آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
علي محمد فخرو
عن الكاتب :
مفكر بحريني

استباحة ثروات الآخرين … دروس وعبر

 

علي محمد فخرو


ما يحدث في فنزويلا شأن يخص بالطبع الشعب الفنزولي، الذي يواجه شتى المؤامرات الداخلية والخارجية، القريبة والبعيدة. لكن ما يهمنا ، نحن العرب ، هي الظاهرة الفنزويلية، لنتعلم منها ونعي عِبرها. دعنا نركز على بعض من مكونات وتداخلات تلك الظاهرة التي نعتقد أن بعض تفاصيلها تشير إلى الدروس والعبر الواجب استيعابها.

أولا: ملكت فنزويلا عبر قرن كامل مخزونا بتروليا هائلا، يماثل مخزون المملكة العربية السعودية، وهناك من يقول بأنه يزيد عن ذلك. بهذه الثروة كان بإمكان فنزويلا أن تؤسس لبنية تحتية حديثة كفؤة، واقتصادا إنتاجيا غير ريعي، بما في ذلك إنتاج زراعي وافر، من أرض حباها الله بالمياه والتربة الخصبة، وتقدم لمجمل شعبها خدمات اجتماعية معقولة، لمواجهة الفقر والتهميش والجهل. لكن النخبة السياسية الفنزويلية تعثرت، بأشكال مختلفة، ولأسباب متنوعة، في بناء نظام سياسي ديمقراطي مستقر يجمع بين الروح الثورية والفكر اليساري التقدمي من جهة، ومتطلبات الواقع المعقد الصعب داخل فنزويلا وحول محيطها المليء بالمؤامرات الاستعمارية والرأسمالية الجشعة من جهة أخرى.

الدرس الذي يجب أن تتعلمه دول الغنى البترولي والغازي الفاحش في بلاد العرب، هو أن الثروة الريعية، التي لا يصاحبها فكر سياسي ديمقراطي عادل، ومؤسسات حكم تمثل جميع شرائح المجتمع، وتوزيع للثروة يأخذ بعين الاعتبار مطالب ومصالح مكونات ذلك المجتمع، واستعمال جزء كبير من تلك الثروة لترسيخ اقتصاد إنتاجي ومتطلبات تنمية إنسانية مستدامة، فإن تلك الثروة ستكون مطمعا لكل من هب ودب من قوى استعمارية كالولايات المتحدة، ومن مؤسسات رأسمالية أنانية تعيش على استباحة ثروات الآخرين. وستجد في الداخل من يعين الخارج على تلك الاستباحة.

تلك الصورة المأساوية ، من عدم الاستعداد السياسي والاقتصادي المسبق، هي التي تعيشها فنزويلا الآن، وهي الصورة نفسها التي تنتظر دول البترول والغاز العربية، إن لم تستعد سياسيا واقتصاديا وتخرج مجتمعاتها من غواية الحياة الريعية التي سيمتحنها الزمن، ثم يعقبها العقاب المؤلم.

ثانيا: ليس غريبا على مؤسسة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية أن تمارس كولونيالية ابتزازية سافرة في فنزويلا، من خلال تجييش عملائها في الداخل والخارج، واستنفار مخابراتها والدول السائرة في فلكها، والتهديد باستعمال القوة ضد حكم شرعي منتخب، بدون مراعاة للأعراف والقوانين الدولية. فتاريخ أمريكا هو قصة طويلة من تدخلات واعتداءات على بلدان ومؤسسات وتصفية لأشخاص اعتبرتهم أمريكا معادين لها. إنها قصة تحتاج لمجلدات لتوضيح ملابساتها وسرد مآسيها العمرانية والبشرية، وسنكتفي بذكر بعض من عناوين فصولها.

تاريخ القصة الأمريكية بدأ بالتخلص من ثمانين في المئة من سكان القارة الشمالية الأصليين، الهنود الحمر، سواء بالذبح أو بنشر الأمراض، مرورا باستعباد أربعة ملايين من الأفارقة وتسخيرهم لخدمة كبار ملاكي المزارع البيض، مرورا بموجات غزو من أقصى الشرق الأمريكي إلى أقصى غربه، للاستيلاء على ثروات الأرض وساكنيها، واقتطاعا لأرض بنما من كولومبيا، حتى تبقى قناة بنما تحت سيطرة أمريكا ومداخيلها نهبا لشركاتها، والاستيلاء على الفلبين كمستعمرة أمريكية مستغلة.

الثروة الريعية، التي لا يصاحبها فكر سياسي ديمقراطي عادل، ومؤسسات حكم تمثل شرائح المجتمع ستكون مطمع القوى الاستعمارية

وما أن حل القرن العشرين حتى زاد جنون الاستحواذ بشكل مريع: استعمال سلاح القنابل الذرية في قتل ربع مليون ياباني وتشويه مئات الألوف، الاعتراف بالكيان الصهيوني في فلسطين العربية بعد بضع دقائق من قيامه ودعمه بالمال والسلاح والنفوذ حتى يومنا هذا، تدبير انقلاب على رئيس وزراء إيران محمد مصدق، عقابا له على وقوفه في وجه شركات البترول الجشعة، تخطيط ودعم انقلابات تآمرية على حكومات شرعية في تشيلي ونيكاراغوا وإندونيسيا، خوض وقيادة حروب مدمرة للعمران والبشر في كوريا وفيتنام وكمبوديا، تآمر على حركة قومية عربية تقدمية لمنع قيام أي وحدة عربية من أي نوع كان، تلفيق كذبة كبرى حقيرة من أجل استباحة العراق ونهب ثرواته، تدخل وتآمر وتلاعب بأشكال لا تعد ولا تحصى في المشهد السوري، وأخيرا ابتزاز تهديدي لسرقة ما يمكن سرقته من أموال دول البترول الخليجية.

كان لابد من ذكر كل ذلك، وهو قليل من كثير، لتتضح الصورة تماما، ويقتنع الجميع بأن ما تفعله أمريكا في فنزويلا هو تتمة لسلسلة طويلة من تدخلات واستحواذات.

هل ستعي النخب السياسية العربية، في الحكم وفي المجتمع، أن الأيادي التي تمدها للولايات المتحدة الأمريكية، ومشاعر الصداقة والثقة التي تملأ الدنيا بالإعلان عنها، وتخطيط المستقبل العربي بمعيتها وحمايتها ووعودها، قابلة للانقلاب عليها من قبل نظام الحكم في واشنطن؟ هل ذاك التاريخ يوحي بالاطمئنان تجاه أي وعود يقدمها أرتال من السياسيين الأمريكيين وهم يجوبون أرض بلاد العرب من أقصى مغربها إلى أقصى مشرقها؟ نحن نشير إلى ذلك، خصوصا مع وجود قيادة حالية نرجسية غير متوازنة وجاهلة بكل أصول العمل السياسي.

إن الانقسام المجتمعي المؤسف في فنزويلا هو المدخل الذي تدخل من خلاله أمريكا لتقضي على طموحات وآمال شعبها، لتعيد ذلك البلد إلى حظيرة الاستباحة والاستغلال. فهل سيتعلم القادة العرب الدرس ويعرفون أن انقساماتهم العبثية الكثيرة هي مدخل دائم للتدخلات الغربية وغير الغربية في شؤونهم؟ درسان واضحان تقدمهما الأحداث في فنزويلا، وهما جديران بالتأمل والاستفادة من عبرهما.


جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/01/31

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد