آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. رائد المصري
عن الكاتب :
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

الاستراتيجية الأميركية والتحوُّلات الكبرى

 

د.رائد المصري

بهدوء… فهذا هو منطق الرأسمالية الليبرالية بعد أن تتراكم فوائضها المالية وتصبح بحاجة للبحث عن تدمير لرؤوس أموالها عبر الحروب وتشغيل الماكينات العسكرية والصناعات الحربية، في حروب عَبَثية تحت عناوين وشعارات غوغائية قد تطول أو تقصر لا يهمّ لأنَّ الهدف هو التخلُّص من هذا الفائض المالي الذي أحْدَث أزمات اقتصادية وإفلاسات عَبَرت حدود الدول ولن تندثر إلاَّ بتدميرها، لأنَّ كلفة الحفاظ على هذه الفوائض المالية أعلى بكثير من محاولات تدميرها، ولهذا تكون الحروب بمنطق الرأسمال المتوحِّش وأدوات الاستعمار لتجديد الدورة الاقتصادية في جسم هذا النظام وإخراجه من أزماته ليدخل في عملية استثمارية جديدة تُحقِّق له الربحية في إعادة الإعمار وتنشيط تراكماته المالية بعد الانتهاء من كلِّ حرب…

حروب تدميرية مباشرة استمرَّت ثماني سنوات في منطقة الشرق الأوسط وهي شارفت اليوم على الانتهاء، طالت الحَلَقَة الأضعف في سلسلة النظام الرأسمالي الذي أصابته الهزَّات الاقتصادية والانتكاسات المالية بقوة دفع العولمة العابرة للحدود والتي سهَّلت كلَّ أنواع النَّهب وسرقة ثروات ومقدَّرات الشعوب بواسطة وكلائها المحلِّيين، ولمَّا لم تشبعْ توجَّهت نحو عَصَب وقلب الرأسمال العالمي في أوروبا وأحْدَثَت فيها انقلاباً في مفاهيم الأدوار السياسية وأدوار النُّخَب وتعيين موظَّفين برتبة رئيس حكومة أو رئيس دولة من قبل تحالف التكتُّلات المالية والشركات العابرة والقابضة… وهذا تشويه لمنطق العملية السياسية وتداول السلطة في أعْرق الديمقراطيات، ومن هنا تبدَّلت استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية التي طالها هذا التشويه في عمليتها الديمقراطية، وأفْرزت دونالد ترامب الذي غَيَّر وعَدَّل وبَدَّل الكثير من المفاهيم حتى تلك التي تُناقِض في جوهرها أسُس وبنيوية النظام الاقتصادي النيوليبرالي وتحالفاته العسكرية والأمنية والسياسية كمنظومة موحَّدة، فالتحوُّلات الاستراتيجية التي انْتَهجها الرئيس ترامب مؤخراً لم تكن تعنيه لناحية تمتين وحدة صفِّ الحلفاء وتعاضدهم، فهو أقام مبدأ الحمائية مثلاً وبدأ بتفعيله، وانسحب من العديد من الاتفاقيات مع أوروبا أو الصين أو اليابان، وهو يتَّخذ الكثير من القرارات السريعة والفُجائية غير المتوقَّعة لأنَّه لا يريد تضييع الوقت والفُرص في تحقيق المكاسب المالية والاستثمارات السياسية تمهيداً للتفرُّغ لولاية ثانية صارت على الأبواب..

هذا التبدُّل في سياسات ترامب وإعادة تموضُعه سريعاً في الوقت الضائع من مرحلة إعادة تشكُّل بنى وهيكلية النظام الدولي والإقليمي لم يَتَتبَّع حلفاؤه خطواته ونقلاته التغييرية، فالرئيس الأميركي ينتقل من ملفٍّ إلى آخر ومن قضية أو أزمة إلى أخرى سواء خَسِر أو ربح لا يَهُم، فالمهم تحقيق الربحية وتجميع الأموال وتشغيل ماكينات التصنيع الأميركية ورفع الحواجز وإلغاء الاتفاقية التي تكلِّف خزينته وغيرها من تدابير لم يستطع حلفاؤه في أوروبا أو دول الخليج أو عبر الأطلسي اللَّحاق به لبناء سياسات ومبادرات تحفظ هيبتهم ومواقعهم، ولا تجعلهم تابعين ومنفذِّين ومُلْحقين بالسياسات الأميركية، وهو الوضع ذاته الذي طاول مؤسَّسات الدولة الأميركية العميقة كالكونغرس بمجلسيه، ولهذا كان الاعتراض على نقلته الأخيرة وقراره الانسحاب المُمَهِّد له أصلاً من قبل من سورية، لأنَّه وجَدَ الخيبة وانتفاء الفائدة الحقيقية جراء هذا البقاء ودعم الكرد الَّذين أصبحوا حصاناً خاسراً في معركته الآنية في شرق سورية، ومحكومين بقوَّة الدخول العسكري التركي واستعدادات الجيش العربي السوري لوضْعِ اليدِ على شمال وشرق الفرات، وهو يبحث عن استثمار سريع نقدي بين يديه ولا يرغَب في بناء استراتيجيات طويلة الأمد سواء في سورية أو العراق أو أفغانستان، وهذا لا يعني أنَّ صمود سورية وحلفائها في روسيا وإيران والمقاومة غير مُجدٍ، لأنَّ هذا الصُّمود والقتال وصدِّ المشروع الاستعماري عَجَّلَ من اعتماد ترامب سياسة النَفَس القصير ليُقرِّر الانسحاب العسكري من سورية أولاً، وليضع حلفاءه العرب والخليجيين منهم على وجه الخصوص أمام معطيات ووقائع تتطلَّب منهم اتِّخاذ القرار السريع لاحتواء خطوات ترامب ونقلاته حيث تجسَّدت في الزحف العربي للإمارات والمشيخات إلى دمشق…

إنَّه منطق تدمير فوائض الرأسمال المتأتِّي من النفط والغاز في الحروب العَبَثية على المنطقة العربية، والتبدُّل السريع في الاستراتيجيات الأميركية التي ترغب في الكَسْب المادي السَّريع، جعل بعض العرب ومن أجل إعادة تنظيم دورة رأس المال العالمي وإلغاء الجزء الأكبر من فوائضه يتوجَّه نحو سورية ويُعيد افتتاح العلاقات من أجل إعادة الإعمار، وإرساء قواعد استثمارية جديدة تنشط من خلالها أعمال الشركات وأرباحها، ورُبَّما تستطيع أن تعوِّض بالمال والاقتصاد ما عَجزت عن تحقيقه في الحروب والتدمير من أجل تطويع دول المنطقة ومعها سورية في خدمة المشروع الاستعماري الأميركي والغربي ومعه رأس حربتها الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/12/31

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد