آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حسن خليل
عن الكاتب :
عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

الشرق الأوسط: المواجهة الحتمية


حسن خليل

تشهد منطقة الشرق الأوسط اليوم بداية انحسار المشروع الإمبريالي الغربي بكلّ أوجهه؛ فبالرغم من حالة الاشتباك المفتوح في أكثر من ساحة، من العراق إلى سوريا وفلسطين ولبنان واليمن ومصر وليبيا... وصولاً إلى حالة الفوضى، المتنقلة بين بلد وآخر، بالإضافة إلى الدخول المباشر لكلّ الدول المؤثرة، الدولية منها والإقليمية، في الصراع الدائر، وأحياناً عبر جيوشها، إلّا أن ثمة مؤشرات جدّية تشير إلى تبدّل ذي طابع بنيوي في طبيعة الصراع في المنطقة. تبدّل سينعكس بكل تأكيد على مستقبل بلدانها وشعوبها، فالمشروع الغربي، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، والمدعوم دولياً وإقليمياً وعربياً، لم يستطع حسم الوضع لمصلحته، بل يمكن القول، بأن نقيضه المواجه له هو من يتقدّم، وما الساحات السورية والفلسطينية والعراقية واللبنانية إلّا المؤشر الحقيقي على ما يمكن أن تكون عليه نتائج ذلك الصراع الكبير. بانت ملامح تلك النتائج جيداً، إلّا أن كتابة فصول نهايتها قد تطول بعض الشيء، إذ لا يمكن «للبلطجة الأميركية» المتمادية في عدوانها التسليم بهذا الأمر من دون المكابرة أو تعظيم كلفتها وإطالة أمدها، ما قد يجعل الفصل الأخير منها أكثر شراسة وأثقل كلفة. وما هجومهم المعاكس، عبر الضغط السياسي والحصار والتجويع، وزيارات مسؤوليهم المتكررة إلى المنطقة، ومشروع «قيصر» الذي بموجبه يحاولون بث الحياة في الهياكل الصدئة لنظم وكيانات وظيفية وجماعات تابعة ومرتهنة، إلّا خطتهم البديلة بعد فشل الأصيلة كخيار أخير متبقٍّ لهم لتحسين مواقع التفاوض أو الانسحاب الآمن بعد أن أقروا بهزيمتهم، أو أقله حصولهم على حصة في السياسة والاقتصاد. 
 
فالولايات المتحدة الأميركية لم تستطع، وبالرغم من احتلالها العراق طوال عشر سنوات، وما رافق ذلك من تدمير للبنى الفوقية للمجتمع والتحتية لأسس الدولة ثم إعادة تركيبهما بشكل مشوّه، أن تتحكم بمستقبل هذا البلد وتلحقه بركابها. لقد غادرت العراق منهيةً مفاعيل احتلالها، والسبب ليس لأنها أنجزت ما تريد، بل لأنها انهزمت نتيجة خيار المقاومة ومواجهة الاحتلال، الذي اتخذه الشعب العراقي، وهذا ما يجهد الكثيرون لتخطّيه وعدم ذكره. بغضّ النظر عن تركيبة تلك المقاومة وطبيعة دعمها، إلّا أن جوهر وجودها، كحالة شعبية في مواجهة الاحتلال وبالسلاح، شكّل بداية هزيمة المشروع الأميركي في العراق وفصلاً من فصول دحره في المنطقة، إلّا أن تركيبة النظام السياسي الذي حكم في ظلّ الاحتلال، المشوّه والمركّب على قواعد تجانب الفدرلة وتشجع عليها، قد جعل منه حصان طروادة لعودة بعض الوجود الأميركي إلى العراق.
في سوريا، ولكي لا ندخل في فخ التوصيف الذي يشذّ في أحيان كثيرة عن مقاصد الكلام، فإن الأزمة التي بدأت عام 2011، والتي تخطّت، منذ أيامها الأولى، مسألة الشعارات الشعبية المنادية بالحرية والديمقراطية، لتتحول إلى عدوان إقليمي ودولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، مستخدمة كل أدواتها في المنطقة: من كيان صهيوني وأنظمة رجعية وجماعات إرهابية، كانت قد نمت وترعرعت في حضن أصحاب المشروع الأم. هذه الحرب المتواصلة، تبدأ اليوم عامها التاسع على أرضية مختلفة؛ لقد حققت الدولة السورية تقدماً كبيراً على الأرض من خلال السيطرة على أكثرية سوريا المفيدة، وهذا ما يزعج الغرب الاستعماري والصهيوني ويربكه، ويؤشر إلى عودة سوريا وحلفائها إلى لعب دور «مواجهٍ» في المنطقة. هذا يعني، أن سوريا ستوجّه الصفعة الثانية لذلك المشروع بعد العراق، مع التأكيد في الوقت نفسه، على أن فصول تلك الأزمة ستأخذ مناحي أخرى غير العسكرية، وما الحصار الاقتصادي والعقوبات، وتحريك بعض الخلايا الإرهابية النائمة، إلّا تمديد لها ولإطالتها، بهدف البناء على نتائجها السلبية. الأمر الذي قد ينعكس تغييراً على المزاج الشعبي، ويدفع باتجاه تعديل موازين القوى، المختلّة اليوم لمصلحة الدولة السورية، سواء منها العسكرية أو الشعبية.

تقسيم المقسّم وتوزيع الحصص وتشويه الوعي والإجهاز على أي محاولة هدفها بناء أفق لتغيير جدّي هي من سمات المرحلة الحالية

مأساة سوريا، لطالما كان جوهرها وأساسها موقعها الجيو - سياسي في المنطقة؛ فهي تقع على تقاطع المشاريع المختلفة لخطوط السياسة وأنابيب نقل الغاز، وأيضاً على حدود القضية القومية - فلسطين، وجزء منها. ومن هنا كان الاستهداف، للموقع الجغرافي واستكمالاً للتموضع السياسي. فمن دون أدنى شك، لقد لعبت سوريا دوراً محورياً في كلّ أزمات المنطقة، بغضّ النظر عن ماهية ذلك الدور وطبيعته. دعمت قوى المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وإن كان ذلك الدعم، في بعض المواضع، ناتجاً من استخدام سياسي.

لم تقفل حدوداً أمام نازح أو لاجئ، وفي الوقت نفسه لم تنصَعْ للمواقف والإملاءات الغربية، بل كانت تتعامل بمواقف تراوح بين المبدئية والمصلحة، لكنها في المقابل، لم تقدم أيّ تنازل مجّاناً. هذا الموقع تم استهدافه خلال السنوات الثماني الماضية من خلال الدفع نحو الفوضى، تماشياً مع ما كان يحدث في الشارع العربي عموماً وتماهياً معه.
إن الموقف السياسي السوري من قضايا المنطقة، وتموضع النظام في مواجهة المشروع الأميركي، وبخاصة موقفه من الاحتلال الأميركي للعراق وتهديدات كولن باول، وموقفه من «حرب تموز 2006» والدعم المفتوح للمقاومة في لبنان وفلسطين، أعفى سوريا من شبهة المسايرة أو غض الطرف عمّا يحدث في المنطقة، وهذا من الأسباب التي جعلت الغرب والأنظمة الرجعية الإقليمية والعربية تأخذ ذلك الموقف المتشدد من أزمتها وتدفع باتجاه عسكرتها مبكراً. وفي المقابل، فإن الوضع الاقتصادي السوري، الذي كان يمرّ بظروف عديدة أثّرت سلباً في مستويات إنتاجه، مضافاً إليها السياسات الاقتصادية التي أُدخلت عليه، والتي كانت بأكثريتها ليبرالية، إلى جانب الفساد الذي كان مستشرياً في الكثير من مفاصل الدولة، جعل من التدهور الاقتصادي - الاجتماعي للجماعات الأكثر فقراً علامة فارقة في مسار الدولة السورية، والتي كادت تكون البلد الوحيد الذي لم يكن اقتصاده مُثقلاً بالديون، بالإضافة إلى «اكتفاء ذاتي» في المواد الأساسية. 
ساهم هذا الواقع، إلى حدّ كبير، وفي بعض ضواحي المدن والأرياف، في تأسيس بنية تحتية من المهمشين اجتماعياً والمتضررين اقتصادياً من النمط الذي ساد، فشكلوا مجموعات شبه عسكرية، استجابت مبكراً لحمل السلاح وللاقتتال، كما شكّلوا النواة العسكرية المحلية للحرب الدائرة إلى جانب آلاف الإرهابيين الذين استجلبوا من كل دول العالم. وقد اكتمل المسار، بالدعم الخارجي اللامحدود بالإضافة إلى استقدام العامل المذهبي كعنصر محفز، فتحولت تلك الحرب، تحت مفاعيل تلك المسائل وفي جزء منها، إلى اقتتال دموي بأساليبه وأشكاله وأنماطه، يصعب لمّ تداعياته بسهولة. التقدير هنا بأن تلك القضية، ربما ستشكل عقبة جدّية أمام بناء دولة وطنية ديمقراطية تلبّي مصالح الشعب السوري واحتياجاته، مع التأكيد في الوقت نفسه، بأن لا حلَّ سياسياً لسوريا إلّا من خلال طرح ذلك النمط من الدولة التي تعكس تطلّعات الشعب السوري وآماله وموقعه السياسي في المنطقة وموقفه المنحاز دوماً إلى قضاياها المحقّة والعادلة. 
من جهة أخرى، فإن الوقوف اليوم إلى جانب سوريا هو أمرٌ مطلوب، فهي تقع في عين المواجهة؛ إذ إن الاستهداف الأميركي واضح، والضغط باتجاه تقسيمها هو الآن في أعلى مستوياته، وعملية منع إعمارها تسير وبتواطؤ غربي وعربي، ومسألة تجويع شعبها على جدول أعمال كل دوائر الاستعمار... هذا الوضع يتخطّى بمفاعيله الجغرافيا السورية ليطال بتأثيراته مناطق أبعد من الحدود المرسومة للبلدان، فهو مسألة سلوك مارسته وتمارسه عقلية مستبدّة ضد شعوب العالم ومصالحها، لذلك فإن واجب مواجهته يصبح ضرورة، وبكل الوسائل بما فيها المسلّحة إن استوجب الأمر، وأيضاً بكسر الحصار عنها ومحاولة خنقها اقتصادياً ومعيشياً.

سبل المواجهة

إنّ مواجهة السياسات الإمبريالية في المنطقة، معطوفةً عليها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، والتي بأكثريتها تستجيب لإملاءات صناديق النقد والتجارة والديون المرتبطة بشروط رأس المال، لا يمكن أن تكون إلّا من خلال نظم سياسية تقوم أساساً على منطق المواجهة المزدوجة: بين متطلبات الداخل وموجبات تحدّي مشاريع الخارج وبالتحديد المشروع الغربي في المنطقة. هذا الكلام ينطبق على سوريا والعراق ومصر ولبنان واليمن وفلسطين وغيرها من البلدان، التي وقعت تحت مفاعيل تلك المشاريع ولا تزال. إن محدودية المواجهة أو تجزئتها واقتصارها على قضايا محددة وساحات منفردة، هي من ستُضعفها. من هنا كان الأجدى بتلك النظم السياسية أن تُطلق العنان لشعوبها - الأصيلة في المواجهة والصادقة في موقفها كي تقودها - وعلى حدود ثلاثة: الداخل، من خلال إقامة نظم سياسية على أساس مصالح الأكثرية الشعبية وتطلعاتها في سبيل بناء دول وطنية ديمقراطية، والخارج، على أساس ضرب أسس ذلك المشروع الذي يهدف إلى الهيمنة، ومن موقع نقيض يقوم على التحرر الوطني الرافض لكل أنواع الاستتباع والهيمنة، والوحدة، من خلال تجميع كل موارد القوة، كي تصبح المقاومة قادرة وواحدة وشاملة لتشمل كل الساحات والقضايا. ذلك من خلال التكامل بين حدّيه السياسي والاقتصادي، كإطلاق سوق عربية مشتركة هدفها بناء مظلة اقتصادية لمحاربة الفقر ومنع التبعية، كأساس مطلوب البناء عليه. 
لم تستطع تلك النظم وقواها، التي أدارت معارك الاستقلال الوطني تجذير تلك المواجهات عبر إشراك كل المكونات الشعبية فيها واستخدام كل مواطن القوة.

لقد استسهل، بعضها على الأقل، استخدام الولاء الخارجي كمخرج له من حرج العجز، الناتج، بدوره، من عوامل ذاتية وضغوط خارجية مشتركة مع صعوبات اقتصادية، ما جعل الانفصام في التعبير عن الموقف وطبيعته، سيد الساحة دون منازع، حيث الأنظمة في مكان والشعوب في مكان آخر، وليس بالضرورة في المكان النقيض. هذه الحالة السائدة لم تفرز إلّا المزيد من المشاكل والصعوبات والحروب المستمرة، والتي وصلت إلى حدّ لم تنضج معه بعد إمكانية قيام حركة وطنية عربية، تأخذ على عاتقها بناء مواجهتين مستحقتين: الأولى، مواجهة المشروع الأم وتحرير القرار السياسي والاقتصادي من التبعية كما تحرير الأرض من الاحتلال ومواجهته، والثانية، من أجل بناء دول بمقومات تعزز قدرتها على المواجهة من جهة والتنمية الاقتصادية من جهة أخرى.

كليّة المواجهة، وتشابك القضايا والساحات والمواضع، تجعل إمكانية ربحها متوافرة

ما يُرسم للمنطقة اليوم، رُسم منذ قرن من الزمن، وما يجري حالياً هو تعديل تلك الخرائط كي تتلاءم ومستلزمات المشروع الجديد ومتطلباته. تقسيم المقسم وتوزيع الحصص وبث القلائل وزرع الألغام الموقوتة ونهب الثروات وتشويه الوعي، والإجهاز على أي محاولة هدفها بناء أفق لتغيير جدّي، هي من سمات المرحلة الحالية. لقد جهد أصحاب المشروع «الأم-الأساس» لتوفير كل مستلزمات النجاح لمسعاهم، وهم مستمرّون، وعليه تصبح المواجهة المطلوبة أكثر من ضرورية: فتقسيم سوريا على الورق ناجز وإلى حدٍّ كبير في النفوس؛ فجدران الفصل المذهبي والطائفي والعرقي بانت بعض معالمها وأساساتها، والفرز القائم على أساس تجهيز قوافل «الترنسفير» يسير على قدم وساق. وفي العراق حدود المذاهب والطوائف والأعراق مرسومة بالجغرافيا، لكن من دون إعلان كليّ، وتعليق مشانق الإبادة بدأت معالمها بالظهور. لنا في تاريخ منطقتنا بالذات نماذج كثيرة وعِبر؛ لم تمنع اتفاقية سيكس-بيكو المجازر بل، ربما ساعدت عليها، كي تستطيع فرض خرائطها، ونخشى اليوم أن تكون المنطقة تتجهز لإعادة ذلك التاريخ المرتبط بالسلوك نفسه. الخشية الكبرى أن تكون مسألة تعديل الحدود، أو إقامة كيانات جديدة، أمراً لا يمر إلّا عبر الإبادة أو التهجير!
أمّا القضية الفلسطينية، فها هي تُسلّم مجدداً إلى جلّاديها، مدعومة هذه المرة باصطفاف كبير، في طليعته من يُفترض أن يكون، أساساً، مدافعاً عنها. فبدل أن نرى العالم، وبعد سبعة عقود من النكبة، ينتصر لشعب، هو الوحيد الذي لا دولة له، نراه يركض جاهداً لتصفية تلك القضية «التاريخية بكل المعايير»، والانتهاء منها. لم تصمد قضية كل تلك المدة كالقضية الفلسطينية، فهي تقع بين حدّين متناقضين؛ حالة رفض وعدم قبول من قِبل أصحابها، وحالة إنكار وتعسّف وظلم واستبداد من بقية العالم. ومع ذلك لا يمكن، بأية حالة من الأحوال تجاوزها، فهي أساس أية مواجهة جدّية ونقطة انطلاقها. 
على هذا الأساس، تصبح المقاومة كخيار، فعلاً واجباً سياسياً واقتصادياً وفكرياً وأخلاقياً. فكليّة المواجهة، وتشابك القضايا والساحات والمواضع، تجعل إمكانية ربحها متوافرة. مقاومة عربية شاملة، هو مشروع لتجميع كل من أراد التصدي لهذا المشروع ومن الموقع النقيض وبكل الإمكانيات، ومساحة تضم كل الساحات المتاحة للمواجهة، ومكان لتتقاطع فيه كل الجهود. مقاومة تُعيد إلى الأذهان مقولة بأن للشعوب حقوقاً في المقاومة، وهذا المفهوم، لطالما جرى العمل على طمس معالمه، ليس لسبب إلّا لتثبيت ثقافة اليأس وتعميمها كقدر لا خلاص منه، أما السؤال الأساس والموجه إلى الجميع فهو: أما آن الأوان كي نحدّد الهدف المطلوب كي نسدّد عليه ونرمي صحيحاً في اتجاهه؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2019/03/14

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد