آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
طلال سلمان
عن الكاتب :
طلال سلمان (مواليد 1938) هو صحافي لبناني كبير مؤسس جريدة السفير اللبنانية اليومية. شكل منذ عقود مرجعية إعلامية في الشؤون العربية واللبنانية تحظى بالتقدير، وبالتأثير في الرأي العام.

بين جمال خاشقجي وناصر السعيد: إنه الأسلوب الخاص بمملكة الصمت والذهب!

 

طلال سلمان

لم التق الكاتب الصحافي السعودي جمال خاشقجي إلا في دبي، وعلى هامش اجتماعات جائزة الصحافة العربية التي كانت تقدم سنويا الجوائز لأفضل النصوص في مختلف مجالات الإنتاج الصحافي… ولقد قدم لي بعض كتبه، واتفقنا على التواصل المهني برغم الاختلاف في الموقف السياسي الذي لا يفسد للود قضية.
مرت الأيام، وكان يتصل بي بين حين وآخر، لا سيما حين تواترت الأخبار عن قرب إقفال “السفير”، وكان اتصاله الأخير بعد الإقفال حيث أبدى حزنه على غياب “السفير”، واعداً بالمرور إذا تيسرت له الفرصة لزيارة بيروت..
.. وحين قام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان باحتجاز البعض من أبناء عمومته وخؤولته، مع عدد من كبار رجال الأعمال، وابتزهم فلم يفرج عن معظمهم إلا بعد أن دفعوا “الجزية” نقداً وتنازلات عن بعض الأسهم المذهبة وبعض الشركات التي يملكون، خطر ببالي أن اطمئن على جمال خاشقجي.. لكنني كنت اعرف أنه في واشنطن، وانه يكتب في بعض كبريات الصحف الأميركية، مقتربا من الأوضاع في مملكة الصمت والذهب بالإيماء وليس بالكلام الصريح.

.. وتابعت أخبار جمال خاشقجي في إسطنبول، وشاهدت صوره مع خطيبته التركية، واستغربت ذهابه إلى القنصلية السعودية للحصول على تأشيرة لخطيبته، وافترضت انه قد سوى أموره مع القيادة في المملكة، وإلا فلا شيء يضطره للعودة إلى “السجن المذهب” كما تعارفنا على تسمية مملكة الصمت والذهب..

ثم.. كانت الصدمة: دخل جمال خاشقجي القنصلية ولم يخرج منها، بينما خطيبته تنتظره خارجها، وهي ما تزال تنتظره، برغم يقينها أنه لن يعود.

كان طبيعياً أن تنكر المملكة معرفتها بالأمر، ثم أن توفد من يحقق في سر اختفاء هذا المعارض الذي مشى بقدميه إلى معتقله الذي يبدو انه قد تحول إلى “مدفنه”، لا سيما بعد وصول أكثر من بعثة تحقيق سعودية إلى القنصلية والبحث فيها بلا جدوى، والاكتفاء بنفي الرياض الذي لا يجدي إلا في تأكيد التهمة، التي صارت “جناية”، بعدما حسمت أنقره الأمر، فطالبت الرياض بأدلة قاطعة حول وجوده حياً، وليس الاكتفاء بإيفاد بعثة من الخبراء للبحث عنه في القنصلية التي تحولت إلى مغارة علي بابا.

عادت إلى ذاكرتي، عبر متابعتي “قضية” جمال خاشقجي حادثة مشابهة جرت بالقرب من مكاتب “السفير” في بيروت مع المعارض بل المناضل السعودي ناصر السعيد.

كان ناصر السعيد صديقاً حميماً، وقد التقيته مراراً في القاهرة حيث كان يقيم كلاجئ سياسي.. ثم جاء وقته بعد ثورة اليمن (السلال) في 26 أيلول 1962.. فبعثت به القاهرة إلى صنعاء، حيث تولى الحملة على حكام السعودية، وهو يعرف الكثير من مآثرهم، أيام كان قائداً نقابياً، ثم مناضلاً سياسياً، قبل أن ينجو بجلده فيطير إلى القاهرة..

ومن مآثر هذا المناضل الذي لا يتعب انه اكتشف بينما كان يجول في القاهرة أن ثمة شارعاً باسم الملك عبد العزيز آل سعود.. فبادر إلى إرسال برقية إلى محافظ القاهرة يطالبه فيها بحذف اسم “هذا الخائن” فوراً. لكن المحافظ لم يهتم لبرقية تأتيه من مجهول، فما كان من ناصر السعيد إلا أن ابرق إلى وزير الداخلية، ثم إلى رئيس الحكومة، وأخير إلى الرئيس جمال عبد الناصر.. ولا جواب. على هذا فقد توكل ناصر على الله، وحمل على سيارته سلماً وذهب ومعه سطل من الدهان، وأوقف سيارته في أول الشارع المعني، ثم ارتقى السلم وباشر تغيير اللافتة إلى “شارع الجزيرة العربية”..

جاء الشرطي فاستغرب المشهد، وصاح بناصر: بتعمل ايه يا جدع؟!
رد ناصر من دون أن يتوقف عن العمل: وأنت مالك، امشي.. هيا!
قال الشرطي لنفسه: أكيد، ده مسؤول.. طيب، وأنا مالي صحيح؟!
لكن “الأجهزة” تحركت بعدئذ، فهرب ناصر السعيد، وظل أول الشارع بلافتة جديدة، وآخره باللافتة الأصلية.

بعد أن استقر ناصر السعيد في بيروت، ونشر فيها كتابه الأخير عن “تاريخ آل سعود”، ظل يتردد على “السفير” برغم نصائحي بالتستر وعدم الظهور إلا في حالة الضرورة القصوى..

ذات يوم، جاءني المرحوم سمير فرنجية، فرحبت به صديقاً جاء يطمئن عليّ في “السفير”.. غير أن سمير فرنجية فاجأني بأنه على موعد مع ناصر السعيد..

وبالفعل، وصل ناصر بعد دقائق، وقد “تنكر” في “ملابس عربية”، وأخفى بعض وجهه بالكوفية، فصرخت به: وتعطي مواعيد عندي أيضا ومن دون علمي؟ ماذا بوسعي أن أفعل مع مطارديك، وهل تظن قد تخدعهم بهذا التنكر؟..

تركته مع سمير فرنجية، وعدت إلى عملي… بعد حين جاء فودعني وخرج من المبنى الذي كانت فيه “السفير”، وهو غير بعيد عن مبناها الحالي.

في اليوم التالي سرت شائعة عن اعتقال ناصر السعيد.. ثم تأكد الخبر، وثبت أنه كان “لأبي الزعيم” يد في الاختطاف، ونقله إلى المطار حيث كانت طائرة سعودية تنتظر فأقلته على عجل… ثم اختفى وكأنه لم يكن.
..
وقيل أن من في الطائرة قد القوه منها، وهو مكبل اليدين، فوق صحراء الربع الخالي..
*****
نتمنى، من صميم القلب إلا يكون مصير جمال خاشقجي مماثلاً لمصير ناصر السعيد.. خصوصاً وأن ولي العهد الذي بلغ به النفاق اللازم لنجاح المؤامرة، أنه نزل بجلال قدره ليقبل قدمي ولي العهد الأصيل، الأمير محمد بن نايف، قبل أن يخلعه، ويزج به في السجن، بينما أكرم أمراء آخرين، وصفوة من رجال الأعمال فسجنهم في فندق “الريتز” وهو أحد أفخم الفنادق في العالم… ولا تغير الفخامة طبيعة السجن، خصوصاً وهو يحمل عنوان ظلم ذوي القربى، وهو أشد مضاضة من السيف المطهم!

هل نقول: رحم الله جمال خاشقجي، كما ترحمنا على ناصر السعيد؟!
نتمنى إلا يكون ذلك قد حدث.. لكن الأمل يكاد يكون معدوماً!

متى تتخلص هذه الأمة من حكام الظلم والظلام، والقتل غير المبرر، وسرقة الكعبة وسائر ما تحتويه الأرض المقدسة التي تزال منها، ومن مكة المكرمة خاصة، ما يشهد لها بتاريخها الذي لا مثيل له ولا شبيه!

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/10/16

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد