آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

العدالة الغائبة عن محاكمة قتلة خاشقجي

 

د. سعيد الشهابي

القضاء من أهم مرتكزات الحكم العادل، لذلك يقتضي الأمر أن يكون مستقلا وليس اداة لنظام الحكم في اي بلد. كما يفترض أن يكون في متناول المواطنين العاديين وليس محصورا بمن يملك المال. فليس مقبولا أن يكون القضاء متوفرا من الناحية القانونية والنظرية بينما يتعذر على المواطن العادي الوصول اليه عند الحاجة بسبب تكاليفه الباهظة. وثمة توافق على أن أنظمة الاستبداد لا توفر أنظمة قضائية مستقلة تنظر في قضايا المواطنين اذا كانت ذات صبغة سياسية.
وقد وفرت جريمة قتل جمال خاشقجي وتداعياتها وقرارات الادعاء العام مؤخرا بإعدام خمسة من «قتلة» خاشقجي فرصة لتسليط الضوء على القضاء ودوره في المشروع السياسي الذي تطرحه المعارضات العربية من الشرق الى الغرب. وبرغم الحديث المستمر عن ضرورة فصل السلطات الثلاث الاساسية التي تعتبر من مستلزمات انظمة الحكم الحديث، فان هذا الفصل كثيرا ما يكون مشوشا ومتداخلا. وحتى لو حدث هذا الفصل فان هناك سلطات اخرى ذات تأثير مباشر على الحريات العامة لا تخضع للخيار الشعبي، خصوصا أجهزة الأمن والدفاع والإعلام، هذه السلطات تخضع نظريا للسلطة التنفيذية (الحكومة) التي تختلف أساليب تشكيلها، ولكنها في بعض الدول الديمقراطية تتفوق في صلاحياتها على بقية السلطات. مع ذلك يبقى القضاء في الدول الحرة (الديمقراطية) محورا جوهريا للحفاظ على توازن تلك القوى جميعا. هذا القضاء بشكل عام اكثر التزاما بالحياد ولا يخضع عادة للضغوط السياسية المباشرة، او الفساد. فما اكثر الساسة الغربيين الذين تشترى خدماتهم بالمال من قبل القوى الاجنبية. وتكشف «سجلات مصالح الأعضاء» في البرلمان البريطاني أن العشرات منهم يستلمون أموالا وهدايا من حكومات السعودية والإمارات والبحرين، ويقومون بزيارات مدفوعة التكاليف لهم ولزوجاتهم الى هذه الدول لقضاء اجازات في افخم الفنادق. وفي مقابل ذلك يدافع هؤلاء عن مصالح تلك الدول ويتصدون لمعارضيها بشراسة ويضغطون على الحكومة البريطانية لمضايقتهم، ويحرضون السلطات الامنية عليهم. ولدى هذه القوى استثمارات كبيرة في وسائل الإعلام الغربية، فتنفق المليارات من قبل الانظمة الفاسدة للتأثير على الرأي العام وعلى السياسيين لضمان مواقفهم ومنع اتخاذهم سياسات لا تتوافق مع مصالح تلك الدول. ومن ذلك استغلال الإعلام لاستهداف زعيم حزب العمال في الانتخابات البريطانية الاخيرة بالنقد اللاذع من قبل وسائل الإعلام الممولة من دول اجنبية ومن سياسيين ايضا، الامر ساهم في النتائج الانتخابية التي لم تكن متوقعة بالمستوى الذي حدث. هنا لم يكن للقضاء دور في احتواء ظاهرة استغلال النفوذ المالي والسياسي لتوجيه الرأي العام، خصوصا أن هذا القضاء مكلف جدا ولا يستطيع الإنسان العادي الوصول اليه، بالإضافة للبيروقراطية التي تجعل عمله بطيئا ومتعبا للأشخاص الذين يشعرون بالظلامة. ومن هؤلاء معارضون سياسيون خليجيون استهدفوا إعلاميا وأمنيا بلا هوادة ولكنهم لا يملكون الامكانات المادية التي تمكنهم من اللجوء الى القضاء للدفاع عن انفسهم. وهذا يجعل القضاء، برغم استقلاله، بعيدا عن متناول المظلومين غير القادرين على الوصول اليه للدفاع عن انفسهم.

 قضية خاشقجي كشفت مشاكل بنيوية لدى النظام السياسي العربي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص. فكانت تعبيرا بليغا عن غياب المنظومة السياسية المقبولة اجتماعيا ودوليا وأخلاقيا، وتلخيصا لعقلية الاقصاء

وللقضاء في البلدان العربية قصة اخرى. هنا القضاء اداة بيد الحاكمين الذين يهيمنون على السلطات جميعا. هذه السلطات غير مفصولة ابدا. فالحاكم هو الذي يعين القضاة، ويعين اعضاء مجالس الشورى غير المنتخبة، ويسيطر على وسائل الإعلام كافة، ويدير اجهزة الامن التي تنفذ رغباته بحذافيرها. وقد جاءت قضية خاشقجي لتؤكد هذه الحقائق. وما حدث الاسبوع الماضي في الرياض يؤكد ذلك ايضا. فتحت الضغط الدولي اعترفت الحكومة السعودية بقتل الإعلامي المعارض جمال خاشقجي في تشرين الأول/اكتوبر 2018 من قبل مجموعة يعمل افرادها ضمن اجهزة الامن السعودية، ولكن الرياض حصرت الجريمة بأفراد ذوي رتب رسمية متدنية، في محاولة لحماية الذين اتخذوا قرارتصفية خاشقجي في اعلى مستويات الحكم. وبرغم الضغوط الإعلامية والحقوقية استطاعت السعودية ضمان مواقف الدول الغربية القادرة على التأثير على القرار الدولي، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي حسم الموقف عندما قال بانه لن يسمح لقضية خاشقجي بالتأثير على العلاقات مع السعودية، بغض النظر عمن اتخذ قرار قتله. ونظرا لاكتشاف اغلب تفصيلات ما جرى، اجبرت الضغوط الإعلامية والحقوقية الرياض على اتخاذ خطوات متواضعة للتظاهر بانها جادة في متابعة خيوط الجريمة، وقدمت مجموعة من الأشخاص الى «القضاء».

وفي الاسبوع الماضي اعلنت الرياض ان الادعاء العام اصدر قرارا بإعدام خمسة من هؤلاء بدون ذكر اسمائهم. ولم يكن من بين هؤلاء شخصان اساسيان يعتبران حلقة الوصل مع ولي العهد السعودي الذي اتهم بإصدار قرار التصفية هما سعد القحطاني وسعود العتيبي. وبعد صدور قرار الإعدام، عاد سعود القحطاني للظهور الإعلامي عبر حسابه في تويتر، قائلا: عدنا والعود أحمد. وفي ذلك تحد واضح لمن اعتقد بان العدالة ستطاله كذلك.
وثمة حقائق يجدر الاشارة اليها هنا: اولها ان قرار تصفية المرحوم جمال خاشقجي جاءت من ولي العهد السعودي، وهذه حقيقة أكدتها اجهزة الاستخبارات الغربية على رأسها سي آي إيه الامريكية. ثانيها: ان القضاء السعودي تابع للحكم، وليس مستقلا ابدا، بل ينفذ ما يطلبه المسؤولون الكبار. ثالثا: ان الخمسة الذين «حكموا بالإعدام» لن يعدموا لأن ذلك سيؤثر على معنويات الآخرين الذين يعملون ضمن دائرة ولي العهد والمرتبطين بحمايته. رابعها: ان نمط التعامل السعودي مع المعارضين لن يتغير كثيرا، فستبقى السجون مفتوحة لمن يطالب بالإصلاح السياسي الذي هو اساس لإصلاح اجهزة القضاء والامن. خامسها: ان قتل المعارضين سوف يتواصل، ليس بطريقة الاغتيال التي استخدمت مع خاشقجي، ولكن بالإعدام الميداني كما حدث مرارا في المنطقة الشرقية، او باستخدام «القضاء» كما حدث مع الشيخ نمر النمر، وقد يحدث مع علماء آخرين مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ حسن المالكي وسواهما ممن طالب الادعاء المرتبط مباشرة بالنظام باعدامهم. المواقف الدولية بعد صدور الحكم كشفت الفشل في إقناع الجهات الحقوقية والسياسية بعدالة القضاء. فبعد صدور القرار اعتبرت منظمة العفو الدولية إن الحكم «محاولة للتستر على الجريمة، داعية إلى «تحقيق دولي مستقل ونزيه». وقالت لين معلوف، مديرة أبحاث الشرق الأوسط في المنظمة: «هذا الحكم عبارة عن محاولة للتستر على الجريمة لا يجلب العدالة ولا الحقيقة لجمال خاشقجي وأحبائه. لم يكن للرأي العام والمراقبين المستقلين حضور خلال المحاكمة، مع عدم توفر معلومات عن كيفية إجراء التحقيق». وذكرت معلوف أن «محاكم المملكة العربية السعودية تمنع بشكل روتيني المتهمين من الاتصال بمحامين وتدين الأشخاص بالقتل بعد محاكمات جائرة للغاية، وبالنظر إلى انعدام الشفافية من جانب السلطات السعودية، وفي غياب القضاء المستقل، لا يمكن تحقيق العدالة لجمال خاشقجي إلا عبر تحقيق دولي ومستقل ونزيه».
يمكن القول إن قضية خاشقجي كشفت مشاكل بنيوية لدى النظام السياسي العربي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص. فكانت تعبيرا بليغا عن غياب المنظومة السياسية المقبولة اجتماعيا ودوليا وأخلاقيا، وتلخيصا لعقلية الاقصاء التي تصل الى حد القتل في حالة الاختلاف مع الحاكم او من يعارضه، وعمقت القناعة بضرورة التغيير السياسي في المنطقة العربية والجزيرة العربية بشكل خاص ليمكن تطوير منظومة الحكم لتصل الى مستوى العدل وترويج الحرية واقامة حكم القانون وإقامة العدل الذي يمثل القضاء المستقل والنزيه اهم مستلزماته.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/12/30

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد