آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

تكنولوجيا الصواريخ تغير التوازن الاستراتيجي


د. سعيد الشهابي

برغم فشل القمة التي عقدت الأسبوع الماضي بين الرئيسين الأمريكي والكوري الشمالي في العاصمة الفيتنامية، هانوي، إلا أن دونالد ترامب يستطيع الادعاء بأنه حقق هدفا واحدا بعد قمتين مع الرئيس جون اون، حتى الآن: وقف تجارب الصواريخ من قبل كوريا الشمالية. فما هي قصة الصواريخ وموقعها في الصراع العالمي؟

بعد الحرب العالمية الثانية بدأ السباق الدولي على اقتناء التكنولوجيا النووية التي بدت مغرية للدول الكبرى خصوصا بعد أن استخدمها الأمريكيون لإنهاء الحرب وتدمير مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين. وبرغم حظر التجارب النووية ومنع اقتناء الدول الأخرى تكنولوجيتها ما عدا الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي فقد انتشرت على مدى واسع، فأصبحت «إسرائيل» تمتلكها وكذلك الهند وباكستان، وربما البرازيل وأخيرا كوريا الشمالية. فما معنى هذا الحظر الدولي إذن؟ مع ذلك فأن امتلاك السلاح النووي لم يمنع نشوب خلافات بين الدول التي تمتلكها برغم أنها تعتبر في جوهرها سلاحا رادعا وليس ميدانيا. فالتوتر العسكري الأسبوع الماضي بين الهند وباكستان النوويتين يؤكد أمورا عديدة: أولها أن امتلاك السلاح النووي لا يمنع نشوب الخلافات التي قد تصل إلى المواجهة العسكرية، ثانيها: أن شبح الحرب النووية يقترب من العالم برغم الاتفاقات والمواثيق الدولية التي تحظر امتلاكها، ثالثها: أن ثقافة تدمير الآخر ما تزال تعشش في عقول قادة الدول التوسعية التي ترغب في الهيمنة والسيطرة على العالم.

الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية أدت لتطورين متضادين: أولهما حظر التجارب النووية خارج الدول الخمس ومنع امتلاك أي من دول العالم الثالث تلك التكنولوجيا، ثانيهما: الحد من المواجهة بين الدول النووية وتقليص النزعة نحو المواجهة المسلحة بين هذه الدول. مع ذلك تواصلت الحروب المدمرة، أولا في فلسطين، وثانيا في شبه القارة الكورية، وهي حرب ما تزال، من الناحية الرسمية، قائمة حتى الآن، وثالثا في فيتنام، وكذلك بين العديد من الدول الأفريقية.

وإذا كانت التكنولوجيا النووية تخضع لرقابة دقيقة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فان تكنولوجيا الصواريخ أصبحت مصدر قلق واسع خصوصا بعد أن تمكنت دول عديدة من امتلاكها.

وفي السنوات الأخيرة انتشرت تكنولوجيا الطائرات بدون طيار (درون) التي أصبحت هي الأخرى مصدر قلق واسع بعد أن امتلكتها منظمات مسلحة عديدة في أنحاء العالم. ولكن يمكن القول أن تكنولوجيا الصواريخ هي الأكثر إثارة للقلق على صعيد العلاقات الدولية. ولتأكيد هذا القلق يمكن الإشارة إلى القرار الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعته في 2015 الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن ومعها ألمانيا مع الجمهورية الإسلامية في إيران.

اليوم لم يعد الحديث عن الحد من انتشار الأسلحة محصورا على السلاح النووي، بل أصبح يشمل صناعة الصواريخ وانتشارها. فلم يعد السلاح النووي أو الطائرات الحديثة كافية لضمان التفوق الاستراتيجي بل إن تكنولوجيا الصواريخ دخلت على خط التفاوض الدولي من أوسع الأبواب.

وكان أهم اعتراض قدمته الولايات المتحدة انه لم يتطرق لامتلاك إيران تكنولوجيا الصواريخ، وأن أي اتفاق يجب أن يحد من القدرات الصاروخية الإيرانية، خصوصا البالستية القادرة على حمل رؤوس نووية. ولا يبدو أن طهران تستطيع ذلك لأنه المجال الوحيد الذي تستطيع من خلاله توفير منظومة دفاعية في ضوء الحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري على إيران. وقد أدرك الإيرانيون، منذ منتصف الثمانينيات، عندما كانت الحرب مع العراق في ذروتها، أهمية الصواريخ بعد أن أدركت استحالة حصولها على طائرات حربية متطورة لسببين: الحصار الذي فرضته أمريكا على إيران والأسعار الخيالية لتلك الطائرات. وركزت إيران على مدى العقود الثلاثة الأخيرة في استراتيجيتها العسكرية على جوانب أربعة: أولها امتلاك تكنولوجيا الصواريخ بما يوفر احتياجاتها لضمان أمنها القومي، ثانيها: الحفاظ على ما لديها من طائرات قديمة وإعادة تأهيلها لتصبح قادرة على أداء دور دفاعي عند الحاجة، ثالثها: توسيع صناعاتها الحربية لتوفير احتياجاتها من الأسلحة التقليدية مثل الدبابات والمدافع، رابعها: توسيع نفوذها الإقليمي بما يتيح لها اذرعا ضاربة تلجأ إليها عند الحاجة.

ويمكن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر أصبحت من المنظور الاستراتيجي مشغولة بدوائر ثلاث: أولاها انتشار تكنولوجيا الصواريخ وامتلاكها من قبل أنظمة غير صديقة مثل إيران وكوريا الشمالية ومجموعات مسلحة عديدة، ثانيها: تطوير منظومتها الصاروخية لتحسين دفاعاتها في أوروبا، بما في ذلك ما ذكره الرئيس ترامب عن رغبته بتدشين النسخة الثانية من منظمة الدفاع الاستراتيجي أو ما اصطلح على تسميته «حرب النجوم» وعودته للحديث عن نصبها في أوروبا. ثالثها: مواجهة صعود قوى جديدة للمسرح السياسي الدولي بسبب نموها الاقتصادي كما هو الحال مع الصين والهند. لقد أصبح موضوع الانتشار الصاروخي مقلقا جدا للإدارة الأمريكية لأسباب عديدة: أولها حالة الفزع التي تنتاب حلفاءها خصوصا «إسرائيل» والسعودية اللتين فقدتا تفوقهما العسكري على مناوئيهما بسبب انتشار ظاهرة امتلاك الصواريخ بعد أن توفرت تكنولوجيتها على نطاق واسع. فالكيان الإسرائيلي قلق جدا من امتلاك المنظمات التي تقاومه آلاف الصواريخ التي أثبتت قدرتها على اختراق نظامها الدفاعي المعروف بـ «القبة الصاروخية». ثانيها: تراجع أداء مشروع «القبة الصاروخية» التي كانت مصممة لاعتراض عدد محدود من الصواريخ ولا تستطيع اعتراض كل الصواريخ إذا أطلقت بأعداد كبيرة، ثالثها: تصدع مبدأ «التوازن الاستراتيجي» الذي حرصت الولايات المتحدة على ضمان تفوقها فيه، ومن أسباب ذلك سياسات البيت الأبيض التي تنأى تدريجيا عن العمل الدولي المشترك، وتسعى لتهميش دور الجهات الدولية التي ترعى ذلك التوازن، وفي مقدمتها الأمم المتحدة. رابعا: أن سياسات ترامب فرضت على الدول الأخرى سياسات جديدة من التمرد ضد عقلية الاستعلاء والاستكبار والعنصرية التي فرضت نفسها على الدوائر الأمريكية وكبار مسؤوليها كوزيري الخارجية والدفاع وعضو مجلس الأمن القومي، جون بولتون.

لذلك أصبح موضوع الصواريخ معضلة سياسية وعسكرية دولية لأنه أخل بمفهوم «التوازن العسكري» ووفر للجهات المحاصرة أمكان كسر ذلك الحصار بصناعات محلية بتكلفة محدودة إذا ما قورنت بالاستراتيجية العسكرية المؤسسة على امتلاك الطائرات الحربية. فبالإضافة لتوفير أرواح طياري الطائرات العسكرية، فان تكلفة الصواريخ ضئيلة جدا مقارنة بالطائرات العسكرية. فمثلا تبلغ قيمة كل طائرة من نوع «اف 35» الأمريكية حوالي 150 مليون دولار، وبذلك فأن سقوط أحداها يعتبر خسارة مادية فادحة. يضاف إلى ذلك أن من غير الممكن لأية جهة محاصرة (سواء دولة أم منظمة) الحصول على طائرات من هذه الأنواع، بينما تستطيع تصنيع صواريخ فاعلة توفر لها ترسانة عسكرية رادعة. فعندما أمطرت قوات «حماس» الأراضي المحتلة بوابل من الصواريخ، برغم بدائيتها، فقد أحدثت هزة داخل الكيان الإسرائيلي وأجبرت رئيس وزرائها على قبول وقف إطلاق النار، الأمر الذي دفع وزير دفاعه للاستقالة بدعوى أن ذلك يعني انتصار حماس. وهكذا أصبحت الصواريخ قضية ضاغطة على الولايات المتحدة لأنها أعادت شيئا من التوازن الإقليمي لغير صالح حلفاء أمريكا. ومارس هؤلاء الحلفاء ضغوطا على البيت الأبيض للضغط على إيران التي طورت الصناعات الصاروخية التي استفاد منها بعض أصدقائها في لبنان وفلسطين واليمن. اليوم لم يعد الحديث عن الحد من انتشار الأسلحة محصورا على السلاح النووي، بل أصبح يشمل صناعة الصواريخ وانتشارها. فلم يعد السلاح النووي أو الطائرات الحديثة كافية لضمان التفوق الاستراتيجي بل إن تكنولوجيا الصواريخ دخلت على خط التفاوض الدولي من أوسع الأبواب.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/03/04

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد