آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
علي محمد فخرو
عن الكاتب :
مفكر بحريني

جدلية الحقيقة ونصف الحقيقة

 

علي محمد فخرو

منذ فترة قرأت في طائرة سفر مقالا عن أن أول وأفدح ضحايا الحروب والصراعات هي الحقيقة. ذلك أن كل الأطراف المتحاربة ستسعى للتلاعب بها وستحاول إخفاءها من أجل تحقيق الانتصار المطلوب.

لكن ما لفت انتباهي هو وقوع كاتب المقال في المحظور نفسه، فلقد أشار بأصابع الاتهام والنقد إلى ثلاث جهات، عربية وإقليمية ودولية، تمارس طمس ما اعتبرها الكاتب حقائق تتعلق بالصراعات العسكرية والسياسية، في ما بين تلك الجهات الثلاث كمحور واحد، ومن يواجهونها ويتصدون لها من جهات عربية وإقليمية ودولية أخرى. فالكاتب لم يترك شاردة ولا واردة، مما تحاول طمسه من حقائق تلك الجهات الثلاث المتهمة، إلا وذكرها وفنّدها، لكنه وقع في مطب الموضوعية المنحازة الانتقائية عندما لم يذكر ولا حتى ممارسة واحدة من طمس الحقائق من قبل المعسكر المقابل، الذي على ما يبدو، إما يناصره، أو على الأغلب، يخاف من عواقب نقده وإظهار عيوبه.

هنا، مع الأسف، يسقط قناع البعض من المثقفين العرب: فهم يفتشون عن حقيقة أخطاء وخطايا وبلادات الغير، وفي الوقت نفسه هم يمارسون إخفاء وطمس حقيقة أخطاء وخطايا وبلادات المعسكرات التي ينتمون إليها أو يخافون من بطشها المادي والمعنوي. الآن، في أجواء الظلام الذي يخيم على مجتمعات أمة العرب، سواء بسبب ظاهرة الاستقطابات المذهبية الطائفية الحادة، أو بسبب ما تمليه الصراعات السياسية والأمنية المجنونة، أو بسبب الرعب والخوف الذي يملأ أرض العرب بسبب تنامي العنف والإرهاب وما يولده من ردود أفعال من قبل هذه الجهة أو تلك، في أجواء كهذه تمارس مجموعة متنامية من مثقفي وكتاب وناشطي السياسة في بلاد العرب الظاهرة المجروحة نفسها التي نتحدث عنها.

تتعدد الأسباب، ولكن ظاهرة طمس الحقيقة تمارسها أعداد متنامية من الجهات والقوى والقيادات يوما بعد يوم، حتى أصبح التلفيق والكذب وإعطاء نصف الحقيقة وإخفاء النصف الآخر عادة مترسخة في حياتنا العربية الحالية. وأصبح الكثير من الكتابات والخطابات السمعية والبصرية ومواعظ المساجد والمآتم وأحاديث المجالس تمارس تلك العادة وتبرر ممارستها بألف حجة وحجة. وإذا كان كاتب المقال قد ركز على الحروب، وما تقود إليه من ضياع للحقيقة، فإن الأسباب الأخرى التي تنخر الجسد العربي لا تقل أهمية. هناك الفساد وانعدام الشفافية، وغياب المحاسبة والهيمنة على البرلمانات، وندرة الشرعية الديمقراطية وغيرها كثير، جميعها تقود إلى ضياع الحقيقة أو تزويرها أو إلباسها ألف قناع وقناع، مثل القناع الديني أو العرقي أو القبلي أو التاريخي.

أصبح إخفاء الحقيقة وممارسة الكذب، وباء ينتشر في ساحات الحروب البينية العربية، وفي بؤر الصراعات التي تتواجد فيها الجماعات الإرهابية الملتحفة برداء دين الإسلام زورا وبهتانا، وفي معارك الخلافات السياسية العربية والإقليمية المتناغمة مع مخططات الخارج بالوكالة. أصبح إخفاء الحقيقة وتزوير التاريخ سمة من سمات النظر في مواضيع قومية، كالموضوع الفلسطيني. أصبح تزوير التاريخ مقبولا عند البعض، وأصبحت الضحية المنهكة هي الملامة، والغاصب المجرم الصهيوني هو الضحية. في عالم الكذب يضيع الشرف وتختفي المروءة ويهيمن التوحُش الحيواني، لا حاجة هنا لوجود حرب، إذ يكفي وجود الانتهازية الطامعة في العطايا والمراكز والوجاهة، بل انتقل مرض إخفاء الحقيقة إلى أنظمة التواصل الاجتماعي في بلاد العرب، في شكل سكوت عن جريمة أو تعاطف غير صادق، أو دفاع تبريري عن جرائم، وما عاد الإنسان يعرف من يصدق ومن يكذب، ذلك أن ممارسة كشف طمس الحقيقة عند الغير، وعدم التعرض لطمس الحقيقة عند الجماعة أو القبيلة أو الحكومة أو علماء الدين، من الذين ينتمي لهم المتحدث، أصبح كارثة اجتماعية في بلاد العرب.

في الماضي قرأت قولا لأحدهم بأنه لا توجد حقيقة في الواقع، وإنما الذي يوجد دوما هو نصف الحقيقة. لقد احتقرت قائل ذلك القول في حينه. اليوم أسأل نفسي: هل كان صاحب ذلك القول يقرأ ما ستصل إلية أمة العرب في أيامنا التي نعيش؟
لكن هناك قولا شهيرا بأن الحقيقة تحرر من يطلبها ولا يقبل أنصاف الحقائق بديلا عنها. من حسن حظ هذه الأمة أن لا يزال فيها من يمارسون تلك الفضيلة.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/05/10

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد