آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. هشام أحمد فرارجة
عن الكاتب :
أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية

بين كورية الشمالية وإيرانْ جنون العظمة أم عظمة الجنون


د. هشام أحمد فرارجة

  تتسارع الإحداث على المسرح الدولي وكأنها مسرحية درامية تتكشف فصولها، الواحد تلو الآخر، باعثة الإثارة والدهشة في العالم من حولها، لما فيها من تفاصيل مركبة ومفاجآت متتابعة.

  لم يتم اختيار مثل هذه الاستعارات في المقدمة جزافا أو صدفة. بل على العكس، قد يحار أبرع المراقبين وأدق المحللين في الكيفية التي يمكن أن يتعاطوا فيها مع نظام دولي يتربع على أحد أقطابه من له باع طولى في معترك مسلسلات الشهرة والنجومية، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فإذا ما كانت إخفاقات ترامب السياسية والشخصية لا تعد ولا تحصى، إلا أنه، وبجدارة، يتفوق عادة في قدرته على لفت الأنظار وأسر انتباه من حوله، بغض النظر عن الوسائل التي يلجأ اليها لتحقيق ذلك. فشخصية نرجسية جوهرها ذاتها، كتلك التي يجسدها ترامب، تعنى أكثر ما تعنى بالظهور والاستعراض وخطف الأضواء.

  هكذا تبدو الكيفية التي قام بها ترامب بصياغة سياسته الخارجية تجاه إيران، من ناحية، وتجاه كورية الشمالية، من ناحية أخرى. ففحوى سياسة ترامب تجاه إيران يتمثل في تمايزه بتنفيذ وعوده الانتخابية، وباتخاذه قرار انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه عام 1915، رغم تحذيرات الكثيرين من المسؤولين والمراقبين الأمريكيين، وكذلك العديد من الحلفاء الأوروبيين الذين تقاطروا على واشنطن لإقناعه بالعدول عن تهديداته. غاية الانسحاب من هذا الاتفاق الدولي مع إيران هي تبيان عظمة القائد الذي يختلف عن كل سابقيه من السياسيين والمرشحين الذين يطلقون الوعود من أجل كسب أصوات الناخبين فقط، دون أن يلتزموا بالضرورة بتنفيذ ما تعهدوا به. ولكي ينزلق في الوحل أكثر، أطلق ترامب العنان لوزير خارجيته الجديد، ذي الخلفية الاستخبارية كمدير سابق لوكالة الاستخبارات المركزية، مايك بومبيو، لإعلان عقوبات اقتصادية تاريخية غير مسبوقة على إيران ولطرح الاثني عشر شرطا إسرائيليا تعجيزيا، والمطلوب من إيران الامتثال لها.

  فإذا ما كان يمكن اعتبار الانسحاب من الاتفاق النووي تتويجا لجنون العظمة عند ترامب، كون ذلك الاتفاق دوليا وبعضوية بعض حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، فان شن الحرب الاقتصادية ضد إيران، تمهيدا لما قد يتبعها عادة من حرب عسكرية، يعتبر مغالاة حقيقية في الجنون وتجسيدا لعظمته. فالاعتقاد أن العقوبات الاقتصادية سوف تخلق بلبلة داخلية في إيران، ومن ثم سوف تزعزع أركان نظام الحكم، مما سيثني إيران عن الانخراط في المسائل الإقليمية، سواء في العراق، سوريا، لبنان، أو في اليمن، لهو من دروب الأوهام. هذه الفرضية تبدو وكأنها سحبت من دليل سياسي معد مسبقا للتعامل مع الدول التي توجد بينها وبين الولايات المتحدة خصومة ما. ولكن سرعان ما ستبان مواطن فشل هذه الفرضية في الحالة الإيرانية، تماما كما فشلت في سوريا والعراق، ومن قبلهما في كوبا وفنزويلا وسواها.

  ستكون نتائج هذه الحرب الاقتصادية على إيران مغايرة تماما لما يتوهمه ترامب وإدارته، حتى وأن عظمت آلته العسكرية وطموحه في أن يظهر كأعظم قائد عرفه التاريخ الأمريكي. فعلى أقل تقدير، سوف تدفع هذه السياسة المجتمع الإيراني، بشقيه السياسي والمدني، نحو المزيد من الأصولية واتخاذ المواقف الأكثر تطرفا وحدة نحو الولايات المتحدة. وليس من قبيل المبالغة أن يقال أن هذه السياسة الأمريكية سوف تقود في الغالب إلى تسريع النظام السياسي في أيران لحيازة السلاح النووي، كون أحد أهم أقطاب الاتفاق الخاص بهذا الشأن قد انسحب منه أحاديا، وكأداة للردع في حال تعرضت إيران لهجوم عسكري. ومن ناحية أخرى، فانه يتوقع أن تقوم إيران بتعزيز نفوذها وإمكاناتها الإقليمية أكثر من أي وقت مضى، أيضا تحسبا لما قد تتعرض له من هجمات. وبالإضافة إلى ذلك، فأنه يتوقع أن تشهد علاقات الولايات المتحدة المزيد من التوتر مع بعض حلفائها الأوروبيين التقليديين، خاصة إذا ما قامت إدارة ترامب بمقاطعة الشركات الأوروبية التي تستمر في علاقاتها التجارية والمالية مع إيران.

إذن، أن الرغبة الجامحة في أبراز عظمة القائد الفذ، كما يحلو لترامب أن يتخيل نفسه، ستؤدي إلى زعزعة استقرار الإقليم بكامله، ولربما العالم أجمع، حسبما تتدحرج الأمور في حال حدوث مواجهة عسكرية في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية وأشدها خطورة. وإذا ما صحّ أحد التقارير الذي يورد أن الولايات المتحدة قد قامت مؤخرا بنقل كميات هائلة من القذائف إلى إحدى البلدان المجاورة لإيران، والتي من بينها عشرات القنابل العملاقة على شاكلة تلك التي جربتها الآلة العسكرية الأمريكية في أفغانستان بعيد تسلم ترامب إدارة البيت الأبيض، فان هذا يعني أن المنطقة أمام مجموعة من التطورات المصيرية التي قد يتسبب بها هذا الاندفاع المحموم للسيطرة على الغير ومقدراته. فما لم يعلنه، ولكن لا شك يفكر به ترامب هو حجم ما لدى إيران من مقدرات وثروات ومواردّ لا سيما النفطية منها.

  وبالنسبة لكورية الشمالية، فان الأمر ليس بأفضل حال. فانطلاقا من التمحور حول الذات، اعتقد ترامب، خاطئا، أن تهديداته هي التي دفعت برئيس كورية الشمالية، كيم يونج أون ورئيس كورية الجنوبية، مون جاي-ين للقاء، ومن ثم إلى أجبار الرئيس كيم للدخول في مناورات تفاوضية مع إدارته. ولربما أحس ترامب بأنه يقترب من ذروة نشوته وأعلى درجات عظمته باعتقاده أن قمة تاريخية، غير مسبوقة، سوف تعقد بينه وبين رئيس كورية الشمالية، بحيث تتنازل فيها كورية عن ترسانتها العسكرية وخاصة برنامجها النووي، اسوة بالسيناريو الليبي. لم يدرك ترامب أن قيادتي كورية الشمالية والجنوبية في الغالب التقتا من أجل تنسيق المواقف بينهما، ادراكا من قبل الطرفين لما يشكله ترامب على بلديهما من مخاطر في حال اندلاع مواجهة عسكرية في شبه الجزيرة الكورية. ولم يدرك ترامب، على ما يبدو، بأن تهديداته ووعيده لكورية الشمالية، وأن اهاناته لرئيسها عدة مرات قد دفعت بالرئيس كيم لكي يوهم ترامب أن الأجواء مناسبة لصعوده إلى أعلى الشجرة، حتى لينزله عنها “مخوزقا” سياسيا، داخل الولايات المتحدة وفي العالم أجمع.

  لا أحد يستطيع أن يستقرء مستقبل العلاقات الأمريكية مع كورية الشمالية بدقة. ولا أحد يستطيع أن يجزم أن ما كانت القمة الموهومة لدى ترامب سوف يتم عقدها مع الرئيس الكوري الشمالي. ولكن، إذا ما كانت المؤشرات كافية للحكم، فان قمة من هذا القبيل تبدو سرابا أكثر منها حقيقة. وحتى في أحسن الأحوال، لو عقدت، لن تكون ذلك المسرح الذي طالما حلم به وانتظره ترامب لكي يستعرض انجازاته الفذة ويتباهى بها على الملأ. لن تكون كورية الشمالية ليبيا ثانية. وفيض النشوة الذي أحس به ترامب في أحد مسلسلات هذه العلاقة سرعان ما قد يتحول من جديد إلى ذلك الاندفاع المعهود من الاهانات والتهديدات، ولربما المواجهات.

  ليس مقبولا لدى ترامب بأن يظهر كالخاسر في كلتا هاتين الحالتين، إيران وكورية الشمالية. وعادة، فان محاولة البرهنة على النجاح وعدم الفشل قد تأخذ شكل صب الغضب والحمم على الطرف الذي يعتقد أنه تسبب بالفشل لدى القائد الفذ. بتعبير آخر، أن على العالم أن يتأهب للتعامل مع مجموعة من الأحداث الجسام التي ستفرضها تخبطات ترامب واندفاعاته الشخصية وعدم خبرته، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بحث ترامب المستميت عن طوق نجاة بسبب كون الدائرة القانونية من حوله، والتي قد تهدد مستقبله السياسي، ولربما تطيح به من الرئاسة.

  الخطر الحقيقي يكمن في أن يفكر ترامب في يغرق العالم معه إذا ما تمت الإطاحة به. إيران وكورية الشمالية قد تكونان الذريعتين اللتين يمكن أن يحاول ترامب التسلل من خلالهما، أما لإنقاذ نفسه داخليا عن طريق إشغال المؤسسة الأمريكية والمجتمع الأمريكي بحروب طاحنة لا تتيح المجال للتفرغ للهموم المحلية، أو لجر العالم برمته إلى ما لا تحمد عقباه من تطورات وانهيارات. وفي كلتا الحالتين، يكون هذا الخليط بين جنون العظمة وعظمة الجنون هو الذي سيملي سياسات عليا بأبعاد فارقة، تماما كما أن معظم القرارات والسياسات التي يتخذها ترامب حتى الآن، داخليا ودوليا، تعكس بالدرجة الرئيسية تخبطات شخصية، أكثر من كونها تعبر عن حسابات استراتيجية موزونة. فهل على العالم أن ينتظر حتى يستفيق على فعلة من لا يعير لنتائج أفعاله أهمية، من هو محاط بمجموعة من صقور الحرب في إدارته؟! فحال العالم اليوم ينطبق عليه المثل العربي الذي يقولْ “مجنون يرمي حجرا في بئر، ومائة عاقل لا يستطيعون إخراجه”.

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/05/25

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد