آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الصراع من أجل الحرية في العالم العربي

 

  د. سعيد الشهابي

ثمانية أعوام عجاف تصرمت منذ أن اشتعلت النيران في جسد الشاب التونسي، محمد بوعزيزي، بمدينته المتواضعة، سيدي بوزيد. عجبا كيف يدفع اليأس شابا في مقتبل العمر لحرق نفسه على مفترق الطرق؟ ولماذا يصبح الموت والحياة متساويين أمام إنسان خلقه الله ليستمتع بالحياة ويعمر الأرض ويقيم العدل؟ اليأس حول ذلك الجسد إلى شعلة أنارت للعديد من الشعوب العربية طريقا أثبتت التطورات اللاحقة أنه كان يسير نحو المجهول.

لم يكن هدف تلك الحراكات المتواصلة غامضا أو مجهولا، بل كان الجميع يعتقد أن من الضرورة بمكان استعادة الموقع الذي يفترض أن تتموضع الشعوب فيه وليس حكام الجور والاستبداد. كانت يقظة عارمة اختلف الفرقاء لاحقا على تقييمها، وهل أنها كانت انتفاضات وثورات عفوية بدافع إصلاح أوضاع امة تخلفت عن شعوب العالم في مجال الحريات والأنظمة الدستورية وحكم القانون، أم كانت بدفع خارجي؟ برغم ما قيل فالحقيقة أنها كانت ثورات صادقة وهادفة لتحقيق إصلاح سياسي حقيقي، وكان اغلبها سلميا في بدايته. ولكن بقيت هناك حقيقة أخرى غائبة، وهي أن العالم العربي ليس كغيره في المنظور الغربي الذي يتجاهل مبادئه عندما تصطدم بمصالحه. ولذلك فما أن اتضح أن المرحوم بوعزيزي أشعل عود الثقاب الذي التهم جسده ومعه أجساد الشعوب التي أخضعت للتنويم عقودا حتى تحركت الشعوب المقهورة في تونس أولا، ثم في مصر والبحرين وليبيا واليمن وسوريا باحثة عن خلاص من عهود القهر والاستبداد، وكان ذلك طوفانا سياسيا غير مسبوق منذ عقود. ولكن كانت القوى الشريرة لها بالمرصاد. هذه المرة قرر تحالف قوى الثورة المضادة بتخطيط إسرائيلي بالشراكة مع كل من السعودية ومصر والبحرين والإمارات (ودعم انجلو ـ أمريكي) التصدي لمشروع التغيير العربي، وسرعان ما اجتمع المال النفطي والخبرات الأمنية الإسرائيلية والدعم السياسي الأنجلو ـ أمريكي للانقضاض على الثورات وتمزيقها أربا أربا، لقد كانت حربا شعواء شرسة لم تراع مبدأ أو قيمة أخلاقية أو مصلحة عامة، بل استخدمت أساليب شتى لضرب تلك الثورات: الطائفية والتطرف والإرهاب بالإضافة للقمع المفرط والقتل الجماعي. وسرعان ما تم احتواء زخم الثورات بعد أبعاد بعض رموز الاستبداد عن مقاعدهم ابتداء بالرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، مرورا بالرئيس المصري، حسني مبارك، وصولا للرئيس اليمني، علي عبد الله صالح. ولضمان كسر مقولة «الثورة العربية الواحدة» طرحت الطائفية سلاحا لضمان عدم توحد القوى الثورية وداعميها، وتلاها استخدام العنف لتبرير القمع السلطوي الرهيب، وتم ترويج الجماعات المتطرفة لتشويه حركات التغيير وضمان صمت المجموعة الدولية.

في السادس عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010 بدأ الحريق التونسي بالاعتداء على محمد بوعزيزي، الذي كان يبحث عن رزقه بائعا جوالا، من قبل أحد مسؤولي البلدية، الأمر الذي اغضب الشاب الفقير الذي كان يسترزق بكرامة لكي لا يمد يديه لغيره. وفي اليوم التالي كانت مجموعات شبابية تطوف شوارع بعض المدن والقرى البحرانية لإحياء «عيد الشهداء» احتفاء بأول شابين سقطا برصاص قوات الأمن في 17 كانون الأول/ديسمبر 1994، ليفجرا بذلك انتفاضة عملاقة استمرت ستة أعوام متواصلة. وبدأت مظاهرات تونس وبعدها مصر في حضور ميداني غير مسبوق. اليوم يعيش العالم العربي أوضاعا مختلفة تماما، تتميز بالقسوة المفرطة والاستنزاف المتواصل للطاقات، واستمرار حمامات الدماء، وسياسات الانتقام التي تمارسها أنظمة القمع التي تميز من بينها ثلاثة: مصر والبحرين والسعودية. نجم عن ذلك سجن عشرات الآلاف من المواطنين وإعدام العشرات منهم وإصدار أحكام السجن المؤبد لعدد كبير من رموزهم ونشطائهم. وقد تبدو هذه الأساليب جاذبة لدى الحكومات المحاصرة من قبل شعوبها، ولكن التجارب البشرية أثبتت أن الإفراط في العقوبة يوصل الشباب إلى حالة تتساوي فيها الحياة مع الموت، وهي حالة لا يمكن أن تخدم أي نظام سياسي. فالرغبة في الحياة تعتبر رادعا للإنسان عن المشاركة الفاعلة في الحراكات السياسية. ولكن حين يكون الموت والحياة متساويين من حيث الأهمية لدى الشخص، فان حياته ترخص أمامه، ولا يهمه أن عاش أو مات.

بعد مرور ثمانية أعوام على ثورات الربيع العربي ما يزال العالم العربي بحاجة لإصلاح سياسي جوهري ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين على أسس توافقية مؤطرة بدساتير تعاقدية بين أبناء البلد حكاما ومحكومين. وما لم يحدث ذلك فسيتواصل التوتر الأمني والسياسي وستظل المنطقة تغلي على مرجل من نار أنها حالة نفسية متميزة بلغتها الشعوب العربية في الربيع العربي، الأمر الذي أرعب قوى الثورة المضادة خصوصا الكيان الإسرائيلي والحكم السعودي نظرا لما تنطوي عليه تلك الحقيقة من توفر حالة الاستعداد في صفوف الشباب لبذل المزيد من التضحية والفداء، الأمر الذي يسير باتجاه معاكس لخطة قوى الثورة المضادة. وعندما يتحول النظام القضائي في أية دولة إلى أداة بيد الحاكم، فهذا يضيف إلى مشاعر الإحباط من أمكان إصلاح النظام السياسي، وهذا موقف له تبعات. حين تصدر أحكام الإعدام والسجن المؤبد في مصر والبحرين على نطاق واسع وتكتظ السجون بنازليها بدون رحمة أو إنسانية، فإن الوضع بلغ مستوى لا يطاق وأن الموت خير من الحياة فيه. لقد أصبحت هذه الأنظمة تتراقص على أشلاء الشهداء وتتباهى بسجن الأبرياء بأعدادهم الهائلة، وتصك أسماعها عن أي نقد في مجال حقوق الإنسان. أنها واحدة من أبشع الحقب التاريخية لأنها أعادت أوضاع المنطقة إلى مستويات غير مسبوقة من الهبوط والتداعي. فحين تقوم الأنظمة بتطبيع علاقاتها مع قوات الاحتلال الإسرائيلية، ثم تمنع مواطنيها من انتقاد ذلك، فأنها تكون قد هيأت الأوضاع لاضطرابات غير معروفة النتائج.

هذا التطبيع يعكس قلقا عميقا لدى الأنظمة التي تعاني من توترات داخلية كالسعودية والبحرين فتسعيان للاستعانة بالعدو ضد مواطنيهما، فهل هذا حل حقيقي؟ في اليومين الماضيين انطلقت الاحتجاجات في مناطق عديدة من البحرين إحياء لما اصطلح أهلها على تسميته «عيد الشهداء» في 17 كانون الأول/ديسمبر من كل عام، استذكارا لأول شابين قتلا برصاص قوات الأمن في 1994 في تظاهرة سلمية. وبرغم القمع المتواصل على مدى ثمانية أعوام، واعتقال كافة القيادات السياسية والدينية والميدانية، لم يتوقف الحراك الشعبي يوما. وتسعى الحكومة لبث الرعب في نفوس المواطنين ليس بالاعتقال والتعذيب وأحكام الإعدام فحسب، بل بسحب الجنسية والإبعاد. وقد بلغ عدد من سحبت جنسيته من المواطنين البحرانيين أكثر من 800 شخص حتى الآن. وتسعى الحكومة لمطاردة معارضيها في الخارج، مستغلة فساد المؤسسات الدولية مثل الانتربول، كما فعلت مع الرياضي البحراني المعروف حكيم العريبي الذي ينتظر قرار محكمة تايلاندية حول ما إذا كانت حكومتها ستسلمه لسلطات البحرين. هذا الاضطهاد المتواصل قد يساهم في تهدئة الوضع إلى حين ولكنه لا يحل المشكلة الجوهرية المتمثلة بالاستبداد والظلم والاضطهاد والانتهاك الممنهج لحقوق الإنسان. ولذلك يتوقع انفجار الوضع مجددا عندما تتوفر ظروف محلية أو اقليمية مؤاتية.

بعد مرور ثمانية أعوام على ثورات الربيع العربي ما يزال العالم العربي بحاجة لإصلاح سياسي جوهري ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين على أسس توافقية مؤطرة بدساتير تعاقدية بين أبناء البلد حكاما ومحكومين. وما لم يحدث ذلك فسيتواصل التوتر الأمني والسياسي وستظل المنطقة تغلي على مرجل من نار، الأمر الذي سيؤدي لانفجار أوضاعها وتكرار التجارب المرة التي مرت بها شعوبها.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/12/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد