آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

استهداف شرس لتجليات الإسلام السياسي

 

  د. سعيد الشهابي

عما قريب سيبدأ الكتاب والمفكرون مناقشة موضوع شغل بال الكثيرين خلال نصف القرن الأخير وما يزال يؤرق القوى الكبرى وحكومات المنطقة على حد السواء. أنه موضوع صعود الحركة الإسلامية المعاصرة وهبوطها، وضمن ذلك ما اصطلح على تسميته «الإسلام السياسي». ولا يمكن فصل العنوانين عن بعضهما، لأن هذه الحركة تبنت مشروع الحكم وسعت للوصول إلى السلطة في أغلب البلدان العربية والإسلامية. وهذا يختلف عن الحديث عن الإسلام كدين وعبادة يمارسها غالبية المسلمين ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وإذا كانت الثورة الإسلامية الإيرانية قد باغتت العالم وسيطرت على اكبر دولة في الشرق الأوسط آنذاك، فإنها في الوقت نفسه فتحت عيون العالم على المشروع الإسلامي السياسي ووضعت أجهزة الأمن المحلية والإقليمية والدولية في حالة تأهب دائمة.

وبموازاة القمع الذي ناله «الإسلاميون» ثمة أساليب «ناعمة» تستخدم بشكل متواصل لإضعاف بريق الإسلام السياسي الذي طغى على الخطاب الديني منذ مطلع السبعينيات. وربما يكون من السابق لأوانه الحديث عن أفول ذلك المشروع، ولكن المؤشرات تؤكد ان حالة الصعود التي شهدها بعد ثورة إيران قد توقفت، وان الحركة الإسلامية (ويسميها مناوئوها الإسلاموية) أنهكت بأساليب شتى من بينها القمع السياسي الشرس، والإعلام المضاد الذي يبالغ في ترويج سلبياتها، بالإضافة لإخفاقاتها السياسية، ووجود إجماع دولي على محاربة الظاهرة ومنع تفاقمها، وتعمق هذا التوجه بعد ثورات الربيع العربي قبل ثمانية أعوام، التي أظهرت عددا من الأمور: أولها وجود أجواء سياسية ونفسية لاستقبال بديل سياسي للأنظمة الفاسدة التي تحكم المنطقة منذ عقود، ثانيها: قدرة الحركة الإسلامية على تعبئة أنصارها للمشاركة في الاحتجاج السياسي وتوجيهه للمطالبة بتغييرات سياسية جوهرية، وثالثها: شعبية الاتجاه الديني في الشارع العربي الأمر الذي يتيح للإسلاميين فرص الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. هذه قراءات توصلت لها قوى الثورة المضادة منذ فترة وتعمقت في السنوات الأخيرة التي شهدت دخول البعد الإسرائيلي على الخط وتحالفه مع الأنظمة المحلية في صراعها مع القوى الإسلامية.

لقد كانت سنوات ما بعد الربيع العربي من أكثر الحقب ضررا للمشروع الإسلامي الذي تضاءل الحماس له، ليس من قبل مناوئيه فحسب، بل حتى من المحسوبين عليه. والنقاش هنا لا يشمل الحركات المتطرفة والإرهابية التي تعمل باسم الإسلام، فمشروعها مختلف عن مشروع الإسلام السياسي الذي تبنته الحركات التقليدية خصوصا الإخوان المسلمين في العالم السني وحزب الدعوة الإسلامية في العالم الشيعي، وتشجعت بانتصار ثورة إيران قبل أربعين عاما. ويلاحظ هناك ما يلي: أولا أن العديد من الحركات الإسلامية وصل إلى الحكم بطريقة أو أخرى: في العراق ومصر والسودان وتونس والمغرب، وقبلها في إيران. ثانيا: أنها جميعا (في ما عدا إيران التي أعلنت قيادتها الدينية منذ البداية أنها تريد إسقاط نظام الشاه وإقامة نظام إسلامي مكانه) استدرجت للوصول إلى تلك المواقع وهي غير مستعدة تنظيميا أو فكريا أو نفسيا لإقامة منظومة سياسية تنسجم مع رؤاها وما تحمله من مشروع سياسي. ثالثا: أنها جميعا أخفقت في إقامة منظومة حاكمة إسلامية يمكن ترويجها كمثال ناجح للحكم يغري الآخرين ويجذبهم لاحتضانها. رابعا: إن هذا الفشل ساهمت فيه عوامل عديدة: ذاتية وخارجية وظرفية. خامسا: أنها جميعا أخفقت في قراءة تجاربها بموضوعية لاستخلاص الدروس التي قد تساهم في تحسين أدائها فيما لو أتيحت الفرصة لها مستقبلا. سادسا: أن هذه القوى جميعا بدأت طريق التلاشي ليس من الحكم فحسب بل من الخوض في الفضاء العام وترويج مشروع الإسلام السياسي الذي نشأت من أجله. سابعا: أن هذه الحركات جميعا خاضت تجاربها منفصلة عن بعضها ولم تستطع استمزاج آراء بعضها البعض أو تشعر بالانتماء لجسد واحد ينسق بين التجارب ويوفر توجيهات مختلفة. ثامنا: إن استهدافها ميدانيا هذه المرة يتم بإشراف تحالف جديد ظهر في السنوات الأخيرة ضمن ما سمي «قوى الثورة المضادة» الذي يضم دولا عربية بالإضافة للكيان الإسرائيلي. وعلى صعيد التنفيذ الميداني تتصدر السعودية والإمارات المشهد مستهدفة مشروع «الإسلام السياسي» ابتداء بإيران مرورا بحزب الدعوة العراقي وامتداداته الإقليمية وحزب الله اللبناني وصولا إلى جماعة الإخوان المسلمين بكافة تجلياتها. تاسعا: أن الحركات الإسلامية ساهمت بضرب نفسها عمليا، وذلك بالاستجابة لأول طلقة من التحالف المضاد عندما طرح الخطاب الطائفي واستعمله أداة ماضية لمنع توحد أطيافها.


وقد استجابت لذلك الخطاب وبثته في جماهيرها فشغلتهم عن الأعداء الحقيقيين لمشروعهم، فاستفرد هؤلاء الأعداء بكل فصيل منها على حدة، فلم تذرف دمعة عين على سقوط أي منها.

لقد كانت سنوات ما بعد الربيع العربي من أكثر الحقب ضررا للمشروع الإسلامي الذي تضاءل الحماس له، ليس من قبل مناوئيه فحسب، بل حتى من المحسوبين عليه

عاشرا: إن هذه الحركات لم تستطع تجديد نفسها أو خطابها أو أنظمتها الإدارية، فتقلص دور الأجيال الجديدة في صفوفها بينما أصيبت قياداتها بالشيخوخة.

إزاء هذه الحقائق تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات حول أزمة حقيقية تعاني منها هذه الحركات وساهمت في سقوطها. فقد اظهر قادتها، بدون استثناء عدم استيعابهم لخطط قوى الثورة المضادة ومشروعها الهادف أساسا لمنع التغيير في العالم العربي وضرب المشروع الإسلامي جملة وتفصيلا. ولذلك استدرجت لخوض معارك ليست معاركها وبالتالي أضعفت نفسها كثيرا وساهمت في تهميش دورها السياسي، وكشفت ضعفا بنيويا خصوصا في جانب النظرة الاستراتيجية والتخطيط البعيد المدى كما يتضح مما يلي: أولا أن الإخوان المسلمين في مصر وصلوا إلى الحكم ولم يمكثوا فيه إلا هنيهة وسرعان ما أسقطتهم قوى الثورة المضادة بتوحش غير مسبوق. وخلال هذه الفترة لم يكن أداؤها بالمستوى المتوقع، فلا رئيسها امتلاك شخصية قيادية مناسبة للظروف الصعبة التي تمر بها مصر والتي صاغتها قوى الثورة المضادة، ولا تنظيمها استطاع فصل الجانب الدعوي لديها عن الجانب السياسي. ولم تسعفها نظرتها السياسية لاستيعاب حقائق الواقع السياسي المحيط بها، فاستجابت لدعوات بعيدة عن ثقافتها وتخندقت في غير خندقها، واستدرجت لمواقف مع القادة الإسرائيليين لا تليق بها، ولم تستطع استقطاب الآخرين وتحييدهم، معتقدة أن الأمر قد استقر لها تماما. وعندما جاءت الضربة الأمنية بتخطيط ودفع من قبل قوى الثورة المضادة، لم تستطع الحركة تحمل ذلك. وكانت النتيجة خروجها من الحكم ممزقة والدماء تسيل من أوصالها، بعد أن شوهت إسلاميا وسياسيا وتنظيميا وبرغم تنازلها عن شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعته طوال عمرها. واليوم أصبحت الحركة ممزقة ومشتتة في أصقاع الأرض وقادتها يرزحون في السجون، بينما هرمت رموزها ولم تعد قادرة على طرح مبادرات تنسجم مع الظروف المتجددة ومستلزماتها. ومن الصعب استشراف حقبة مقبلة تستعيد الحركة فيها موقعها الريادي بعد أن استطاع الحكم العسكري والتحالف السعودي ـ الإماراتي ضرب مشروع الإسلام السياسي الذي يمثلونه، فأصبحوا تركة ثقيلة لا يريد احد حملها. وبرغم النقد الموجه لإخوان مصر فان الفروع الأخرى لم تكن أحسن حالا. فبرغم تنازلات إخوان تونس فقد اخرجوا من السلطة ويتعرضون لحملات تشويه يومية ممولة من قبل التحالف السعودي ـ الإماراتي. وإخوان السودان تمزقوا منذ زمن وغاب مرشدهم الروحي، المرحوم الدكتور حسن الترابي بعد أن تم سجنه وتهميشه من قبل أحد مريديه. وإخوان المغرب ليسوا أفضل حالا بعد أن قبلوا بالانخراط ضمن نظام حكم لا ينسجم مع ايديولوجيته وقيمه، فتراجعوا كثيرا عن مبادئهم من أجل السلطة، ومع ذلك فرأسهم مطلوب ولن يطول الوقت قبل إبعادهم.

وفي العراق تواجه الحركة الإسلامية ممثلة بحزب الدعوة أسوأ حالاتها، فقد خسر رموزها المعركة الأخلاقية بعد 15 عاما على رأس الحكومة، متهمين بضعف الإدارة والمشاركة في الفساد. وساهم في ذلك تنازع رموزهم على الحكم مع علمهم أنهم يعيشون في ظل الهيمنة الأمريكية المطلقة. وبرغم عدم رفعهم شعار الحكم الإسلامي إلا أن وجودهم في الحكم كان مثيرا لحفيظة قوى الثورة المضادة. ويجد قادة الحزب اليوم صعوبة بالغة في ترويجه أو طرحه في الشارع الذي أصبح يحمل الحزب كافة إخفاقات الحكم. وهكذا تراجع المشروع الإسلامي في العراق وليس متوقعا عودة الحياة مجددا لذلك المشروع خصوصا في ظل الهيمنة الأمريكية وتوجه البعض للتطبيع مع الإسرائيليين، وفتح المجال للتحالف السعودي ـ الإماراتي للعبث السياسي والفكري وشراء المواقف في أوساط الشيعة والسنة على حد السواء.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/01/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد