آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

التفوق العسكري وحده لا يحسم الصراعات


د. سعيد الشهابي

تتجسد السنن الكونية (أو القوانين الطبيعية كما يحلو للبعض تسميتها) يوميا في كافة جوانب الحياة، ولكن القليل من يدركها أو يتدبرها. ويمكن القول أن سنة التوازن هي الأكثر تجليا ووضوحا لمن أراد أن يمعن النظر في ما حوله من أنواع الحياة. تتجسد هذه الظاهرة في عالم السياسة بوضوح، بشكل تلقائي وبدون تخطيط بشري. ولقد أدركت القوى الكبرى ضرورة إحداث توازن في القوى والسياسة لمنع نشوب الحروب. ويعتبر السلاح النووي واحدا من أهم أساليب الردع التي انتهجت بعد الحرب العالمية الثانية.

ويمكن القول أن العقل البشري انطلق بوحي التجارب الإنسانية الصعبة لتحقيق شيء من السلام من خلال ما اصطلح على تسميته «توازن الرعب» الذي يمكن أن يكون رادعا للمتحاربين بسبب خشيتهم من التداعيات الخطيرة في حالة اختلال توازن القوى بين الجهات المتصارعة. مع ذلك تحدث الحروب. أن من الطبيعي أن تنشب النزاعات، وهذا لا يمكن منع حدوثه، ولكن سعى إنسان القرن العشرين لمنع وصول النزاعات حالة الحرب وذلك باختراعات تنطوي على خطر عظيم لا يتهدد الأطراف المتنازعة فحسب بل البشرية جمعاء. ويمكن القول أن السلاح النووي من أكبر عناصر الردع العسكري. ولذلك قررت القوى الكبرى قبل سبعين عاما حصر امتلاكه بالدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي، وأن كان امتلاكه قد توسع ليشمل الهند وباكستان والكيان الإسرائيلي.

المسألة المحورية هنا هي أن توازن الرعب عامل كبير لمنع الحروب. مع ذلك فالحروب لم تتوقف، لكنها أصبحت محكومة بشرط التفوق العسكري. ولهذا تبنت الولايات المتحدة الأمريكية مبدأ الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي في مقابل العرب، لضمان عدم توجه الدول العربية نحو التحرير الشامل لفلسطين. وفي غياب التوازن يندفع الطرف الأقوى لشن الحرب على الخصم لاعتقاده أنه قادر على حسمها لصالحه، وأن كانت الحسابات كثيرا ما تخطئ. ومن بين عوامل الخطأ استبعاد العقيدة الدفاعية لدى الطرف الأضعف عسكريا.

في الأسبوع الماضي وقعت حوادث عديدة أكدت عدم الصواب المطلق لمبدأ «توازن الرعب» وفقا للحسابات البشرية، ويعود ذلك لضعف إمكانات العقل البشري في استيعاب العوامل الأخرى غير الملموسة التي تؤثر على مسارات الحروب والصراعات. وتؤكد حقائق تاريخ العقود السبعة الأخيرة هذه الحقيقة. فأمريكا لم تنتصر في فيتنام برغم تفوقها العسكري الهائل، ولم تستطع حسم الحرب الكورية بالشكل الذي كانت تسعى لتحقيقه. ولم تحسم الحرب العراقية ـ الإيرانية بانتصار حاسم لأي من الطرفين. كما أن أمريكا لم تستطع حسم أية معركة عسكرية خاضتها لوحدها، ابتداء بالصومال مرورا بأفغانستان ووصولا للعراق وسوريا. ولذلك أصبح واضحا أن مبدأ «توازن الرعب» معقد ولا يمكن التعويل عليه إلا في جوانب محددة. فالطرف الضعيف عسكريا يستطيع إن يستنزف الطرف الأقوى حتى تخور قواه ويرغم على وقف الحرب. فالعقيدة السياسية والمبدئية، والإيمان بعدالة القضية، والاستعداد للتضحية وأنها من أسباب النصر، بالإضافة للأخطاء التي يرتكبها الطرف الأقوى في المعادلة العسكرية، كل ذلك ساهم في حرمان الطرف الأقوى عسكريا من تحقيق نصر حاسم على الطرف الآخر. ولا تزال ذاكرة الكثيرين تستحضر عجز الولايات المتحدة عن تحقيق انتصار في لبنان برغم الدمار الذي أحدثته الفرقاطة «نيوجيرسي» بقنابلها التي تزن الواحدة منها طنا كاملا من المتفجرات. وثمة أمثلة أخرى نوجزها في ما يلي:

أولا: أن قصف الطائرات السعودية يوم الخميس الماضي حافلة تنقل أطفال المدارس بمحافظة صعدة اليمنية كان جريمة حرب شنيعة، وتعبيرا واضحا عن حالة يأس وإحباط لدى الجانب السعودي. وقد ارتفعت صيحات الاحتجاج من كل مكان، واضطر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، للدعوة لإجراء تحقيق فيها. فقد كانت مشاهد الأطفال التي مزقت الطائرات السعودية أجسادهم مثيرة للتقزز والغضب. ولكنها في الوقت نفسه كشفت عدم فاعلية التفوق العسكري السعودي، وأن امتلاك ترسانات عسكرية عملاقة تشمل احدث الطائرات والأسلحة، لا تحسم الحرب. وكانت السعودية ومعها الإمارات تعتقدان أن تفوقهما العسكري وامتلاكهما أموالا نفطية هائلة ستجعل الآخرين يركعون أمامهما، ولكن بعد أكثر من أربعين شهرا من الحرب ما زال الوضع يراوح مكانه، بينما تتصاعد أعداد الضحايا من الجانبين.

ثانيا: بالتزامن مع الحادثة المذكورة، شن الطيران الإسرائيلي غارات على غزة وأهلها وقتل الأبرياء. وضجت الأطراف الحقوقية والسياسية بالاستنكار ضد استهداف المدنيين وتفجير منزل استشهدت فيه الطفلة «بيان» وأمها وشخص ثالث. هل يمكن مقارنة الإمكانات العسكرية الإسرائيلية بما لدى المجموعات الفلسطينية من سلاح أو عتاد؟ أن توازن القوى العسكري وحده لم ينصر الإسرائيليين ولم يهزم الفلسطينيين الذين يمتلكون أسلحة أخرى غير عسكرية، سياسية وأخلاقية وقيمية. أما الإسرائيليون فليس لديهم سوى التفوق العسكري الذي يشمل احدث الطائرات والصواريخ، بينما افتقدوا أية ميزة أخلاقية أو قيمية. وعلى مدى اثني عشر عاما تراجع الاعتماد على التفوق العسكري وحده، وأصبح سيفا كليلا، بينما استطاع الفلسطينيون واللبنانيون تطوير أدائهم العسكري، وأردفوه بالبعد الأخلاقي والقيمي، ليتحولوا إلى قوة ميدانية لا يستطيع الجيش الإسرائيلي إلحاق الهزيمة بها. وبرغم النفوذ السياسي الأمريكي في العالم فقد فشل في توفير دعم سياسي دولي لقوات الاحتلال الإسرائيلية، وبقيت «إسرائيل» مكشوفة سياسيا وأخلاقيا.

ثالثا: صفق الرئيس الأمريكي الشهر الماضي لنفسه عندما التقى زعيم كوريا الشمالية، كم جونغ أون، واقنع العالم بانه أنهى المشروع النووي الكوري. ولكن اتضح الآن ان الزعيم الكوري يرفض التخلي عن أسلحته النووية ويفرض شروطا إضافية للنظر فيها. هذا برغم الهالة الإعلامية التي صاحبت لقاء الزعيمين. أمريكا بثقلها العسكري كله لم تستطع حتى الآن تركيع كوريا الشمالية، فماذا يعني ذلك؟ أن من الخطأ الاعتقاد بان التفوق العسكري وحده يكفي لكسر إرادة الطرف الآخر الأضعف.

رابعا: يرى المارة أمام سفارة البحرين في لندن، شابا ثلاثينيا يفترش الأرض ويلتحف السماء منذ أن أعلن إضرابه عن الطعام منذ اثني عشر يوما. علي مشيمع قرر بدء إضرابه احتجاجا على منع والده، الأستاذ حسن مشيمع، من العلاج والدواء منذ 15 شهرا. هذا المعارض السياسي البحراني معتقل مع أكثر من 4000 شخص آخر منذ اجتياح القوات السعودية ـ الإماراتية أراضي البحرين في منتصف عام 2011 ضمن مشروع قوى الثورة المضادة لقمع ثورات الربيع العربي. الأستاذ حسن مشيمع أحد أبرز قادة الثورة لقي تنكيلا رهيبا وثقت بعض تفصيلاته لجنة المرحوم شريف بسيوني التي تشكلت بضغط دولي للتحقيق في الانتهاكات التي حدثت في الشهرين الأولين بعد دخول القوات المذكورة. عندما انطلقت الثورة في 14 فبراير من ذلك العام كان مشيمع الوالد في لندن لتلقي العلاج لمرض سرطان الغدد اللمفاوية. ومنذ اعتقاله حرم من العلاج المناسب والأدوية الضرورية لمنع عودة ذلك المرض وبقية الأمراض كالسكر والضغط وأمراض الأذن. وقد نفدت الأدوية من العنبر الذي يضم قادة الثورة، فارتفعت نسبة السكر لديه ولدى سجناء آخرين، حتى بلغت مرحلة الخطر. وبرغم مخاطبة السلطات البريطانية التي تشرف على إدارة سجون البحرين، إلا أن التنكيل والانتقام والعقوبات لم تتوقف. فجاء قرار علي حسن مشيمع الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام حتى يتم توفير العلاج والدواء لوالده وبقية معتقلي الرأي في سجون البحرين.

مرة أخرى يخضع توازن القوى لامتحان صعب، ستكشف الأيام نتائجه. فالقوى المادية وحدها لا تفي بالغرض لأن السماء ترصد، بعين الله التي لا تنام وسننه التي لا تخطيء، من يمارس الاضطهاد والظلم، وتأبى أن تتجاهل دعوات المظلومين، وتؤكد وجودها بإسقاط الظالمين وأن تلفعوا بشعارات مزيفة عن التغيير والحرية.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/08/13

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد