آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
آسيا العتروس
عن الكاتب :
كاتبة وصحافية تونسية

شباب يحترق بين نيران إرهاب “الدواعش” وإرهاب قوارب الموت


أسيا العتروس

لم تعد لغة الأرقام تعني شيئا أمام هول المشهد , أن يكون غريقا أو عشرة أو خمسين غريقا فحجم الفاجعة التي صدمت مجددا التونسيين ما انفكت تؤكد تعقيدات المشهد الذي تعجز مختلف الأطراف الرسمية وغير الرسمية عن منع تكراره في بلد عاش على وقع ثورة أبهرت العالم ولكنها ثورة ستدفع بالشباب الذي كان في صدارة المشهد إلى الاختيار بين الوباء أو الطاعون بمعنى أنه سيكون عليه أما الارتماء في أحضان الشبكات الإرهابية أو اللهث وراء قوارب و سفن الموت هربا من واقعه السوداوي أمام تفاقم البطالة والتهميش وغياب البدائل …واقع سيتعين ربما تحمل تداعياته طويلا قبل أن تتحمل كل الأطراف الرسمية والشعبية مسؤولياتها بدءا بالمؤسسة التربوية والثقافية والاجتماعية مرورا بمؤسسات صنع القرار والبحث عن عدالة اجتماعية تقلص الفوارق و تؤسس للمساواة في الفرص بين الجميع …ما حدث في جزيرة قرقنة نهاية الأسبوع لم يكن الحادث الأول من نوعه ولن يكون حتما الأخير…

 المشهد مؤلم وقاتم وتعجز معه كل اللغات عن نقل حجم المأساة أمام لوعة الأهالي وهم يبحثون بين الجثث النافقة عن فلذات أكبادهم, وهو مؤلم أيضا أمام عجز السلطات التي تقف لتحيين قائمة الضحايا و المفقودين و تتوعد المسؤولين عن سفن الموت

 الحقيقة أنه وبرغم تواتر الماسي في السنوات الماضية يظل المشهد أصعب وأعقد من التعاطي معه كحدث يمكن أن يدخل إطار العادة والمألوف …ما حدث على السواحل التونسية بالأمس تكرر أيضا على السواحل التركية ومن قبلها على السواحل الليبية والسورية واليونانية والأرجح أن الماسي ستستمر في ظل استمرار الأسباب والدوافع التي تدفع بالمهاجرين إلى ركوب الخط ولكن أيضا في ظل استمرار السياسات الأوروبية والخيارات المجحفة .والأفظع الصمت المريب بشأن ظروف وملابسات إبحار نحو مأتي نفر دون أن يثير ذلك الشكوك أو الريبة والأخطر أن  يختفي المسؤولون وينشغلوا بزيارة الأسواق و تدشين الفنادق الحلال وكأن قرقنة ليست جزءا من البلاد التي يديرون شؤونها …

..المتوسط وبدل أن يكون جسرا للفرص الاستثمارية في مختلف المجالات بين الشمال والجنوب بات مقبرة للشباب الذي يدفع ثمن فشل النخب والحكام ولكن أيضا ثمن سياسة المعايير المزدوجة للقوى الكبرى والقوى الاستعمارية السابقة التي تريد لدول الجنوب أن تكون الشرطي الحارس لأمنها و مصالحها في وجه الهجرة غير الشرعية و مافيا السلاح وعصابات المخدرات …

من المسؤول عن نزيف سفن الموت وكيف يمكن الحد من الظاهرة أو تطويقها؟ الأكيد أنه لا أحد اليوم يملك إجابة مقنعة للقطع مع رحلات الموت المدفوع الأجر, بل لعل في صرخات الآباء وهم يواجهون الأمر الجلل ما يدفع إلى طرح السؤال ذاته كلما تعلق الأمر بشبكات الإرهاب التي تستقطب الشباب وتجعل منهم قنابل موقوتة قابلة للانفجار في كل حين في المجتمعات التي ينتمون لها …وفي ذلك ما يؤكد هذه الحقيقة وهي أن غول الهجرة غير الشرعية  كغول الإرهاب يخطف الشباب وحتى الأطفال في غفلة من ذويهم , أباء ملتاعون يرددون أن ابنائهم لم يكشفوا يوما عن رغبة في الهجرة وأن بينهم من لا يشكو بطالة أو تهميشا … مرة أخرى يكون تجار البشر على الموعد ليستثمروا في ماسي فئة مهوسة بالرحيل لم تعد تجد في أوطانها ما يدفعها للثبات والتمسك بالجذور التي تنتمي لها للبحث عن بدائل أو   ليوقعوا عبر سفن الموت أطوار مأساة جديدة تضاف لسلسلة ماسي البحر السابقة ورحلات الموت اليومية المحملة بأحلام شباب اختار عن وعي أو عن غير وعي المقامرة للقطع مع واقعه والتطلع إلى موقع تحت الشمس فانتهى به الأمر إلى قاع البحر…مشهد بات يتكرر على شواطئنا ليعمق جروح عائلات الضحايا ويفاقم النزيف والآلام..وإذا كان المتوسط مقبرة المهاجرين غير الشرعيين فأن تونس بلد الثورة التي أبهرت العالم باتت المنصة لانطلاق قوافل المهاجرين المغادرين تحت جنح الظلام وبين هؤلاء شباب و أطفال ونساء حوامل …قد يكون لكل حلمه وقد يكون لكل هدفه عندما قرر ركوب البحر والاستعداد لكل الاحتمالات ذلك أن نسبة الوصول سالما إلى الضفة الأخرى ليست أكبر من احتمال الغرق

من الواضح أنه لا شيء اليوم يمكن أن يوقف النزيف الجديد الذي لا يقل خطورة عن الإرهاب الأسود في أبشع مظاهره ولاشيء يمكن أن يمنع تكرار المأساة التي تحولت إلى ماسي, وقبل حتى أن يندمل جراح عائلات من سبق من الضحايا إلا ويتكرر السيناريو مع لوعة الأهالي أمام هول المشهد وانتشار الجثث التي لفظها البحر على الشاطئ فيما يظل أهالي المفقودين  يتطلعون إلى أمل عسى أن يكون أبناؤهم على قيد الحياة ..

ما حدث نهاية الأسبوع في جزيرة قرقنة ليس المأساة الأولى ولن يكون حتما الأخيرة في زمن بات فيها سياسة الهروب إلى المجهول خيار أمام جيل من الشباب تساوى أمامه الموت والعدم بعد أن فقد الثقة في محيطه ونخبه وبيئته ..شباب غابت عنه البدائل فألقى بنفسه إلى جحيم قوارب الموت على أمل الوصول إلى الضفة الأخرى للمتوسط حيث يتوهم أنه سيجد الجنة في انتظاره و سيجد بدل فرصة العمل مات الفرص للكسب …من المتناقضات التي كشفتها ماسي سفن الموت أن التجنيس الذي كان عارا يلاحق أصحابه خلال مرحلة النضال من أجل الاستقلال أصبح حلم أجيال الاستقلال وهدفها  الأول في الحياة سواء كان ثمن التجنيس رحلة الموت عبر سفن وقوارب الموت أو الارتباط بأوروبيات في سن الأم أو الجدة أو غير ذلك من الأسباب ..

شهادة أحد الناجين الذي كان يردد أنه ميت بالحياة في مدينته المنسية من خارطة التنمية فقد اختار المقامرة عن طريق البحر فأما موت وأما حياة و في ذلك ما يختزل  تجربة الكثيرين أيضا الذين يتبنون نفس الموقف هروبا من الواقع …

وربما فات هؤلاء الشباب المغرر بهم أن أوروبا اليوم ليست أوروبا الأمس وأن صعود اليمين .المتطرف في أوروبا سيتجه إلى استهداف هؤلاء حتى وأن أدى الأمر إلى تعمد إغراق هذه السفن والتخلص من أصحابها في قاع البحر ..

كيف يمكن إعادة الثقة في النفوس وكيف يمكن طي صفحة الماسي وكيف يمكن الرهان على شباب فاعل في تونس ؟ الأكيد أن الحل الأمني أساسي لضرب يد تجار البشر وسماسرة  الأحلام الذين ينظمون رحلات الموت والأكيد أن هناك إخلال أمني كبير إذ كيف أمكن لمائتي شخص الالتقاء وركوب البحر دون تسرب معلومة واحدة عنهم و ربما أن الأوان للكشف عن كل الأطراف التي تتستر على هذه العصابات وتسمح لها بتكرار الماسي … ولكن الأكيد أيضا أن النخبة الحاكمة الغارقة في صراعاتها الانتخابية المبكرة لم ترتق بعد إلى حجم المأساة ولم تستوعب بعد دروس المرحلة …

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/06/07

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد