آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الباري عطوان
عن الكاتب :
كاتب وصحفي سياسي فلسطيني رئيس تحرير صحيفة رأي اليوم

الأوروبيّون يَعدّون مِصيدةً خطيرةً للإيقاع بإيران بالطّريقة نفسها التي أوقعوا فيها العِراق والفِلسطينيين..

 

عبد الباري عطوان


تبذُل الحُكومات الأوروبيّة جهودًا كبيرةً هذه الأيّام لترتيب مُفاوضات بين إيران وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أجل تخفيف حدّة التصعيد في الأزمة بين الجانبين، ويبدو أنّ الجولة الأوروبيّة التي قام بها السيّد محمد جواد ظريف في عدّة عواصم أوروبيّة آخِرها باريس، هيّأت الأجواء في هذا المِضمار، بالنّظر إلى مؤشّرات “المُرونة” التي صدرت عنه ومُعلّمه الرئيس حسن روحاني.

التركيز ينصب حاليًّا على عقد لقاء قمّة بين القادة الأوروبيين والرئيس الإيراني حسن روحاني أواخر الشهر المُقبل على هامِش اجتماعات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في نيويورك، ربّما تُمهّد للقاء المُنتظر بين الرئيسين الأمريكي والإيراني.
لا يُمكن أن تقوم أوروبا بمِثل هذه الجُهود بدون ضوء أخضر أمريكي، ومن الرئيس دونالد ترامب شخصيًّا، ليس من أجل خدمة المصالح الإيرانيّة، وإنّما الأمريكيّة بالدرجة الأولى، وقد علّمتنا تجارب المِئة عام الأخيرة بأنّ الأوروبيين هم الوجه الآخر لأمريكا، ولا يُمكن مُطلقًا الفصل بين الجانبين، وجميع الحُروب الأمريكيّة في العالم الإسلامي كانت أوروبا ليست داعمة لها، وإنّما مُشاركة بفاعليّةٍ فيها، ولم يَطرأ أيّ تغيير يُوحي بعكس هذه الحقيقة.

***

إذا أخذنا الأزمة بين العِراق وأمريكا كمثال، فإنّ الدور الأوروبي كان دائمًا ينتهج أُسلوبًا تضليليًّا للقِيادة العِراقيّة، وتمهيدًا للحل العسكري في العِراق، ولا يجب التّغافل إلى حقيقةٍ أساسيّةٍ وهي إقناع هذه القِيادة بالقُبول بالحُلول الدبلوماسيّة والسّماح بالمُفتّشين الدوليين وتدمير أسلحة الدمار الشامل لديها، كمُقدّمة لرفع الحِصار وعودة البِلاد إلى المُجتمع الدولي، وبعد أن تم تحقيق هذا الهدف، وتخلّت الدول الأوروبيّة عن كُل وعودها وانضمّت بحماس إلى التحالف الأمريكي الثلاثيني لغزو العِراق واحتلاله، وتغيير النظام فيه، وتفكيك مفاصل الدول العِراقيّة ومُؤسّساتها، والاستيلاء على ثرواتها النفطيّة، وتفتيتها على أُسسٍ طائفيّةٍ.

نُضيف مثَلًا آخر لا يقِل أهميّة، وهو العودة إلى الدور الأوروبي النّشط الذي أقنع الفِلسطينيين بالتخلّي عن الكِفاح المُسلّح، والجُنوح للسّلم، والاعتراف بإسرائيل، والانخراط في مُفاوضاتٍ مُباشرةٍ معها، وصولًا إلى الدولة الفِلسطينيّة المُستقلّة على 20 بالمِئة فقط من أرض فِلسطين التاريخيّة، وعندما انطلت الخديعة على قيادة منظمة التحرير، وصدّقت الكلام الأوروبي المعسول، ووقّعت اتّفاق أوسلو، ها هي وبعد 25 عامًا من المُفاوضات تخسر ما تبقّى من الضفّة الغربيّة التي التَهمتها المُستوطنات، وتتحوّل قوّاتها الأمنيّة إلى أدوات لحماية الاحتلال ومُستوطنيه منع أيّ انتفاضة، أو أيّ مُقاومة في سابقةٍ تاريخيّةٍ مُذلّةٍ ومُهينةٍ.

القِيادة الإيرانيّة، والجناح “المُعتدل” أو “الإصلاحي” فيها خاصّةً، يقِف على أعتاب مِصيدة أوروبيّة مُماثلة، وتُوحي تصريحات الرئيس حسن روحاني التي أدلى بها قبل بضعة أيّام وأعرب فيها عن استعداده للتفاوض مع الإدارة الأمريكيّة في حال تم رفع العُقوبات بأنّ هذا الجناح الإصلاحي يقترب من الوقوع فيها، فبمجرّد أن يجلس على مائدة المُفاوضات مع الرئيس ترامب، حتى لو حصل على ضمانات برفع العُقوبات، سيخسر كُل أوراقه، لأنّ “صورة” هذا اللّقاء هي التي يسعى إليها ترامب بمُساعدة حُلفائه الأوروبيين، ولن يتم الالتزام بأيّ اتّفاقات، وإن تم، فالفترة محدودة سُرعان ما يتم انتهاكها.

كُل الأحاديث عن وجود تباين في وجهات النظر الأمريكيّة والأوروبيّة حول الانسحاب الأمريكي من الاتّفاق النوي الإيراني مُبالغٌ فيها، ونشُك بأنّها تتمتّع بأيّ مصداقيّة، ولا نستبعِد أن تكون مجرّد حقن تحذيريّة لإيران لمنع انسحابها من هذا الاتّفاق، والعودة إلى مرحلة ما قبله، أيّ التخصيب بمُعدّلاتٍ عالية.

ترامب يستجدي الإيرانيين للعودة إلى مائدة المُفاوضات في إطار سياسة المُراوغة التي يُجيدها الغرب في تعاطيه مع دول العالم الثالث، و”الشرق أوسطيّة” منها على وجه الخُصوص، لن يرفع العُقوبات إلا إذا حصَل على استسلامٍ إيرانيٍّ كاملٍ لشُروطه، وتدمير الترسانة الصاروخيّة الإيرانيّة التي تُشكّل العمود الفقري في سياسة الدفاع عن النّفس الإيرانيّة، ونلحظ هُنا تطابقًا مُتكاملًا بين الملفّين الإيراني والكوري الشمالي وتعاطي الإدارة الأمريكيّة معهما، ونتمنّى أن يستفيد السيّد روحاني من تجربة نظيره كيم جونغ أون، مع تسليمنا مع عدم التّطابق الكامل للنّموذجين.

السيّد علي خامنئي، المُرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة كان مُصيبًا عندما شكّك في النّوايا الأمريكيّة في الالتزام بأيّ اتّفاق نووي، ولكنّه أراد أن يُعطي الجناح الإصلاحي الذي يتزعّمه السيّد روحاني الفُرصة، وها هي النتائج تُؤكّد أن شُكوكه كانت في محلّها، وأنّه لا يُمكن الثّقة بالأمريكان ونواياهم مرّةً أُخرى ومهما كان كلام الأُوروبيين معسَولًا.

المُؤمن لا يُلدغ من الجُحر نفسه مرّتين، والعودة إلى المُفاوضات بوساطة أوروبيّة، ودون اعتراف ترامب علنًا بارتكاب خطيئة الانسحاب من الاتّفاق، وفشله في تركيع الشعب الإيراني وقيادته، وتغيير النظام بالتّالي، يعني الوقوع بالمِصيدة التي أعدّت لإيران بإحكامٍ، فهو الذي انسحب وعليه أن يعود دون شُروط، ولا يُمكن التّفاوض مع الإرهابي قبل تخلّيه عن الإرهاب، وإرهاب ترامب اقتصادي وعسكري لا يحتاج إلى إثباتٍ.

مجرّد الجُلوس على مائدة المُفاوضات ستبدأ المطالب والشّروط الأمريكيّة التعجيزيّة تتناسل وتتناسخ، والانسحاب الإيراني منها احتجاجًا لن تكون له أيّ قيمة، لأنّ الهدف الأمريكي الأوروبي هو الجُلوس على المائدة وليس التوصّل إلى نتائج، وحتى لو تم تقديم بعض التنازلات للوفد الإيراني المُفاوض، فإنّها ستكون شكليّة، ولن يتم الالتزام بأيّ ضمانات لتطبيقها، والتّجربتان العِراقية والفِلسطينيّة اللّتان ذكرناهما سابقًا، وبل والإيرانيّة نفسها، هي العِبرة والدّليل.

***

لسنا من دُعاة الحرب، ولا نسعى لمُواجهةٍ أمريكيّةٍ إيرانيّة، ولكن نرى أنّه من واجنبا قرع الجرس، والتّحذير من خديعةٍ جديدةٍ قد تُؤدّي إلى تدمير إيران بقُوّةِ المُفاوضات النّاعمة، وخلع أنيابها ومخالبها العسكريّة، تمامًا مثلما حدث للجارِ العِراقيّ.

ما يُطمئِنُنا هو التّحذيرات التي صدرت عن السيّد خامئني، ونشرتها أمس مجلة “خط حزب الله” الأسبوعيّة التي تَصدُر عن مكتبه، وحذّر فيها بشكلٍ مُباشرٍ من أيّ مُفاوضات مع أمريكا، وإعادة التّأكيد بأنّ الإدارة الأمريكيّة التي انسَحبت من الاتّفاق النووي لا يُمكن الوثوق بها، ونصيحتنا للسيّد روحاني أن يستمع لسيّده، ويتّعظ من النتائج الكارثيّة بدفعه نحو الاتّفاق النووي.

وما يُطمئِنُنا أكثر التهديدات التي وردت على لسان السيّد أمير علي حاجي زادة، قائد القوّات الجويّة في الحرس الثوري، وأكّد فيها استهداف البوارج والقواعد الأمريكيّة في قطر والإمارات وخليج عُمان بمُجرّد سُقوط أوّل صاروخ أو قنبلة أمريكيّة على إيران، وحذّر من أنّ إسقاط الطائرة الأمريكيّة المُسيّرة هو الذي أبعَدَ شبَح الحرب عن إيران.

أن تذهب إيران لمائدة المُفاوضات ويجلِس روحاني مع ترامب الذي افتَعل هذه الأزمة، يعني أنّها تنازلت وصرَخت أوّلًا في معركة عضِّ الأصابع وأعطت الرئيس ترامب صكًّا مفتوحًا للفوز في الانتخابات الرئاسيّة المُقبلة.. اللهُمَّ قد بلّغنا.. اللهُمَّ فاشهَد.

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2019/08/30