آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
وليد شرارة
عن الكاتب :
باحث في شؤون العلاقات الدولية وأستاذ العلاقات الدولية

هذه المرّة لن تكون كسابقاتها

 

وليد شرارة

للمرة الثالثة على التوالي، يعلن الرئيس الأميركي انسحاباً لقواته من سوريا. ما جرى البارحة شبيه إلى درجة كبيرة بما تمّ في كانون الثاني/ ديسمبر 2018: بعد محادثة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، أعلن دونالد ترامب خروج الجيش الأميركي من الشمال السوري. لكن الفارق الكبير هو أن القرار بدأ تنفيذه مباشرة على الأرض، فاختفت هذا الصباح قاعدة تل أبيض ومواقع مراقبة أميركية عديدة، ما يؤكد أننا أمام توجّه حاسم لا رجعة عنه. ما يعزّز هذا التقدير أيضاً هو لهجة الرئيس الأميركي الحادّة في تغريداته بعد الإعلان عن قراره: «لقد آن الأوان لكي نخرج من هذه الحروب السخيفة التي لا تنتهي والكثير منها قبلية...على تركيا وأوروبا وسوريا وإيران والعراق وروسيا والأكراد الآن حلّ الوضع».

برزت مجدداً أصوات معترضة على قراره، بينها صوت السيناتور الجمهوري المقرّب منه ليندسي غراهام الذي دعاه إلى العودة عنه، معتبراً أنه سيؤدي إلى كارثة، وملوّحاً بتقديم مشروع قرار لمجلس الشيوخ يطالب بالعودة عنه، لكن المرجّح اليوم هو فشل القوى المعترضة في ثني الرئيس عن فعل ما يراه مناسباً. ميزان القوى تغيّر كثيراً داخل الإدارة بعد رحيل جيمس ماتيس وبريت ماك غورك وجون بولتون وتقاعد الجنرال جوزف فوتيل، الذين شكّلوا، على الرغم من خلفياتهم ومواقفهم المتناقضة في العديد من الأحيان، النواة الصلبة والمؤثّرة لهذه القوى المعترضة. ترامب، في الظرف الحالي، طليق اليدين إلى درجة كبيرة، ومن الصعب أن تنجح ضغوط اللوبي الإسرائيلي في حمله على التراجع عن قراره، على الرغم من تداعياته الخطيرة على مآلات الصراع في الإقليم، خاصة بالنسبة لإسرائيل. أما الحركة الكردية، فهي باتت مضطّرة، بعد خيانة الحليف الأميركي لها، لأن تختار بين مواجهة عسكرية دامية ومدمّرة وبلا أفق مع تركيا، أو التسليم للدولة السورية وحلفائها، للخروج بأقلّ الخسائر الممكنة من مأزقها الوجودي الحالي.

ترامب طليق اليدين

منذ وصوله إلى السلطة، لم يكن دونالد ترامب مقتنعاً بجدوى بقاء قوات أميركية في سوريا بعد إنجاز مَهمتها، أي «القضاء على داعش». عندما أعلن للمرة الأولى في آذار/ مارس 2018 عزمه على سحب جنوده من هذا البلد، تقاطعت أطراف كثيرة، من داخل الإدارة وخارجها، لإقناعه بعدم القيام بذلك. ركزت تلك الأطراف على ثلاث حجج أساسية: ضرورة بقاء القوات الأميركية إلى جانب «قسد» للتصدي للنفوذ الإيراني ومنعه من الاتساع؛ توظيف تواجد هذه القوات أيضاً كرافعة للتأثير في أيّ حلّ للأزمة السورية؛ وأهمية حفاظ الولايات المتحدة على سمعتها عبر عدم التخلي عن حلفاء (والمقصود «قسد») قاتلوا إلى جانبها ضد الإرهاب، والسعي لضمان أمنهم وتحقيق الحدّ الأدنى من مطالبهم قبل التفكير بالانسحاب. خلفيات الجهات التي تذرّعت بهذه الحجج متباينة. بعضها كانت دوافعها الرئيسة تطمين الحلفاء، وفي مقدّمها إسرائيل، إلى أن الولايات المتحدة ليست بصدد التخلي عنها، وترك الشرق الأوسط «لقمة سائغة للنزعة التوسّعية الإيرانية». أما الجهات الأخرى كجوزيف فوتيل، قائد هيئة الأركان الأميركية بين آذار 2016 وآذار 2019، والذي ترأّس قبلها قيادة العمليات الخاصة المشتركة للجيش الأميركي، ينظر (إضافة إلى عدائه لإيران) إلى «قسد» باعتبارها صنيعته إلى حدّ كبير. فهو الذي أشرف على تنظيمها وتدريبها وتسليحها، فيما خاضت هي معارك عديدة بإشرافه عملياً. تفصيل آخر جدير بالاهتمام، وهو اتهام الرئيس التركي، في خطاب ألقاه في 29 تموز/ يوليو 2016، فوتيل، بالتورّط في المحاولة الانقلابية التي وقعت في تركيا. وقد ردّ الجنرال الأميركي متهماً بدوره الحكومة التركية باعتقال العناصر الأطلسية الميول في الجيش التركي. التعاطف نفسه مع «قسد» كان موجوداً لدى المبعوث الأميركي الخاص للحرب على «داعش»، بريت ماك غورك. 

بالإضافة إلى الضغط الداخلي، تعرّض الرئيس الأميركي لضغوط خارجية من قِبَل إسرائيل والسعودية وفرنسا وبريطانيا لعدم إخراج قواته من سوريا. استقال وزير الدفاع الأميركي جايمس ماتيس، في كانون الأول/ ديسمبر 2018 احتجاجاً على إعلان الانسحاب الثاني لترامب، وتبعه ماك غورك، وأقيل جون بولتون من منصبه كمستشار للأمن القومي خلال الشهر الماضي. لم يتمكن هؤلاء، على رغم اختلاف مواقعهم وخلفياتهم ودوافعهم حيال الملف السوري، من إثبات صحة رؤيتهم في الميدان. لم يَحُل وجود القوات الأميركية في سوريا دون تعزيز دور إيران وحلفائها فيها، ولم يصلح هذا الوجود كرافعة من أيّ نوع لفرض شروط أميركية بالنسبة إلى الحل السياسي في سوريا.

أما في ما يتعلق بمصداقية الولايات المتحدة حيال الحلفاء، فإن ترامب، الذي لا يُقيم وزناً أصلاً لفكرة التحالف مع أيّ كان، بمن فيه مع الشركاء التاريخيين للولايات المتحدة في «حلف الأطلسي»، لن يأبه لمصير حلفاء ظرفيين كـ«قسد». لقد خانت واشنطن حلفاءها الأكراد، وهو أمر ليس بجديد، ولن تغير هذه الحقيقة الإعلانات المتكرّرة الصادرة عن وزارتَي الدفاع والخارجية الأميركيتين عن عدم تأييد بلادهم للعملية العسكرية التركية. بقية حلفائها في المنطقة، وفي طليعتهم إسرائيل، قلقون جداً مما يؤشر عليه هذا الانسحاب، لأنهم يعتبرون أنه مقدمة للانسحاب الكامل من سوريا، ما سيتيح للدولة السورية وحلفائها ملء الجزء الأغلب من الفراغ الذي سيخلّفه. بكلام آخر، محور المقاومة سيكون المستفيد الأول من التطوّر الأخير.

الدولة السورية أو الاندحار الكامل
الحركة الكردية تقف على مفترق طرق مصيري. الخيار الأول هو المواجهة العسكرية مع تركيا وحلفائها في مدن الشمال السوري. هذه الأخيرة أصبحت معاقل للحركة كمنبج والقامشلي وعامودة والمالكية وغيرها، وهي ستسعى للصمود فيها في محاولة يائسة للحفاظ على إنجازات المرحلة السابقة التي تحقّقت في ظروف استثنائية ما كان يمكن أن تستمر. فقد أدى تضافر مجموعة من العوامل البنيوية والظرفية، المحلية والإقليمية والدولية، إلى تقاطعات مؤقتة في المصالح بين الحركة الكردية وقوى وازنة دولية وإقليمية. قيادة هذه الحركة اعتقدت أن من الممكن التأسيس لعلاقة تحالف طويلة الأمد مع الولايات المتحدة على قاعدة القيام بدور وظيفي خدمة لاستراتيجيتها في المنطقة، المُوجَّهة أولاً ضدّ إيران. لكن هذه القيادة تجاهلت حقيقة تراجع القوة الأميركية، وبروز أولويات استراتيجية جديدة بالنسبة إليها، وحرصها - على رغم الخلافات الفعلية بينها وبين تركيا - على عدم الذهاب إلى حدّ القطيعة الكاملة معها، ودفعها للمزيد من التعاون مع الصين وروسيا. خيار الخروج بالحدّ الأدنى من الخسائر يفترض القبول بالعودة غير المشروطة للدولة السورية، والاعتماد عليها وعلى حلفائها لإيجاد مخرج من المأزق الذي أوصلتها إليه رهاناتها على التحالف مع الولايات المتحدة ضدّ دول الإقليم الرئيسة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2019/10/08

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد