آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. وفيق إبراهيم
عن الكاتب :
باحث استراتيجي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

ترامب يكشفُ السياسات الحقيقية لبلاده: عودة إلى المربع الأول!

 

د. وفيق إبراهيم

قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في معرض تبريره لسحب قواته العسكرية من شرقي سورية أن «منظمة داعش تستهدف الدولة السورية وروسيا وإيران، فليحاربها هؤلاء ولماذا يجب علينا أن نكون شرطي العالم، فنتعرّض للقتل بدلاً من الآخرين وننفق أموالنا».

ألا تتناقض هذه التصريحات مع زعمه بأن قوات بلاده هزمت داعش ولذلك فهي تتحضّر للانسحاب؟ فكيف بوسع داعش محاربة قوات روسية وإيرانية وسورية وهي بوضعية المنهزم؟

بأي حال، هذا هو ترامب الذي لا يتمتع بخيال سياسي يستطيع التعبير عن أكاذيبه بمواربة دبلوماسية محنكة.

أما لجهة كلماته فهي محسوبة وتعكس مبادئ رئيس أكبر امبراطورية سياسية اقتصادية عسكرية تفتك بالدول بهيمنة أحادية منذ 1990، وتسيطر على معظم العالم منذ 1990 ما أتاح لها نشر نحو 800 قاعدة في معظم جهات الكرة الأرضية وفضاءاتها بما فيها القمر والمريخ.

ما هي إذاً أسباب هذه التراجعات الأميركية التي تشبه هزائم المنكسرين لأنها تتمُ على شاكلة انكسار الجيوش في المعارك، ومن دون تنسيق مسبق مع المنتصرين أو البدلاء المحتملين.

وهذا يدل بأن السياسة الأميركية الجديدة تريدُ طمس مرحلة 1990 2018 التي فشلت فيها بتأكيد أحاديتها المطلقة على القرار الدولي، خصوصاً أنها خسرت أمام الصين وألمانيا في تطبيق العولمة.

لقد اتسمت تلك المرحلة بسقوط الاتحاد السوفياتي 1989 في صراعه مع الغرب الأميركي والأوروبي واحتكار الدولة الأميركية للعالم بمؤسساته ودوله واقتصاداته.

هذا الوضع سمح للدولة الأميركية بوضع خطة لبناءات سياسية جديدة تقوم على إعادة تفكيك دول وتأسيس دول جديدة والسيطرة على بحار ومحيطات تؤمن للدولة الأميركية جيوبوليتيكاً جديداً لا يُقهَر ضامناً لها أحادية مطلقة لقرون إلى الأمام وهي مرحلة كان يفترض بها أن تؤمن للاقتصاد الأميركي وضع يده على كل مصادر الطاقة والمعادن وأسواق الاستهلاك في مختلف زوايا الأرض.

فماذا كانت النتيجة؟

الأدوات الأميركية لتطبيق خطتها في هذه المرحلة: هي الاجتياحات والتدخلات العسكرية وتطبيق «العولمة» في الاستيراد والتصدير بيد أن ما راهن الأميركيون عليه أثمر وبالاً على توسعهم الجيوبوليتيكي.

فابتدأ أولاً بتدخلات سياسية وعسكرية في أميركا الجنوبية والوسطى باسطين هيمنتهم السياسية الكاملة عليها باستثناء فنزويلا، حتى أنهم هاجموا مرة عاصمة باناما واعتقلوا رئيسها ونقلوه إلى واشنطن بتهمة التجارة بالمخدرات كما عبثوا كثيراً في بحر الصين وجنوب شرق آسيا في محاولة لعزل الصين وعرقلتها في حريات الملاحة وذلك عبر إقامة قواعد أميركية في معظم جزر هذا البحر ما استدعى إنشاء الصين جزراً اصطناعية فيه أقامت عليها قواعد لمراقبة التمدّد الأميركي الذي يستهدف تطويقها عسكرياً وعرقلتها اقتصادياً.

ولم تتوقف المحدلة الأميركية عند هذه الحدود، اجتاحت أفغانستان في 2001 واحتلتها لأسباب زعمت أنها لضرب منظمة القاعدة التي استهدفت في العام نفسه بعض الأبراج والمؤسسات الأميركية في واحدة من أعنف الهجمات التي تستهدف الدولة الأميركية منذ نشأتها.

والحقيقة أن «القاعدة» هي اختراع أسسته المخابراتان السعودية والأميركية في سبعينيات القرن الماضي لمجابهة الاتحاد السوفياتي وتمردت على مؤسسيها لذلك فإن الاحتلال الأميركي لها إنما يستهدف مجدداً إرباك روسيا وتطويقها بدول معادية كما أنها هاجمت العراق في 2003 ونشرت على أراضيه مئات آلاف الجنود لأسباب تتعلق بوجود أسلحة دمار شاملة فيه، وتبين لاحقاً كذبها، لكن الجيش الأميركي لا يزال منذ تاريخه في العراق وتدخل الأميركيون أيضاً في اضطرابات تونس ومصر بشكل مباشر وغير مباشر وكانوا ميالين دائماً لدعم التنظيمات الإرهابية ومعاداة الإخوان المسلمين والدليل أن الرئيسين السيسي المصري والسيبسي التونسي يمثلان معادلات أميركية في بلديهما.

ولم يستثنِ الجيوبوليتيك الأميركي منطقة واحدة ناشراً نفوذه في معظم أفريقيا السوداء والشمالية متصارعاً مع الأوروبيين على ليبيا بما أدى إلى منع نشوء سلطة مستقرة فيها حتى الآن.

إلا أن الأميركيين ركزوا على منطقتين أرادوا من خلالهما السيطرة عليهما بإحداث ضربات جيوبوليتيكية قاتلة وهما سورية واليمن، باذلين كل إمكاناتهم المباشرة وبواسطة قوى إقليمية لتفتيت سورية اعتقاداً منهم أن هذه العملية تؤدي تلقائياً إلى إحداث تغييرات سريعة في الكيانات السياسية للعراق والسيطرة الكاملة على لبنان، وهذا بدوره كافٍ للقضاء على القضية الفلسطينية وحزب الله الذي يعتبرون أن انهياره يؤدي تلقائياً إلى تفجر النفوذ الإيراني في الشرق العربي والعالم الإسلامي مع بناء حلف عربي إسرائيلي.

وهناك مَن يعتقد أن هذا الاستهداف الأميركي لسورية يتضمن أيضاً إعادة تركيب جديدة لتركيا فيها دولة مستقلة للأكراد.

اليمن بدوره كان الهدف الجيوبوليتيكي الثاني لذلك رأى الأميركيون أن تفكيكه إلى أربعة كانتونات مستقلة أو شبه مستقلة يخدم مبدأ الحماية الأميركية لمناطق إنتاج الطاقة في الخليج.

ويضع ممر شط العرب العراقي وهرمز المعبر دولياً حسب قوانين البحار الأممي والإيراني النفوذ إلى بحر عدن المتفرّع نحو المحيط الهندي من جهة والبحر الأحمر إلى باب المندب وقناة السويس من جهة أخرى.

هذا هو حجم التورط الأميركي في مرحلة ما بعد 1990 الذي ذهب أيضاً نحو الإمساك بدول أوروبا الشرقية والبلقان بما يؤدي الى تطويق دائم لروسيا سواء أكانت ضعيفة أو قوية.

وهذا يكشف اتجاه الخطة الأميركية إلى الإمساك بالعالم بأسره ضمن دائرتها فقط.

بالنتائج فشلت خطتها في الإمساك بالصين وسورية واليمن ولم تتمكن من محاصرة روسيا التي تنافسها حالياً على القرار الدولي.

كما نجحت إيران في مقاومة الحصارات الأميركية عليها، وتواصل أميركا الجنوبية التمرّد على واشنطن وهذا يعني انكسار خطتها 1990 2018 التي هزّت لها موقعها وفرضت عليها مضاعفة نفقاتها، ما أثر على أوضاع الطبقات الأميركية، خصوصاً تراجع عديد الطبقة الوسطى، لذلك يتجه ترامب إلى تأمين حمايات لدول الغاز والنفط المرتبط بسياسات بلاده تاريخياً والبلدان الواعدة بطاقات كبيرة من الثروات المعدنية وموارد الطاقة، خصوصاً طاقة العقود المقبلة وهذا يعيد السياسة الأميركية إلى مرحلة الثنائية العالمية أو الثلاثية مع روسيا والصين ويرفع كل الأكلاف الإضافية عن الموازنة فلا تخسر أموالاً إضافية، فهل هذا ممكن؟ إن تباشيره بدأت في سورية واليمن ولن تتأخر عن باقي المناطق على قاعدة تحقيق تفاهمات عميقة مع الروس والمحافظة على سياسات «الثعلبة» مع الصين المنافس الفعلي للإمبريالية الاقتصادية الأميركية. 

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/12/22

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد