رضى تلك الدول عن هذا النظام أو ذاك.

مثال ثالث، إذا كان العرب قد ارتكبوا حماقة القرن، عندما باركوا ودعموا ومولوا حلف الناتو الاستعماري، سواء بقصد أو بغير قصد، لتقوم قواته بدك مدن ومنشآت بلد عربي، وبقتل شعبه الأعزل وتمزيقه إلى قطع متصارعة متناثرة، فهل يحق لأية دولة عربية، بعد أن انكشفت النوايا والمؤامرات، أن تقحم نفسها في دعم هذا الفريق أو ذاك، بدلا من انتظار أو دعم مبادرة إقليمية قومية، أو على الأقل قرار من هيئة الأمم المتحدة، من أجل وحدة أرض وشعب ذلك البلد العربي المنكوب، وإخراجه من المحنة التي أدخله فيها الطامعون من جهة وقصيرو النظر من جهة ثانية؟

ألا تتم كل التدخلات المريبة، التي تمارسها بعض الدول العربية، بدون تخويل من أحد وبدون مظلة إقليمية قومية عروبية، بغير تنسيق وتناغم مع أعداء هذه الأمة الخارجيين أو الداخليين؟ وهذا التنسيق، ألا يعتبر كنوع من الاستزلام الوظيفي لخدمة هذه الجهة أو تلك؟
يسأل الإنسان نفسه كل يوم: ألا يكفي الأمة العربية أن تعاني مصائب التجزئة، والفساد، والاستبداد، وابتلاع المجتمعات المدنية في جوف الدول، وضمور التنمية الاقتصادية والإنسانية، وتدخل كل من هب ودب في شؤونها الحياتية، وضعفها المعيب أمام الجرائم الصهيونية، حتى تضاف إلى فواجعها ومآسيها ظاهرة الاستزلام الوظيفي من قبل هذه الدولة أو تلك لهذه الدولة الاستعمارية أو تلك؟ وهي ظاهرة تزداد كل يوم انتشارا وتفننا في التكوين والأساليب، ووضع ألف قناع وقناع لإخفاء مباذلها ومطابخ عرابيها.

ما يجب أن يعيه المواطنون العرب، المنهكون المغيبون التائهون في طرقات الأمور الطائفية والقبلية الصغيرة العبثية، أن الاستزلام هو مثل رذائل السرقة أو الكذب أو النفاق، تبدأ صغيرة، وتبرر بألف سبب مخادع للنفس والضمير، لكنها مع الوقت تصبح عادة وسلوكا مقبولين عند من يمارسها، ثم تصبح أمرا عاما عاديا فيه وجهة نظر، بل يدل على الذكاء والفطنة. يخطئ من يعتقد أن ممارسة الاستزلام الوظيفي ستكون مؤقتة في أرض العرب، إذ أصبحت موضة علاجية سهلة ورخيصة للوقوف في وجه هذا المد الإقليمي الأيديولوجي أو ذاك، أو لحسم الصراع مع هذه الدولة الإقليمية أو تلك. ما عادت هناك حاجة للنظر في النواقص الذاتية العربية وإصلاحها عند هؤلاء. الأسهل أصبح تدنيس كرامة الأمة والقضاء على ما تبقى لها من استقلالية وحرية، حتى أصبحنا في هلع من أن ننتقل قريبا إلى ممارسة رذيلة الدعارة السياسية في وجه هذا المد الإقليمي أو ذاك الذي يهدد المصالح العربية العليا أو المصالح القطرية الضيقة في هذا الموقع أو ذاك، ذلك أن تدنيس كرامة الأمة واستقلاليتها هو ممارسة للدعارة السياسية.

لن يستطيع المتحذلقون والانتهازيون إقناعنا بأن ما يجري اليوم في أرض العرب هو ممارسة للواقعية وللتوصيات المكيافيلية الشهيرة للتعامل مع السياسة. لو قام ماكيفيلي من قبره فانه سيحار في تصنيف ما تمارسه بعض الجهات العربية، فهو لم يدع قط لممارسة الاستزلام السياسي ولا الدعارة السياسية.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/02/08

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد