آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

ألغام المراجعة الدورية لحقوق الإنسان المصرية

 

د.سعيد الشهابي

برغم تراجع الدور الدولي لمنظومة حقوق الإنسان إلا أنها ما تزال تستحوذ على اهتمامات الكثير من النشطاء المعارضين لحكوماتهم في العالم العربي. وما يزال بعض هؤلاء يعتقد بأهمية المنظومة ودورها في التأثير على الأنظمة السياسية التي تنتهك حقوق مواطنيها. ولذلك كثيرا ما يلبس السياسي المعارض ثوبا حقوقيا ليمارس نشاطه في المحافل الدولية كـ «ناشط حقوقي». وحتى وسائل الإعلام العربية تصر على الصاق هذا الصفة بالنشطاء التي تجري لقاءات معهم، على اساس ان النشاط الحقوقي لا يمثل صفة سياسية فاقعة، ولا يسبب إحراجا لتلك الجهة الاعلامية. وبالغ البعض في دور هذه المنظومة حتى اصبح يرفض العمل العلني مع «السياسيين» على اساس ان «المؤسسات الغربية ترفض الخلط بين النشاطين، السياسي والحقوقي». غير أن هذه التفصيلات تقفز على حقيقة الثقل الذي تمثله المنظومة على الصعيد الدولي، وما اذا كانت تحظى باهتمام ذي شأن لدى دوائر القرار في الدول القادرة على التأثير. ومنذ تأسيس مجلس حقوق الانسان في العام 2005 طرأت تغيرات عديدة على المنظومة الحقوقية الدولية أدت لتراجعها تدريجيا وتم تحييدها من قبل الدول الغربية التي تخشى على مصالحها مع الأنظمة التي تنتهك هذه الحقوق. وثمة اجراء تم تفعيله في الخمسة عشر عاما الماضية لفحص مدى احترام الدول للمنظومة يسمى «الاستعراض الدوري الشامل». انها آلية فريدة تتضمن استعراض سجلات حقوق الإنسان لدى جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مرة كل خمس سنوات، وتهدف هذه الآلية، نظريا، إلى تحسين حالة حقوق الإنسان على أرض الواقع فيها.
في الاسبوع الماضي بدأ مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة في جنيف مراجعة سجل مصر لأول مرة منذ خمس سنوات في إطار مراجعة دورية لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وبإمكان المجلس إصدار توصيات لكنه يفتقر لآليات لمعاقبة أي دولة يثبت انتهاكها لحقوق الإنسان. وقد ردت مصر قبل يومين على تلك التوصيات مبررة أن ممارساتها تهدف لـ «مواجهة الإرهاب». لكن الملفت للنظر هذه المرة تصدر الولايات المتحدة ودول غربية أخرى المشهد الحقوقي. فقد حثت هذه الدول مصر على التحقيق في حالات قتل وتعذيب على أيدي قوات الأمن وعلى إطلاق سراح صحافيين وغيرهم اعتقلتهم السلطات بسبب ممارستهم حقهم في التعبير عن الرأي. الاهتمام الامريكي أثار الاهتمام نظرا لموقف واشنطن السلبي ازاء المجلس. فقد انسحبت الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان في عام 2018 ولا تحضر سوى المراجعات الدورية لسجلات الدول الأعضاء. ومن الصعب المواءمة بين انسحاب امريكا من المجلس وحماسها لحضور بعض جلساته والمشاركة في بعض اجراءاته. فالانسحاب يعني رفض امريكا عمل مجلس حقوق الانسان ويؤكد عدم اكتراثها بالمنظومة الحقوقية القائمة بتوافق دولي على مدى سبعين عاما، اي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

يضاف الى ذلك الانسحاب تغير العقيدة الامريكية ازاء منظومتين كانت من عناوين الصراع الدولي خلال الحرب الباردة: ترويج الديمقراطية كمصداق لتوسع النفوذ الغربي والدفاع عن حقوق الانسان في العالم. الغربيون يعلمون ان هذه الحقوق لا يمكن صونها في ظل انظمة استبدادية قمعية، فلا بد من تحقيق اصلاحات سياسية حقيقية لكي يكون انتهاك تلك الحقوق صعبا. لقد استخدمت هاتان المنظومتان سلاحا فاعلا على مدى ما يقرب من نصف قرن. ولكن ما ان تفكك الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات حتى تراجع الغربيون عنهما تماما، فاختفتا من الأجندة الدولية. وكان هناك امل باعادة انعاشهما خصوصا بعد اندلاع ظاهرة التطرف والإرهاب، ولكن العكس هو الذي حدث. بل ان الدول التي تحمست لهما خلال الحرب البادرة اصبحت تتنكر لهما تماما. فلم تعد تطرح في المداولات الدولية او الاتفاقات والمعاهدات، ولا في وسائل الإعلام الغربية نظرا لكونها جزءا من النظام السياسي الحاكم في تلك الدول.

المنظومة الحقوقية ساهمت في بلورة وعي نخبوي وجماهيري بأهميتها، واحدثت قفزة في الوعي العام لدى الشعوب المناضلة، وساهمت في البداية باحراج انظمة الاستبداد والديكتاتورية التي تنتهك الحقوق كسياسة ثابتة

ماذا يعني ذلك؟ الامر الاول ان المنظومة الحقوقية ساهمت في بلورة وعي نخبوي وجماهيري بأهميتها، واحدثت قفزة في الوعي العام لدى الشعوب المناضلة، وساهمت في البداية باحراج انظمة الاستبداد والديكتاتورية التي تنتهك الحقوق كسياسة ثابتة. الثاني ان هذا الاهتمام كان عاملا لظهور مجموعات حقوقية في الدول العربية عملت على مدى العقود الخمسة الاخيرة وسعت لتحسين اوضاع مواطني تلك الدول. فأنشئت منظمات عديدة، اقليمية ومحلية لتسهيل مهمة التواصل مع الجهات الدولية المعنية بتلك الحقوق.

ثالثا: انها ساهمت في احداث نقلة نوعية في الوعي السياسي لدى الشارع العربي، فهذه الحقوق «مقدسة» وهي اداة لممارسة الضغط على الانظمة التي تنتهكها. رابعا: ان العقدين الاخيرين تحولا الى مقبرة لحقوق الإنسان في العالم العربي، بعد أن اتضح عدم جدية السلطات في احترام تلك الحقوق من جهة بالإضافة للبديهية السياسية التي تصر على استحالة المواءمة بين احترام حقوق المواطنين وتمدد سلطة الانظمة القمعية خصوصا مع تطوير اساليب الاداء في هذا المضمار. خامسا: ان المنظومة لم تروج بشكل فاعل على الصعيد العملي، فتحولت تدريجيا الى شعارات سياسية تستغلها الحكومات نفسها والمنظمات التي تعمل دفاعا عنها. وفي النهاية تضاعفت آلام المعتقلين السياسيين بتراجع الاهتمام الدولي بالمنظومة الحقوقية.

هذه الحقائق تؤدي للاستنتاجات التالية:
اولها ان مصر، الدولة العربية الكبرى، بسياساتها الحالية تعرض نفسها للنقد المتواصل حتى من حلفائها الذين لا يهتمون عادة بحقوق الانسان.
ثانيها: ان سياسات القمع والاضطهاد التي تمارسها حكومتها التي يديرها الجنرالات تجعلها عرضة للابتزاز من اولئك «الاصدقاء»، الامر الذي يقلل شأنها وقيمتها السياسية.
ثالثها: ان إضعاف مصر انما هو إضعاف للامة العربية التي تقلص شأنها في السنوات الاخيرة عندما ابعدت دولها الكبرى عن الصدارة ومنها العراق وسوريا واليمن والجزائر بالإضافة لمصر. هذه الحقيقة جعلت العالم العربي المترامي الاطراف تحت تصرف الدول الصغرى كالإمارات التي تتدخل في العراق وسوريا واليمن والسودان ومصر وليبيا، فما الذي حدث لهذه الأمة؟ والى أين ستتوجه سفينتها بعد تمزق اشرعتها الكبيرة؟ رابعها: ان الاضطهاد الذي استخدمه حكام مصر ضد مناوئيهم بعد انقلاب العسكريين على الحكومة المنتخبة لم يتوقف. فما ان خرجت الشهر الماضي احتجاجات ضد النظام حتى تصدى العسكر للمحتجين بالقتل والسجن والتعذيب. وقد تجاوز عدد الذين اعتقلوا نتيجة ذلك 4000 من المواطنين. هذا يعني ان الاضطهاد انما يؤدي للمزيد من الاحتقان الذي ينفجر في شكل احتجاجات قد تصل الى الثورة الشاملة على النظام بهدف اسقاطه. خامسها: ان المراجعة الدورية لملف حقوق الانسان ستكشف المزيد من القمع والتعذيب، كما ستظهر استحالة اصلاح الاوضاع في ظل نظام انقلب على الشرعية الشعبية واصبح اكثر اعتمادا على القوة المفرطة والدعم الخارجي بدلا من ضمان الدعم الشعبي والسند الدستوري.
لقد تغولت ظاهرة الاضطهاد الرسمي للشعوب العربية التي ثارت ضد حكامها. وحيث ان سجل مصر في المجال الحقوقي والسياسة الداخلية هو الاسوأ، فكيف سيصلح حال الأمة؟ الأمر المؤكد ان المراجعة الدورية لسجل مصر في السنوات الخمس الاخيرة لن تختلف كثيرا عن سجلها السابق الذي كشفته المراجعة الدورية السابقة في العام 2012.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/11/18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد