آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
زياد الدريس
عن الكاتب :
كاتب صحفي والمندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى منظمة اليونسكو (باريس) 2006م، حتى الآن.منح لـقـب “سفير السلام” من الاتحاد من أجل السلام الـعـالمي (UPF)، تثميناً لإسهاماته فـي ترسيخ ثقافـة الـسـلام والـتسـامح والتعددية، من خـلال مشاركاته المنبرية والكـتابية، وتعزيز التنوع الثقافـي واللغوي داخل منظمة اليونسكو.

(العروبة) التي نحاربها ونحارب بها!

 

زياد الدريس

 

هل ما زال ثمة فرصة للحديث عن العروبة؟!

قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال صعبة، لكن الحقيقة أن السؤال نفسه أكثر صعوبة من الإجابة، إذ عن أي مفهوم للعروبة نسأل؟ وأي حديثٍ عنها ننشد ... حديث المودع أم المستشرف؟

 

دعونا قبل أن ننغمس في حديث الهوية، أن نستذكر مقولة عبدالوهاب المسيري: «إن الهوية في الواقع شكل أساسي من أشكال المقاومة شرط ألا تتحول إلى غيتو يدخل فيه الإنسان ويتخندق». هل اكتفينا من الهوية بالمقاومة الشعورية، أم أننا اتخذنا الغيتو ملاذاً للعزلة من الانهزام؟!

 

داهمتْ العالم العربي طوال القرن المنصرم موجات من البحث المتجدد عن الهوية، أبرز ذلك موجتان: موجة القومية العربية التي شاعت في النصف الأول من القرن الماضي في أعقاب نشوة الخروج من هيمنة الاستعمار الأجنبي، وبالتالي بزوغ الحس العروبي المكبوت طوال حقبة الاستعمار، وقد تكثفت أيقونة هذه الموجة عبر إنشاء جامعة الدول العربية في العام 1945، ثم موجة الأممية الإسلامية التي هيمنت في النصف الثاني من القرن عقب فشل اللحمة العربية في مواجهة التمدد الاسرائيلي وخصوصاً بعد هزيمة 1967 وفقدان الثقة بالمكوّن العربي، وتكثفت الموجة الجديدة عبر إنشاء (منظمة المؤتمر / التعاون الإسلامي) في العام 1969.

 

كانت الهفوة الكبرى للقومية العربية هي في قيام بعض رموزها بالتطاول على الهوية الإسلامية، واعتبار الرابطة القومية هي الحل الأمثل للنهوض بعد التخلص من الرابطة الدينية / الأممية التي كانت ترمز لها الخلافة العثمانية / التركية، بعيداً الآن من صدقية أو زيف تلك الرمزية. هذه الجدلية الثنائية أورثت احتقاناً وتوجساً من قدرة العروبة على توحيد هوية المنطقة وتفعيل الحراك النهضوي فيها من دون مصادمة للإسلام الذي ما زال حينذاك، رغم الانفتاح الذي كان، جزءاً غير منسي من هوية الإنسان العروبي وإن بدا خافتاً، قبل أن يشتعل مجدداً في النصف الثاني من القرن الماضي بعد انبعاث وانتشار الصحوة الإسلامية التي ثأرت من محاولة تهميش الإسلام فحاربت القومية واستخفّت بشعارات العروبة واتخذت راية (الأمة) بديلاً صارماً عن راية (القومية).

ظل الإنسان العربي / المسلم محتاراً ومتنازعاً في هويته بين العروبة والإسلام، وكأنه غير قادر على جمعهما بل ملزم بالاختيار بينهما!

 

بعد مضي سنين قليلة من الصراع تباينت الصفوف، فأصبح الخطاب الثقافي منحازاً إلى القوموية والخطاب الديني منحازاً بالطبع إلى الإسلاموية. كان هذا الصراع المستهلِك لوجدان وتفكير المواطن العربي هو اللعبة الأمتع بيد السياسي، يلعب بإحدى ورقتيها كيفما شاء ومتى اقتضت الحاجة، من دون وعي منه، أو بوعي لحظوي/ أناني، لما يحدثه هذا الصراع على الهوية من تعطيل للحراك التنموي المستدام، وذلك عبر نقاشات وتأملات تنشغل بما نحن عليه لا بما يجب أن نكون عليه.

 

في خضم هذا التراكض الطويل للجلوس على كرسي الهوية، لم يفطن المثقف والواعظ والسياسي معهما إلى مفاجأة دخول عامل خارجي سيربك نقاشات الهوية الداخلية، تلك هي (العولمة) التي لا تعترف ولا تحترم حدوداً قومية ولا دينية ولا احترازات سياسية، حيث استطاعت في غضون سنوات قليلة لكن متسارعة أن تقنع الجيل الجديد، خصوصاً، أن أنسب هوية لمرحلته هي اللاهوية، أو ما يصفه البعض بالهوية العالمية أو الكونية. استسلم السياسي للعولمة أمام مغرياتها ومنافعها المادية، وتَصالح المثقف معها بوصفها مؤشراً على قرب تحقّق حلم (الإنسان الواحد)، أما الواعظ فقد شحذ عليها كل الأسلحة التي كان يستخدمها في حربه ضد القومية بل وزاد عليها، حتى بلغ به مدى المنابذة أنه استخدم العروبة التي كان يحاربها سلاحاً له في محاربة العولمة عبر إنعاش سمات العروبة ونخوتها!

 

ظلت العولمة، في أوج هيمنتها منذ التسعينات حتى ما قبل سنوات قليلة، الحصان الرابح في سباق الهوية الشرس. لكن السرعة الفائقة والهيمنة الطاغية لحصان العولمة أحدثتا نتائج عكسية، إذ جعلتا ميدان السباق الخالي من المنافسة بلا طعم وبلا نكهة، فكانت الصدمة أن استيقظ الإنسان، وليس العربي فقط، على حقيقة أن العالم المتشابه الخالي من التنافس والتنوع الموجز في الحلم بـ «القرية الكونية» ليس هو الحل الأمثل للعيش الممتع في حياة ملونة.

 

في «ما بعد العولمة» انتكس الناس راغبين متشوقين للعودة إلى هوياتهم الصغرى. تَمثّل هذا بوضوح أكثر في توجه الشباب الآن نحو تداول الأغاني والرقصات الشعبية والاعتزاز مجدداً بالأزياء الشعبية وانتشار المطاعم الشعبية وكثرة ارتيادها والتلذذ بالأطباق المحلية فيها، وتَفاقم هذا الرجوع إلى درجة طغيان الاهتمام لدى الشباب الآن بالجذور القبلية والمذهبية والإقليمية، فكان الخطر الراهن حالياً هو من تكالُب الهويات الصغرى. من هذا المنطلق فقد لا يكون من الإنصاف تسمية هذه الموجة الثالثة بالهوية الوطنية، إذ وإن بدت فيها مظاهر الحميّة الوطنية إلا أنها غير مكتملة الشروط والالتزامات المعهودة في مدوّنات مؤشر الوطنية.

 

جيل ما بعد العولمة تتجاذبه الآن ثلاث هويات: دينية وقومية وعولمية، هو يتعامل معها كلها، لكنه في العموم عصيٌّ على الانقياد لواحد منها، إذ لم تعد تستهويه شمولية الخطاب القومي بعد أن انغمس في محلّيته القُطْرية، ولم يعد الخطاب الديني قادراً على الاستحواذ عليه جماهيرياً كما فعلت الصحوة، أما العولمة فقد قرر أن ينتفع من أدواتها من دون أن تفرض شروطها عليه كما فعلت من قبل.

 

هل سيقاوم الجيل العربي الجديد تسابُق هذه الهويات الثلاث لسيطرة أحدها عليه مجدداً، أم سيكون قادراً على صنع هوية خاصة به، تقتبس من تلك الهويات المتناكفة ثم تعيد صياغتها وبلورتها لتخرج بهوية تنموية غير متحفزة للصراع؟

 

وهل سيستطيع هذا الجيل تحقيق توليفة متوائمة بين العروبة والإسلام توقف التراشق القديم غير المبرر بينهما، ثم توجِد أيضاً صيغة تصالحية مع الهويات الأخرى في العالم قادرة على نزع فتيل الصراع في المنطقة، إن استجاب «الآخر»؟!

(العروبة) قد تكون هي عصا التوازن التي سنستخدمها في مسيرنا على الحبل بين الهوية الدينية والهوية العولمية.

 

صحيفة الحياة

أضيف بتاريخ :2016/03/16

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد