آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

لماذا «تسبق» الغرب؟


عامر محسن
أذكر أنّ أحد أساتذتي (وهو الفيلسوف البريطاني مارك بيفر)، حين كان يشرح للطلاب مقولة ميشال فوكو عن تشكيل «القوّة» لخياراتنا ومفهومنا عن الحقيقة وتأديبنا الذاتي، حتى في المسائل التي نعتبرها «علمية» أو «موضوعية»، كان يستخدم المثال التالي: في عالم الرعاية الطبيّة، الجّميع يحذّرك من التّدخين وينهاك عنه - الأطباء والخبراء، الحكومة، الإعلام - فهو يؤدّي إلى موتك باكراً بالسرطان وأمراض القلب، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحصل للإنسان؛ وهو خيارٌ حياتيّ يمكنك أن تتجنّبه فيما كلفته، من الناحية الأخرى، عالية بشكلٍ غير عقلاني (أن تموت بسكتةٍ في عمرٍ مبكر، أو تصاب بمرضٍ مقعد). ولكن، كان بيفر يضيف، فإنّنا نعرف أيضاً أنّ السبب الأساس لأمراض القلب اليوم، والمرض الذي يؤثّر على أكبر عددٍ من النّاس ويقتل الملايين ويقصّر الأعمار، هو الضّغط والتوتّر (stress) الذي يعاني منه أكثر النّاس في الحياة الحديثة. وتحديداً العمل المرهق والتنافس المستمرّ والخوف الدائم من الفشل وفقدان الوظيفة. مع ذلك، لا أحد يقول لك أن لا تعمل وأن تسترخي وتقلّل إنتاجك حفاظاً على صحّتك وحياتك («ما بالك تعمل بنشاط وترتقي المراتب بطموح؟ هل أنت مجنون؟ هل تريد أن تموت فجأةً في سنّ الخمسين؟»).

البيئة والسيارة الكهربائية

من الممكن تطبيق الفكرة ذاتها على العديد من «التوجيهات» التي تصدر إلينا، من سلطاتٍ مختلفة، حول التصرّف «القويم» أو «المسؤول»، من الأخلاقيات الاجتماعية وصولاً إلى مسائل مثل حقوق الإنسان والبيئة، وهي مدخلنا إلى موضوع اليوم. أنا لا أقصد، بالطّبع، التشكيك بأهمية الحفاظ على البيئة والخطاب البيئي (وإن كنت، بحد تعبير سلافوي جيجك، لا أؤمن بالخطاب البيئي الرومانسي على طريقة «الأم غايا»، الذي يعتبر البيئة أمراً مفارقاً للإنسان - وليس في حالة تفاعلٍ معه - وكاملاً في ذاته، وواجبنا هو أن نتركها في حالتها «الأصلية» وأن لا نمسّها)، النقطة هنا هي أنّه حتّى في المجالات التي ترمي - ظاهرياً - إلى إنقاذ الكوكب، فإنّ السياسات التي تسمّي نفسها «بيئية»، حين تمرّ في حسابات السّوق والدول وتحظى بإجماع المصالح الحاكمة، تتحوّل بسهولة إلى عمليّة رأسماليّة لها منطقها الخاص ولا تخدم، بالضرورة، الهدف السامي الذي يبرّر وجودها. كنت أكرّر، مازحاً، أنّه لو كان هدف الدّول الأوروبيّة فعلاً هو خفض انبعاثات الكربون بشكلٍ ماس، لكانوا - بدلاً من ذمّ النفط - جعلوا معامل الكهرباء في ألمانيا وأميركا وغيرها تحرق النّفط (السيئ، الملوّث) بدلاً من الفحم الحجري الذي يستخدمونه بكثافة، وهذا وحده كفيلٌ بخفض انبعاثات الكربون وخدمة الكوكب أكثر من أيّ إجراءٍ آخر - فالفحم ملوّثُ هائل، وهو يُحرق بكميات ضخمة لإنتاج الكهرباء. هذا لن يحصل، والفحم لا يزال المصدر الأول للطاقة في الكثير من الدول الغربية، ببساطة لأنّه سيجبر هذه الدول على استيراد المزيد من النفط، وهو ما يحاولون تجنبه منذ السبعينيات، والى زيادة العجز التجاري فيها (فيما الفحم موردٌ متوافر محلياً ورخيص ويؤمّن استقلالاً في إنتاج الطاقة؛ وقد تقوم ألمانيا بالفعل بإلغاء معامل الفحم فيها بعد سنواتٍ طويلة، ولكن بعد أن تكون كلّ مناجم الفحم في البلد قد استنفدت وأُغلقت، وأصبحت البدائل أكثر اقتصادية).


المسألة نفسها تحكم صعود «السيارة الكهربائية»، «صديقة البيئة». كنت أعرف منذ زمنٍ أنّ الكثير من الدعاية البيئية حول السيارات الكهربائية فيه بعض التضليل. لن ندخل في نقاش تقني هنا، ولكن مادحي السيارات الكهربائية يوهمونك بأنّ الكهرباء «نظيفة» وأنّ محرّك السيارة الكهربائية أكثر فعالية بكثير من محرّك سيارة البنزين (الأوّل يحول ما يقارب الـ90% من الطاقة في البطاريات إلى حركة، فيما محرك الاحتراق الداخلي يهدر ثلاثة أرباع الطاقة في الغازولين الذي يحرقه). في الحقيقة، فإنّ الافتراض الأول يتجاهل أن الكهرباء التي تزوّد سيارتك ليست نظيفة ولا مصدرها الطاقة المتجددة، بل هي تنتج في معملٍ يحرق الفحم أو الغاز على الأرجح. والافتراض الثاني يخفي حقيقة أنّ حساب فعالية المحرّك الكهربائي في السيارة هو «المرحلة الأخيرة فحسب» - معمل الكهرباء الذي ينتج الطاقة التي تزوّد سيارتك يحرق الفحم بفعالية خمسين في المئة، ثم تخسر نسبة معتبرة من هذه الطاقة خلال نقلها إلى منزلك، ثم نسبة أخرى خلال شحن البطارية، فلا يكون الفارق في الفعالية كما يصوّرونه).

ولكنّني، فوق ذلك، قرأت رقماً مذهلاً، يجعلك تشكّك بالعمليّة بأكملها، وهو يزعم بأنّ عملية صناعة السيارة الكهربائية، أصلاً، تلوّث أكثر بما لا يقاس من صنع سيارة تقليديّة، خاصّةً مع البطاريات الهائلة التي تستلزمها سيارات «الترف» الكهربائية اليوم («تسلا»، وبعدها «بي ام دبليو» وغيرها من كبار الماركات التي تتوجه إلى الأثرياء)؛ حتّى أن السيارة الكهربائية من هذه الفئة تحتاج إلى أن تسير لخمسين ألف ميل (على الأرجح وفق حساباتٍ «متفائلة» حول طبيعة الطاقة الكهربائية، كالتي أعلاه) فقط لكي تعوّض التلوّث البيئي الذي نتج عن صناعتها وانتاجها (بحثت عن تأكيدٍ لهذه الأرقام، ووجدت تحقيقاً لـ«بلومبرغ» يعطي أرقاماً مقاربة: إن صناعة سيارة ببطارية صغيرة، مثل «نيسان ليف» - يلوّث بمقدار أن تقود سيّارةً على الغازولين لخمسين ألف كيلومتر).


في الحقيقة، أنا أجد أنّ ابتكار السيارة الكهربائية له مزايا أخرى، ليس منها إنقاذ الكوكب. مثلاً، نزع التلوّث من المدن (وهو هنا يعني نقل التلوّث فعلياً، من المدن الكثيفة والثرية إلى أماكن طرفية وفقيرة هي مراكز إنتاج الكهرباء)، وخفض التلوّث السمعي عبر منع محرّكات الاحتراق الداخلي - هذا أمرٌ يرفع حقيقةً من مستوى حياة الناس، هل لكم أن تتخيلوا بيروت، أو أي مدينة عربية أخرى مزدحمة، وقد اختفت منها كلّ أصوات المحرّكات؟ وحتى «الموتسيكل» يسير بأزيزٍ صامت؟ أمّا بالنسبة إلى الحكومات التي طوّرتها وشجّعت على صناعتها، فإنّ السيارة الكهربائية كانت سياسة بيئية تناسب الاقتصاد السياسي لهذه الدّول: قطاعٌ ابتكاري جديد يشغّل الآلاف، ووسيلة لتقليل الاعتماد على الخارج عبر استبدال النفط المستورد بالكهرباء التي تملك هذه البلدان منها فائضاً؛ وفي الوقت نفسه انت تعرض على الثريّ سيّارةً فخمةً وسريعة، ويكون «صديقاً للبيئة» من غير أن يضحّي بأسلوب حياته ورفاهياته ونمط استهلاكه. بالطّبع، وهذه خلاصة سنرجع إليها، فإنّ حماية بيئتنا وكوكبنا، وتأمين استمرار رفاه البشرية، لا يكون عبر استبدال سيارة فارهة تحرق الغازولين، يقودها الأثرياء في الغرب، بسيارة فارهة تسير على الكهرباء، بل عبر إعادة النظر في نظام حياتنا وحاجياتنا واستهلاكنا (نموذج «الحياة الجيدة» الذي نسعى إليه)، وفي توزّع هذا الاستهلاك على النّاس في العالم. وأن نناقش ونحن واعون لفكرة أنّ البشرية، عبر التنظيم والتقنيات الحديثة، تنتج اليوم أكثر مما يحتاجه أهل هذا الكوكب حتى يعيشوا، جميعاً، حياةً آمنةً كريمة - من دون أن نغتصب البيئة في بحثٍ محمومٍ عن مزيدٍ من الأرباح، وأن نهدر موارد لا تُقاس من أجل تلبية الاستهلاك الفائق لأقليّة.

الصّين: أن «تلحق وتتجاوز»

اعتمدت الصّين، منذ عقدٍ تقريباً، سياسةٍ تشجّع صناعة وتبنّي السيارات الكهربائية لأسبابٍ شبيهة بدوافع دول الغرب: تقليص استيراد النفط، استغلال فائض الكهرباء، خفض التلوث في المدن. وفوق ذلك كلّه، فإنّ السيارة الكهربائية تقدّم امتيازاً مهمّاً لمن ينوي دخول الميدان من موقع المبتدىء، فصناعة السيارة الكهربائية، على ما تقول «تكنولوجي ريفيو»، أكثر بساطة ولا يحتاج إلى محرّكٍ معقّد، وهو يسمح لشركاتٍ جديدة بأن تنافس صانعين مكرّسين (المحرّك الكهربائي بسيط نسبياً، بينما من الصعب على شركة جديدة أن تنتج محرّك احتراقٍ داخلي بفاعلية محركات «مارسيدس» و«تويوتا»، التي تقف خلفها عقودٌ من الأبحاث والتحسينات - وهذا شكّل دوماً حاجزاً أساسياً أمام دخول سوق السيارات). ولكنّ الصّين، على عادتها، نفّذت هذه الخطط بشكلٍ أسرع وأكبر من أي دولةٍ غربية، حتى أصبح عدد السيارات الكهربائية التي تباع في الصين يوازي عدد مثيلاتها التي تباع في باقي العالم بأسره.


إن كان شعار خروتشيف خلال سنوات المنافسة الأميركية - السوفياتية هو «اللحاق والتجاوز»، وهو كان يعني اللحاق بالإنتاج الأميركي وتجاوزه - بالمعايير الاقتصادية الرأسمالية نفسها التي بنت أميركا عليها تفوّقها - فإنّ الصّين هي من حقّق فعلاً هذا الهدف. إن كانت المنافسة في هذا العصر هي حول «اتقان الرأسمالية» فإن رأسمالية الدولة التي نشأت في الصّين قد أنجزت نموذجاً يصعب التغلّب عليه. لمن لا يزال حبيس أفكارٍ «قديمة» عن الصين ونوعية الإنتاج فيها يصعب أن نشرح حجم النجاح الاقتصادي والتقني الذي عرفته الصين في السنوات الأخيرة، وشواهده كثيرة: من البنى التحتية إلى خلق وتنظيم العشرات من المدن الجديدة الى بناء أضخم شبكة قطارات فائقة السرعة على الكوكب (خلال سنوات قليلة)، وصولاً إلى التكنولوجيا العسكرية والريادة في مجالاتٍ مستقبلية مثل الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية.


قرأت إحصائية في «واشنطن بوست» تزعم بأن كمية الاسمنت التي استخدمتها الصين في ثلاث سنواتٍ فحسب (2011 - 2013) تفوق كمية الاسمنت التي استهلكتها أميركا طوال القرن العشرين، أي تحديداً في مرحلة بناء البلد وتوسّعه وازدهاره الأسطوري.
استخدمت مثال السيارة الكهربائية لأنّه يوضح تفوّق «بيئة الأعمال» التي نجحت الصين في خلقها، وهي السبب الرئيسي خلف النمو والتوسع الهائل في البلاد. هناك شركة سيارات صغيرة نسبياً اسمها «نيو»، أتابعها منذ فترة، هي لم تبدأ بإنتاج وبيع السيارات الكهربائية إلا قبل أشهر (وهي تنتج سيارات كهربائية كبيرة وفخمة، ومليئة بالزوائد والتقنيات على طريقة «تسلا» الأميركية، ولكن بسعرٍ أقل بكثير). بدايةً، حصلت «نيو» على تمويلٍ، وهي مجرّد فكرة، من عدّة شركات تكنولوجية صينية، مثل «تينسينت» و«بايدو»؛ فالحكومة الصينية أجبرت الشركات الكبرى على تدوير أرباحها من خلال الاستثمار في شركاتٍ صاعدة. بدأت «نيو» كشركة صغيرة دورها محصورٌ في التصميم، ولا تصنّع الا عدداً محدوداً من القطع، ولكنها وجدت شريكاً في شركةٍ حكومية ضخمة تصنع السيارات، ستقوم هي بإدارة الإنتاج وتصنيع تصاميم «نيو» بكلفة منخفضة. ثم حصلت الشركة على قرضٍ من مدينة شانغهاي وحوافز لبناء مصنعٍ فيها. ووجدت شركةً أخرى محليّة لصنع البطاريات ستزود سياراتها بهذا المكون الأساسي بسعرٍ تنافسي. أكثر من ذلك، تحتاج شركة مثل «تسلا» لبناء شبكة كاملة لشحن سيارات مستخدميها في طول البلاد وعرضها فيما، في الصّين، توجد شبكةٌ «عامّة» يمكن لشركة صغيرة مثل «نيو» أن تعتمد عليها. يمكن أن نفصّل أكثر ولكن النتيجة هي أن «نيو» تمكّنت من إدخال أول نموذجٍ لها في الإنتاج باستثمارٍ لا يزيد على مئات ملايين الدولارات وخلال أقل من سنتين، وهو أمرٌ من المستحيل تحقيقه في أميركا أو أوروبا إلّا بعد صرف مليارات كثيرة.

خاتمة

إن هذا المزيج، بين سوق داخلي كبير وقاعدة صناعية واسعة ودور الدّولة في التوجيه وخلق الحوافز، هو ما جعل أداء الاقتصاد الصيني يتفوّق في اللعبة الرأسمالية على أربابها الغربيين، إلى درجةٍ تجعل التنافس معه صعباً، ومن هنا بدأ التوتّر وبوادر «الحرب التجارية»» (من قال لهم إن الرأسمالية هي منافسة شريفة؟). إن كانت المنافسة مع «الغرب» هي في مجاراته في التقنية والإنتاج، فإنّ الصّين قد حقّقت ذلك بلا ريب، ولكن تواجه بيجينغ هنا مشكلتان، قد نتوسّع عن الحديث عنهما في المستقبل. المشكلة الأولى، الواضحة، هي في عداء النظام الدولي لتوسّع الصين المستمرّ، ومنازعتها على الأرباح، ومنافستها للاحتكارات الغربيّة. أي أن السوق العالمي الذي سبّب رخاءك هو من قد يصبح عدوّك وخصمك، وهنا يتغيّر السياق بالكامل.


أما المسألة الأوسع، فهي تشبه سؤال البيئة والسيارة الكهربائية أعلاه: إن كان هدف دول الجنوب هو تقليد الماكينة الرأسمالية الغربية و«التفوّق عليها»، فهذا قد يكون ضرورياً لكي تتمكن من العيش في السوق الدولي ولكي تكون قادراً على الدفاع عن نفسك (الهدف الأساس لمحاولات «التحديث» في دول الشّرق كان جسر الهوة العسكرية التي تفصل الجيوش الأوروبية عن جيوشنا، في التقنية وفي التنظيم). ولكنّ، إن كان الهدف من «استبدال» الغرب هو استنساخه فأنت ستصل، على الأرجح، إلى المكان ذاته والمشاكل نفسها ونقاط الضعف ذاتها التي ولّدتها الرأسمالية الغربية. يقول آلان باديو إنّ أحد الأخطاء الجوهرية في مسيرة الاتحاد السوفياتي هي أنّ قيادته حاولت - على طريقة خروتشيف - التنافس مع الغرب و«تجاوزه» بمقاييسه الماديّة ذاتها (الدخل الفردي، الاستهلاك، النمو الاقتصادي) بدلاً من يقدّم - عن حقّ - نموذجاً بديلاً عن مجتمع الملكيّة والاستهلاك. إن لم تتمكّن من استبدال النظام القائم، في العمق، فأنت لا تقدّم نموذجاً متفوّقاً، بل نسخةً محدثة عن النظام الحالي. يجب أن نتذكر من جديدٍ بأن الإنتاج الحالي للبشرية يكفي، بتنظيمٍ مختلف، لتلبية حاجات الجميع بسهولةٍ ومع فائض. في المواجهة التي تقترب بين أميركا والصّين، نحن «مع الصين» بلا شك، وصعودها هو أملنا الوحيد لتخفيف سطوة أميركا علينا وعلى العالم؛ ولكن، فقط حين يتبلور «طريق مختلف» لباقي دول الجنوب حتى تسلكه، واحتمالٌ لنظامٍ عالمي يختلف عن الذي نعرفه، يمكن عندها الحديث عن «نموذجٍ صيني». 

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/12/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد