آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. وفيق إبراهيم
عن الكاتب :
باحث استراتيجي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

نقل السفارة الأميركية.. مؤشر ضعف لا قوة!

 
د. وفيق إبراهيم

يعكسُ الخطاب الأخير للسيد حسن نصر الله الوصف الدقيق لتطوّر المواجهة بين المقاومة من جهة والحلف الأميركي ـ الإسرائيلي ومحوره العربي ـ الخليجي المتساقط من جهة أخرى.

فبدا وكأنه يعلن إعادة إحياء للقضية الفلسطينية من خلال نتائج ميادين القتال في لبنان وسورية والعراق واليمن، على قاعدة أنّ المشروع الأميركي كان يستحوذ ومنذ 1990 على كامل المنطقة العربية والمحاور الفلسطينية، متجهاً بسرعة قطار أهوج لتفتيتها كيانات مبعثرة واهنة، أراد الأميركيون إلغاء قضية فلسطين بما هي مسألة تاريخية مستمرّة تجمع دينياً بين المسيحية والإسلام، ووطنياً بين سورية والعرب وفلسطين وتسهم في «محورة» المنطقة حولها.

فهل نجحوا؟

أولاً، ذهب الجيوبولتيك الأميركي في اتجاه إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط في إطار كيانات سياسية صغيرة وجديدة تجعلُ منها دمىً تعمل لإطالة عمر الأحادية الأميركية فقط.

فكان أنّ بدأت السياسة الأميركية بتطبيق الخطة التالية:

ـ الإمساك الكلي بدول العالم الإسلامي والخليج والأردن وآسيا، ومصر والقضاء على البؤر المحايدة.

ـ استخدام تيارات الإسلام الوهابي والإخواني والتقليدي من خلال الدول والمحاور الممسكة بها، لتحويل طبيعة الصراع عن عربي، إسرائيلي أو يهودي إسلامي إلى وجهات جديدة تُسهم في فكفكة العرب والمسلمين إلى مذاهب وأعراق.. فتبدّلت وجهة الصراع إلى عربي ـ فارسي بقدرة الولي الأميركي.

ـ ضربُ المقاومة في لبنان وفلسطين.

ـ تفكيك العراق وسورية ومصر واليمن وليبيا وتونس.

ـ إنهاء القضية الفلسطينية كناتج طبيعي بعد سقوط كل العناصر التي تتضمّنها أو تحيط بها عربياً وإسلامياً ودولياً، فتأتي هذه النهاية ناتجاً طبيعياً لتفكك عربي ـ إسلامي عام. وليس مؤسساً له لأن لا قدرة لديها على ذلك.

.. في البداية نجحت السياسة الأميركية باحتواء كامل العالمين العربي والإسلامي باستثناء إيران وسورية.

.. أما ما ساعدهم فهو اختفاء المنافس الدولي الروسي أو الصيني والأوروبي.

وخلوّ الساحة هذا، ألغى كل أنواع الاعتراض والهمهمات فانتظم «العربان» حول شيخ البيت الأبيض جاذبين معهم بقوة الحرمين الشريفين معظم العالم الإسلامي والقسم الأكبر من التيارات الفلسطينية. ضمن خطتهم هذه، احتلّ الأميركيون أفغانستان والعراق، وبسحر ساحر، ابتدأت المنطقة تغلي بصراعات مخترعة، حول الخلافات السنية ـ الشيعية والمسيحية ـ الإسلامية، مع تصعيد في الخلاف الكردي ـ العربي والفارسي – العربي من دون وجود عناصر فعلية تجعل هذا النوع من الصراعات مسألة طبيعية قابلة للعيش، لأن الكردي والعربي والمسلم الشيعي والسني والفارسي والبربري إنما هم ضحايا لأنظمة سياسية اخترعها الغرب الأميركي والأوروبي ولا يزال يوفر لها الحماية والاستمرار.. وهذا يعني أنّ الخلاف يجب أنّ يبقى بين مكوّنات العالم العربي والإسلامي وبين الأنظمة وحماتها الغربيين. لذلك فإن تغيير طبيعة الصراع يخدمُ الخطة الأميركية الجديدة لا مصالح القوميات والفئات الداخلية.

ولدعم هذا التغيير في وجهات الصراع، استلزم وضع إمكانات الإسلام التقليدي الأزهر والوهابي والإخواني في خدمة الفتنة السنية ـ الشيعية. فبدت المنطقة العراقية ـ السورية ـ الخليجية، ميادين لبراكين المذاهب تُلقي حِمَمَ التفريق والتكفير على حسابات قضايا التطور الداخلي وتحرير المناطق المحتلة ومجاراة ركب الحداثة والإصرار على التموضع في القرون الوسطى.

بيد أنّ مشروعهم تعثر في 2006 في جنوب لبنان، حيث نجح مقاوموه في إلحاق هزيمة شنيعة بالعدو الإسرائيلي الذي حاول، في إطار تطبيق المشروع الأميركي القضاء على الرغم من التأييد الخليجي والمصري والأردني له بدرجات متفاوتة، يكفي هنا ذكر إصرار أبو الغيط الذي كان وزيراً مصرياً في حينه، على أنّ المقاومة قد هُزمت رافضاً الاعتراف بانتصارها، أو بغمزات عبد الله الأردني عمّا أسماه الهلال الشيعي. من دون نسيان البيان الرسمي السعودي الذي رأى أنّ حرب 2006 ليست إلا مغامرة لحزب الله تهدّد العرب.

إنّ مَن يقرأ هذه التصريحات «اليوم» يفهم مدى ارتباطها بالمشروع الأميركي للتفتيت.

لذلك فإن انتصار المقاومة، شكّل اللاجم الأول الذي كبحَ جماح المشروع الأميركي… لكنه لم يُلغهِ نهائياً.

فذهب الأميركيون في كل الاتجاهات محاولين تفتيت العراق وأفغانستان ومصر بواسطة الإخوان المسلمين الذين رأى البعض منهم أنّ تنظيم هجمات على الأقباط أكثر أهمية من استهداف الإسرائيلي، بالإضافة إلى أنّ ضرب الشيعة أكثر نفعاً من مجابهة الأنظمة.

كما جرت محاولات بناء سلطة فلسطينية موالية للسعودية والبيت الأبيض. لكن «غزة» «الشَّموس» شكلت استثناء وعصت بقطاعها على لعبة الانهيار الأميركية السعودية الفلسطينية السلطة .

لجهة العامل الإضافي الذي كان الأميركيون يعملون عليه فهو تدمير سورية وتفكيكها. وكانوا يعتقدون أنّ تفتيتها يؤدي تلقائياً إلى إنهاء القضية الفلسطينية وتقسيم العراق وكامل المشرق العربي. وهذا أساس ما رمت إليه الخطة الأميركية.

لكن تضافر جهود الدولة السورية وإيران وحزب الله، ولاحقاً الدور الروسي الكبير والمنظمات الوطنية والقومية الحليفة.. هؤلاء جعلوا سورية عصية على المشروع الأميركي متمكنين من مجابهة مئات آلاف الإرهابيين من متخرّجي الوهابية والإخوان والقاعدة، كانوا يتحركون من وحدود سياسية مفتوحة من تركيا والأردن ولبنان والعراق الذي لم يكن قد تحرّر بعد، والجولان السوري الذي تحتله «إسرائيل».

الميدان السوري إذاً هو المعرقل الفعلي لمشروع البيت الأبيض.. وهو الذي أصاب الأميركيين بخيبة أمل وإحباط كبيرين، فلم يسبق أن جرى دعم فئات إرهابية بهذا الكم الكبير من السلاح والمال والدعم الأيديولوجي الذي قسم العالم العربي شيعاً وعصائب، ولم تنتصر.. ولم يسبق أنّ جرى تطويق بلد كسورية من كامل متنفساتها السياسية والاقتصادية ولم يتهالك.. وحدها بلاد الشام، بهمم جنودها ومقاتلي حزب الله تصدّوا منفردين لهذا الكم الإرهابي الكبير المدعوم أيضاً على مستوى الإعلام من مئات المحطات الخليجية والتركية والمصرية والغربية التي تمكنت من أحداث شرخ مذهبي ضرب نوعاً من العمى المؤقت في المجتمعات الإسلامية التي كادت تصدّقُ حكايات الصراع المذهبي في مجتمعاتها، واولوياته على الصراع مع العدو.

إنّ هذا التقهقر الأميركي في سورية، جعل مخططي البيت الأبيض يذهبون إلى الأهداف من دون تأمين مستلزماتها التي كانت ترى في سقوط الشام مدخلاً إلى اعتقال المشرق العربي لقرنين مقبلين.

لقد رأى الأميركيون أن إعلان نقل سفارتهم إلى القدس المحتلة ضربة استباقية، مضطرين لتنفيذها بعد الاستعصاء السوري المدعوم أيضاً من الجانب الروسي. وأرادوا إحراج حلفائهم العرب والمسلمين، لإحداث قطيعة بينهم وبين التيارات المؤيدة للقضية الفلسطينية… وبالفعل فقد أصاب هذا الإعلان الأميركي العرب بخرس وصَمَم ضارباً «نقاب الحياء» والخجل على العالم الإسلامي.

فهل أدّى غرضه؟ بالطبع لا.. غزة قالت لا.. بدماء مجاهديها والسيد نصر الله أعلن من جهته عن تطور القتال في سورية في مواجهة «إسرائيل» من قذيفة المدفع البسيط إلى صواريخ لا تُقهر.. ومن الجولان السوري المحتل إلى قلب فلسطين المحتلة في مدن إسرائيلية.

وهذا ما سيؤدي إلى مرحلة الاندفاعة الخليجية ـ الإسلامية تحت وطأة الانكشاف أمام شعوبها. ولا بدّ أنّ يلجم «رزانة» السلطة الفلسطينية المشبوهة التي تصدر تعليقات رافضة للمقررات الأميركية، إنما بالكثير من الرزانة والاتزان في وقت تحتاج المرحلة فيه إلى كثير من الشراسة لحماية الأوطان.

لذلك فإن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، قرار يعكس فشل المشروع الأميركي الأكبر، بتفتيت سورية والمنطقة، وليس له قيمة على مستوى القانون الدولي الذي يعتبر القدس أراضي محتلة منذ 1967… وقد تنجذب دول أخرى للاعتراف بإسرائيلية القدس، لكنها لن تشكل أمراً واقعاً لأن الأمور ذاهبة إلى تمرّد إسلامي عربي على هذا الجنون الأميركي يؤسس له الخطاب الأخير لسيد المقاومة حسن نصر الله الذي كشف أنّ القضية الفلسطينية مستمرة بأهلها والصواريخ القادرة على إصابة المدن والعدو الذي يزعم أنه لا يُقهر.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/05/16

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد