آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

ضرورة الدور الإسلامي لتطوير موسم الحج

 

د. سعيد الشهابي

موسم الحج الحالي يقترب من نهايته بحضور اكثر من مليوني انسان جاؤوا من اصقاع الارض، دانيها وقاصيها، استجابة للنداء الالهي «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم». وبرغم رمزيته الجامعة للمسلمين فثمة صراع حول تلك الرمزية وكيفية تفعيلها لتكون ايقونة ليس للوحدة الظاهرية التي تؤكدها مظاهر تلك الشعيرة حيث اللباس الابيض البسيط الذي يرتديه الحجاج جميعا، بل لوحدة الايمان والمشاعر والمواقف والتوجهات. وهذا لا يتحقق الا بتوعية شاملة يشترك فيها الجميع ولا تنحصر بدور سلطات الدولة المهيمنة فحسب. هذه السلطات لا تألو جهدا للاستفادة من الموسم، اقتصاديا وسياسيا. فهي تدعو شخصيات كثيرة من دول العالم الاسلامي لاداء الفريضة على نفقة «خادم الحرمين الشريفين» لمكافأتها على مواقفها المنسجمة مع السياسات السعودية، وتنظم المؤتمرات والندوات خلال الموسم في كل من المدينة المنورة ومكة المكرمة لترويج رؤاها بين الحجاج. وكغيره من المواسم السابقة، أحيط موسم الحج الحالي بلغط غير قليل، سيتواصل في الايام القليلة المقبلة حتى يعود الحجاج الى ديارهم. وهناك ثلاث دوائر للغط الحالي، يجدر التوقف عند كل منها لاستيعاب اهمية هذه الشعيرة الدينية في واقع امة المسلمين التي تتوسع باضطراد.

الاولى: الحديث المتواصل والمثير للغط حول «تسييس» الحج. فمنذ شهور تؤكد السلطات السعودية على ضرورة حصر الموسم بالمظاهر العبادية وتجنيبه الامور الاخرى خصوصا السياسية منها. وهذا التحذير ينطوي على ثلاثة ابعأد: اولها ترسخ القناعة بوجود خلافات بين حكومات الدول الاسلامية، سواء من حيث العلاقات الدبلوماسية في ما بينها او التحالفات بين عدد منها او المواقف والسياسات تجاه القضايا العامة خصوصا الحريات العامة وفلسطين والتدخلات في شؤون بعضها او الحروب القائمة خصوصا حرب اليمن التي تعتبر السعودية الطرف الاول فيها. ثانيها: ان طرح الهموم السياسية سيؤدي لوعي اعمق لدى الحجاج وقد يدفعهم لمواقف وتوجهات لا تتناسب مع رغبات الدولة المضيفة، كما قد يساهم في تعميق حالة الاستقطاب الفكري والسياسي، وهي حالة لا تخدم اهداف الدول الاخرى التي تطمع في استمرار هيمنتها على الدول الاسلامية في ظل الجهل والابتعاد عن الشأن العام، والخوف من ارتدادات الانشغال بالسياسة. ثالثها: تعمق التباين بين حكومات الدول التي يشارك مواطنوها في اداء الفريضة، وهو تباين يشمل فهم الدين واستيعاب رسالته. الامر المؤكد ان دور الدين في الحياة العامة امر ليس متفقا عليه بين المسلمين، على الاقل من الناحية العملية، وان موضوع الاسلام في ابعاده العقيدية والعبادية يختلف عن التدين الذي يدفع اهله للتركيز على دور الدين في الحياة العامة التي تشمل السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية. من هنا حرصت الدولة السعودية منذ عقود على مواجهة اية محاولة للتعاطي مع الحج كمؤتمر اسلامي اممي يتعاطى مع شؤون المسلمين ويعالج قضاياهم ويسعى لتحقيق توافق اسلامي يحقق مقاصد الحج التي من بينها اظهار وحدة الامة في عقائدها ومواقفها وحركتها الدؤوبة نحو الاهداف، خصوصا هدف تحرير فلسطين ووقف الحرب التي يقودها التحالف السعودي ـ الاماراتي على اليمن. ولعل من بين ابرز المفاهيم التي اصبحت موضع خلاف بين حكام المسلمين مفهوم الولاء والبراء الذي تؤكد عليه إيران منذ احتضانها المشروع الاسلامي قبل اربعة عقود، وتؤكده آية مرتبطة بالحج بشكل مباشر: «وأذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الاكبر ان الله بريء من المشركين ورسوله». هذا المفهوم الذي تصر طهران على ترويجه بين الحجاج وترسيخه في نفوسهم، تحول الى سجال سياسي متواصل طوال العقود الاربعة الاخيرة، وما يزال يفرض نفسه كل عام على أجواء الحج، ولعله الموضوع الاهم في مقولة تسييس الحج.

الحج، هذا الموسم العظيم، يحتاج لتضافر المسلمين لتطوير انماط ادائه والحفاظ على اجوائه الروحية من جهة ومدلولاته في حياة الامة. ومن الغريب ان لا يمر موسم الا ويصاحبه لغط واضطراب ذهني او سياسي او امني، الامر الذي يستدعي جدية اكبر خصوصا من الجهات الدينية

الثانية: ان مصاديق التسييس هي الاخرى قضية مختلف بشأنها. ففي الوقت الذي تتهم السعودية فيه اطرافا اخرى بذلك التسييس، فان تلك الاطراف تتهمها بتسييس الحج هي الاخرى. وبذلك يتعمق الخلاف حول المفهوم طالما بقيت مصاديقه متعددة وغير منسجمة. التهمة التي توجهها السعودية لإيران بانها وراء تنظيم مظاهرات عرفت باسم «مسيرة البراءة». وقد نجم عن تلك المسيرات سقوط ضحايا كثيرين بسبب الرفض السعودي المطلق لتنظيمها واستخدامها القوة لتفريقها.

وما تزال الذاكرة تحتفظ بمشاهد القتلى والجرحى الذين سقطوا في مسيرة البراءة في العام 1987 عندما استخدمت قوات الامن السعودية قوة مفرطة ضد مسيرة شارك فيها آلاف الحجاج، وقتلت اكثر من 400 شخص منهم. واستمر تبادل الاتهامات بين طهران والرياض طوال تلك الحقبة، وما يزال الخلاف يدب بينهما حول ذلك.

ولكن تسييس الحج لا يتوقف عند هذا الحد. بل ان هناك من يتهم السلطات السعودية نفسها بتسييس الحج بالتحكم في توجيه مسارات الحج ومريديه. واذا كان الحجاج الإيرانيون قد امتنعوا عن اداء الفريضة في فترتين احتجاجا على السياسات السعودية اكثر من مرة، اولاهما بعد قتل اكثر من 400 من حجاجها في موسم حج 1987 وآخرها في العام 2016 بعد اعدام عالم الدين من المنطقة الشرقية، الشيخ نمر النمر. وقد تكرس الانطباع بتسييس الحج من الجانب السعودي في الاعوام الاخيرة بعد ان استهدفت السعودية دولة قطر وفرضت عليها حصارا سياسيا واقتصاديا لانتهاجها سياسات وعلاقات خارجية لا تعجب الرياض. ووضعت السلطات السعودية كافة العقبات لمنع الحجاج القطريين من اداء الفريضة، وهو امر مستمر حتى الآن.

وقبل اسبوعين (31 تموز/يوليو) رصدت صحيفة «الوطن» القطرية عددا من المعوقات التي تناقض ادعاءات السعودية، بشأن تسهيل إجراءات الحج والعمرة للقطريين. ومن بين هذه المعوقات أن باب العمرة والحجّ عن طريق البرّ ما زال مغلقاً، والتوجه من مدينة الدوحة إلى مدينة جدةّ مباشرة أيضاً غير متاح، بالإضافة إلى إغلاق السفارة والقنصلية السعودية في قطر، ما يحول دون استكمال حملات الحج والعمرة إجراءات التسيير، وكذلك خوف المواطنين القطريين على أنفسهم، من حالة الشحن التي تتم ضدهم، مما يجعل كل مواطن عرضة للتربص أو الاعتقال أو تلفيق التهم له. تسييس الحج اذن ظاهرة تمارسها السعودية وغيرها باساليب مكشوفة، الامر الذي يؤكد ضرورة التعاطي مع الظاهرة بقدر من الجدية والعقل لتحديد الموقف المسؤول ازاءها.

الثالثة: السياسات التي تنتقص من حرمة الحج وقداسته ونقائه. وهذه سياسة ثابتة تواصلت في العقود الاخيرة بخطى حثيثة. فبعد بناء الابراج التجارية والسكنية الشاهقة في العشرين عاما الاخيرة، تم تشييد «برج الساعة» ليضيف تغييرا آخر على سماء مكة التي يفترض ان تكون اكثر ارتباطا بتاريخ المدينة وهويتها الدينية. فالكعبة التي يتوجه اليها اكثر من مليار وسبع مائة مليون انسان عند اداء الصلاة، اصبحت محاطة بابراج شاهقة حتى اطلق البعض على ام القرى اسم «لاس فيغاس» بعد ان شيدت مبانيها الجديدة على طراز مدينة القمار الأمريكية. وقد كتبت مقالات عديدة حول هذه الظاهرة المقززة. واذا اضيف لذلك طمس الهوية التاريخية لمكة المقدسة بتدمير اكثر من 90 بالمائة من تراثها الاسلامي اتضح عمق السياسات الهادفة للقضاء على قداسة مدينة رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام. ولم يتوقف الامر هنا. ففي يوم الثلاثاء 11 يونيو الماضي الثلاثاء اعلنت وسائل الاعلام السعودية عن قرب افتتاح «ملهى ليلي» في مدينة جدة، التي تبعد عن مكة المكرمة، التي تضم الكعبة المقدسة، 79 كيلومترا غرباً. وسيحتوي الملهى على حلبة رقص، لكنه لن يقدم الخمور، ويسمح لكلا الجنسين بالدخول إليه على أن تزيد الأعمار على 18 عاماً. وعم السخط على مواقع التواصل الاجتماعي السعودية من خلال تغريدات أكد أصحابُها رفضهم لمثل هذه المشاريع. وبرز وسم «ديسكو ـ في ـ جدة» على منصة «تويتر»، حيث عبَّر سعوديون عن سخطهم مما يجري من انفتاح غير معهود على المجتمع، بدأ يطرأ سريعاً بدعم من ولي العهد محمد بن سلمان. ان ظاهرة الاستخفاف بقداسة الاماكن المقدسة الاسلامية تستحق التوقف والدراسة لأنها تعبير عن هجمة جديدة ليس على الاسلام السياسي او الجهادي فحسب، بل على الدين نفسه. وثمة موجة سخط عمت العراق مؤخرا بعد اقامة حفلة على اطراف مدينة كربلاء تخللها الرقص والموسيقى. ففي مراسم افتتاح بطولة اتحاد غرب آسيا لكرة القدم في الاسبوع الاول من هذا الشهر، وهي مسابقة لدول عربية يستضيفها العراق، عزفت لبنانية لم تكن ترتدي الحجاب ولم تكن تغطي ذراعيها النشيد الوطني العراقي على آلة الكمان. وعمت اجواء من النقد والسخط لتلك الحفلة التي اعتبرها الآخرون «استفزازية ومقززة». بغض النظر عن الالتزام الديني او التحرر منه، فان ابجديات الكياسة البشرية تقتضي مراعاة مشاعر الآخرين وعدم المساس بمقدساتهم. فالمساس بهذه القداسة يعرض الاماكن الاخرى، ومنها المسجد الاقصى للخطر نفسه، بل قد يقدم المحتلون على هدمه بعد ان تتلاشى اهميته في نفوس المسلمين.

الحج، هذا الموسم العظيم، يحتاج لتضافر المسلمين لتطوير انماط ادائه والحفاظ على اجوائه الروحية من جهة ومدلولاته في حياة الامة من جهة اخرى.

ومن الغريب ان لا يمر موسم الا ويصاحبه لغط واضطراب ذهني او سياسي او امني، الامر الذي يستدعي جدية اكبر خصوصا من الجهات الدينية مثل الازهر ومنظمة التعاون الاسلامي ومؤسسات الفقه والافتاء في بلدان المسلمين كافة. فالمشاركة الاسلامية لا تعني المساس بالسيادة السعودية على اراضي المملكة، لأن الحج يخص كافة المسلمين وإنجاحه يتطلب دورا ملموسا منهم.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/08/12

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد