آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الحصانة الدبلوماسية: ما لها وما عليها

 

د. سعيد الشهابي

في 3 حزيران/يونيو 1982 جرت محاولة لاغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، شلومو ارجوف، وحدثت ضجة كبيرة؛ لأن إحدى المنظمات الفلسطينية (أيلول الأسود التابعة لأبي نضال) هي التي قامت بذلك، برغم وجود مؤشرات أن العملية ربما دبرها الإسرائيليون لتبرير حربهم على لبنان. بدأ العدوان الإسرائيلي بعد ثلاثة أيام (6 يونيو) باجتياح الجنوب اللبناني، فاضطر الفلسطينيون للنزوح إلى بيروت.

حوصرت العاصمة اللبنانية ثلاثة أشهر وقصفت بوحشية حتى أجبر الفلسطينيون على النزوح من لبنان إلى تونس. الغربيون تضامنوا مع الإسرائيليين وصمتوا على عدوانهم بدعوى تعرض سفيرهم لمحاولة الاغتيال، وأن ذلك يمثل انتهاكاً للدبلوماسية «المقدسة». فهل هناك حقاً قداسة للدبلوماسية بين الدول؟ الأمر المؤكد أن قدراً من هذه الحصانة موجود ولا يمكن إنكاره، وهو أمر نصّت عليه المواثيق الدولية واتفاقات جنيف، والتزمت به دول العالم من الناحية النظرية على الأقل. ولكن ما أكثر الخروقات التي حدثت لهذه الدبلوماسية، وما أكثر الدول التي انتهكتها أو استغلتها للقيام بأعمال إجرامية في بعض الأحيان. والحصانة الدبلوماسية لا تضفى على الأفراد العاملين في السلك الدبلوماسي فحسب، بل حتى على مباني السفارات. ولذلك يندر اقتحام تلك السفارات مهما كانت الضرورة لذلك.

ربما من بين أهم اختراقات الحصانة الدبلوماسية هجوم الطلاب الإيرانيين عام 1979 على السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز 52 دبلوماسياً وموظفاً وإبقاؤهم 444 يوماً. كان ذلك في ذروة المد الثوري الإيراني الذي أعقب انتصار الثورة قبل سبعة أشهر من تلك الحادثة. وبعد مفاوضات دولية متعددة الأطراف، لعبت الجزائر فيها دوراً محورياً، أفرج عن جميع الدبلوماسيين بعد أن تم تنصيب رونالد ريغان رئيساً بعد جيمي كارتر. ولكن تلك الحادثة وقعت في ظروف استثنائية تعبيراً عن غضب الإيرانيين تجاه الولايات المتحدة التي اعتبروها مسؤولة عن دعم نظام الشاه وسياسة إخضاع إيران للهيمنة الأمريكية. كما أنها جاءت بعد السماح للشاه بدخول الولايات المتحدة للعلاج، ولم تقم بها الحكومة التي كان يرأسها المرحوم مهدي بازركان. وكان من نتيجة ذلك قطيعة مستمرة بين البلدين استمرت أربعين عاماً وما تزال مؤثرة في المشهد السياسي حتى اليوم. وفي غضون بضعة أشهر فحسب، حدث ما يمكن اعتباره رداً بالمثل على التصرف الإيراني. ففي عام 1980 اقتحم ستة مسلحين ينتمون إلى «حركة تحرير الأحواز» المدعومة من نظام الحكم في العراق آنذاك، مبنى السفارة الإيرانية في لندن واحتجزوا 26 شخصاً أغلبهم من الدبلوماسيين وموظفي السفارة وعدد من الزائرين من أجل الحصول على تأشيرة سفر لإيران. ومن هؤلاء الإعلامي اللبناني مصطفى الكركوتي ورئيس تحرير صحيفة «امباكت» السيد حاشر فاروقي. استمر الحصار ستة أيام بقي الوضع خلالها متوتراً، ولكن بدون حوادث كبيرة. ولكن ما إن بدأ المهاجمون بقتل المحتجزين حتى اتخذت الشرطة البريطانية قرار اقتحام السفارة بعد قتل اثنين من موظفيها الإيرانيين: لواساني، وصمد زادة. ونجم عن الاقتحام قتل جميع المهاجمين ما عدا واحداً، وتم تحرير الرهائن ما عدا أحد موظفي السفارة. وهذه هي المرة الوحيدة التي اقتحمت الشرطة فيها مبنى دبلوماسياً بعد أن استنتجت أن عدم القيام بذلك سيؤدي إلى خسارة أرواح إضافية.

إن قدراً من هذه الحصانة موجود ولا يمكن إنكاره، وهو أمر نصّت عليه المواثيق الدولية واتفاقات جنيف، والتزمت به دول العالم من الناحية النظرية على الأقل. ولكن ما أكثر الخروقات التي حدثت لهذه الدبلوماسية

تواصلت الخروقات للحصانة الدبلوماسية بدون توقف. ففي يونيو 2013 انتشرت أنباء واسعة عن تصنت الاستخبارات الأمريكية على السفارات الأجنبية في واشنطن، بعضها تابع لدول حليفة مثل بعثة الاتحاد الأوروبي وفرنسا وإيطاليا. وحدثت ضجة إعلامية واسعة واحتجاجات من زعماء هذه الدول لدى الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما. وقد اعتذر أوباما من حلفائه وبعد ستة أشهر أصدر أمراً بمنع التنصت على الحلفاء.

ولعل من أشهر الحوادث المرتبطة بالمباني الدبلوماسية ما وقع في 17 أبريل 1984 أمام السفارة الليبية في لندن. كان هناك اعتصام ضد نظام معمر القذافي أمام السفارة بحضور عدد من أفراد الشرطة البريطانية. وفجأة انطلقت رصاصة من إحدى نوافذ مبنى السفارة وقتلت الشرطية ايفون فليتشر فوراً، وجرح 11 من المعتصمين. أثارت تلك الحادثة ضجة دبلوماسية وإعلامية واسعة، ولكن الشرطة البريطانية التزمت القوانين الدولية ولم تقتحم مبنى السفارة. وبدأت أزمة دبلوماسية بين البلدين عندما رفضت ليبيا تسليم الشخص الذي أطلق النار من داخل السفارة، برغم محاصرتها لمدة 11 يوماً. وقطعت العلاقات وأغلقت السفارة.

وكانت تلك الحادثة من بين دوافع بريطانيا للسماح للولايات المتحدة باستخدام القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها لقصف ليبيا في 1986. وحتى اليوم ما يزال البريطانيون يبحثون عن قاتل الشرطية. ولم يؤد سقوط نظام القذافي إلى حل تلك المشكلة.

الحكومة البريطانية التزمت عموماً بالقوانين الدولية التي تنظم الحصانة الدبلوماسية. فمثلاً، لم تقتحم سفارة الأكوادور التي لجأ إليها جوليان أسانج في 19 يونيو 2012، أحد مؤسسي ويكيليكس، إلا بعد أن سحبت حكومة ذلك البلد اللجوء من اسانج، فدخلت الشرطة البريطانية في 12 أبريل الماضي واعتقلته. وطوال سبع سنوات، تحصن اسانج داخل السفارة بعد حصوله على اللجوء السياسي بعد شهرين من طلبه (أغسطس 2012).
أما الاستغلال الخارق لمبدأ الحصانة الدبلوماسية، فقد حدث في الرابع من أكتوبر من العام الماضي عندما استخدمت القنصلية السعودية بأسطنبول لارتكاب واحدة من أبشع الجرائم. في ذلك اليوم ذهب الإعلامي جمال خاشقجي إلى مبنى قنصلية بلاده لإكمال أوراق رسمية تتعلق بزواجه من سيدة تركية كانت معه وانتظرته خارج القنصلية. ولما لم يخرج بعد بضع ساعات أطلقت صفارة الإنذار مع السلطات التركية. وبشكل تدريجي، اتضح للعالم أن جمال خاشقجي قد قتل داخل المبنى الدبلوماسي بطريقة وحشية جداً. السلطات السعودية رفضت في البداية الاعتراف بما فعل فريق القتل الذي استقدم من السعودية لارتكاب الجريمة، وأصرت على أن الضحية قد غادر السفارة من باب خلفي. ولكن الحقيقة ظهرت في النهاية، واكتشف العالم أن الفريق الأمني الذي قاده أحد مستشاري ولي العهد، هو الذي ارتكب الجريمة الفظيعة، وأن السلطات استغلت الحصانة الدبلوماسية لاستقدام الفريق وترحيله خلال يوم واحد ارتكبت الجريمة خلاله. الشرطة التركية التزمت باحترام الحصانة، ولم تقتحم المبنى الذي اختفى فيه خاشقجي الذي قتل في غضون ساعات من دخوله. وقد أثارت هذه الجريمة نقاشاً حاداً حول مبدأ الحصانة الدبلوماسية ومدى حصانة المباني المحمية بموجبها.

ويمكن القول إن المرة الأولى التي اقتحم فيها مبنى دبلوماسي في العاصمة البريطانية بدون موافقة حكومة تلك الدولة، حدثت مساء الجمعة 26 يوليو الماضي في سفارة البحرين بالعاصمة البريطانية. حدث ذلك بعد أن أدركت الشرطة أن جريمة أخرى على غرار ما حدث لخاشقجي كانت وشيكة الوقوع. فما إن سمعت صراخ المواطن البحراني موسى عبد علي محمد من أعلى مبنى السفارة وهو محاط بعناصر أمنية تم التعرف على أغلبهم، حتى اتخذت قرار الاقتحام على وجه السرعة. وفي غضون دقائق جيء بفريق من عمال المطافئ لكسر أبواب السفارة، كما تكشف التسجيلات المتوفرة. وكان الناشط المذكور قد صعد إلى سطح السفارة وأصدر نداءات لرئيس الوزراء البريطاني الجديد، بوريس جونسون، لإنقاذ حياة شابين تعتزم سلطات البحرين إعدامهما في تلك الليلة. وقد أعدم الشابان، أحمد الملالي وعلي العرب، في الساعات الأولى من صباح السبت 27 يوليو. الشرطة التي اقتحمت مبنى سفارة البحرين استطاعت إنقاذ موسى الذي أصيب بجروح عديدة نتيجة الاعتداء عليه بقطع خشبية وركلات بأحذية خاصة وضربات باليد من قبل فريق الاغتيال المكون من أربعة أشخاص، أحدهما الحارس الخاص للسفير. وقد وثق الأطباء والمحامون ما جرى لهذا الناشط في مبنى سفارة بلاده. السلطات البريطانية تتوخى الحذر الشديد حول هذه الحادثة، حرصاً على العلاقات مع التحالف السعودي ـ الإماراتي الذي تعهد بدعم حكومة البحرين منذ تدخله العسكري في منتصف مارس 2011. ولكن ليس مستبعداً أن تتحول القضية إلى أزمة سياسية عندما تستكمل الأوراق القانونية والإعلامية. فبرغم انزعاج المؤسسة البريطانية من تصرف مسؤولي السفارة إلا أنها سعت للتقليل من أهمية ما حدث برغم فداحته. فاقتحام السفارات الأجنبية لا يحدث كل يوم، خصوصاً كسر الأبواب بالقوة بعد توجيه إنذارات صوتية للفريق المذكور الذي كان بعض أفراده يطل بين الفينة والأخرى من السطح. كانت عملية خطيرة، ولكن حضور الشرطة في اللحظات الأخيرة حال دون وقوعها. هذا ما تؤكده التسجيلات التي تم نشر بعضها.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/08/05

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد