آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. وفيق إبراهيم
عن الكاتب :
باحث استراتيجي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

الشعب العراقي في مواجهة دولة «بريمر» !

 

د. وفيق إبراهيم
للمرة الأولى منذ الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، يتكشف ان الدولة التي ضغط لإنشائها المندوب الأميركي “بريمر”، هي مجرد آلية شكلية مصابة بعطل بنيوي بالولادة وغير قابل للاصلاح او المعالجة.
لقد بذل الأميركيون جهوداً جبارة لبناء دولة عراقية تشبه النماذج الكونفدرالية التي يحتاج أي قرار فيها لموافقات كبيرة من المؤسسات الدستورية وتتطلب في البعض تأييداً يفوق الثلثين في مجالسها النيابية وحكوماتها ورؤساء بلدياتها. وهذا يعني استحالة صدور أي قرار إلا بالاتفاق المسبق والعميق بين قادة المذاهب والقوميات بما يؤكد عجز هذا النوع من الدول الاتفاق على القرارات الوطنية الكبرى. وهذا يعني شللاً في إنتاج المواقف التاريخية الكبرى مع الميل الى المساومات بين القوى السياسية للتحاصص الداخلي فقط، في الوظائف والأموال العامة والتعيينات.
هذا حال العراق الذي اجتاحه الأميركيون قبل سبعة عشر عاماً من دون إذن أممي متذرعين بوجود اسلحة دمار شامل على اراضيه، فقضوا على نظام صدام حسين سافكين دماء مئات آلاف العراقيين ومؤسسين هذه الدولة الضعيفة التي فرضوا عليها بموجب سيطرتهم على موازنات القوى، توقيع معاهدة تجعل احتلالهم شرعياً للعام 2011، فانتهت هذه المهلة ولم يخرجوا إلى أن اكتشفت دولة “بريمر” العراقية الحل الناجع فأجبرت حكومة العراق على توقيع اتفاق جديد يسمح للقوات الأميركية بالبقاء لتدريب القوات العراقية ورفدها باستشارات ونصائح في اوقات المحن.
ضمن هذا السيناريو الدقيق عمل الأميركيون على السيطرة على الجيش العراقي ومجمل القوى الأمنية، ولم يكتفوا بذلك، ساعين الى التفتيت بمستويات متعددة: سياسي طائفي وآخر داخل كل قوة مذهبية بمفردها، وثالث قومي وعرقي، وذلك لصنع المزيد من الفرقة بين الكتل السياسية الشيعية والسنية من جهة والشيعية الشيعية والسنية السنية من جهة أخرى مع خلافات عربية كردية مشجعين الإرهاب على قتل المسيحيين والايزيديين ما أحدث خللاً سياسياً وطنياً ادى الى اضعاف الأقوياء والأقل قوة في آن معاً حتى بدا أن القوى الوحيدة هو ذلك الأميركي المتحكم بمفاصل القوة، فهو محتل ومستشار وسياسي وإعلامي يلعب على نيران الفتنة الداخلية ولص يسرق نفط كردستان وكركوك ويسوّقه في تركيا، بما يؤدي الى انتفاع ثلاثي في هذه الثروة العراقية: آل البرزاني المتحكمون بالسلطة في كردستان واردوغان البراغماتي الذي لا يريد دولة كردية، لكنه يأكل من نفطها، والأميركيون أصحاب الرعاية والتنسيق الذين يحمون مقابل حصة من نفط العراق.
بشكل يشابه ما يفعلونه دائماً مع الإمارات والسعودية وقطر والكويت أي: ادفع تسلم.
كما ذهبوا في مناطق الوسط الى حدود دعم كل التيارات الانفصالية والعشائر مستعينين بخدمات الأحزاب الإسلاموية الموالية لتركيا، وادوار السعودية والإمارات في التأثير على عشائر الأنبار وبعض احزاب الوسط عبر تزخيم شعار العداء لإيران وتصوير العراق على أنه ساحة للنفوذ الفارسي المجوسي كما تقول إشاعاتهم اليومية.
ولم ينسوا جذب بعض القوى الشيعية التي تريد الإمساك بالحكم على غرار سائرون جماعة مقتدى الصدر وطموحات عراقيين شيعة آخرين، مستعدين لبيع سراويلهم مقابل رئاسة الحكومة.
فأمسك الأميركيون بهذه الطريقة بالكثير من الأحزاب في كردستان والوسط والكلدان والصابئة والايزيديين وبعض قوى الجنوب والعاصمة.
بذلك استطاعت دولة “بريمر” لعب دور مرجعية لا يمكن لأي قرار وطني ان يعبر إلا بإذنها، واداء دور المنظم للأحجام والحائل دون وصول قوة الى درجة تستطيع فيها إلغاء الآخر.
انها اذاً دولة مشلولة وعاجزة تراقب “بصمت العاجزين” ولادة مشروع سياسي أميركي جديد يريد تحويل العراق الى جدران تمنع تطوير العلاقات التنسيقية مع سورية وتلغي أي دور سياسي او اقتصادي لحدودها مع إيران، ولو استطاعت إلغاء انظمة الزيارات الدينية لمراقد الأولياء والأئمة بين العراق وايران لما تلكأت لحظة واحدة.
لذلك يذهب الجنون الأميركي هذه المرة الى حدود اغتيال قائدين أمنيين من الدرجة الاولى، أحدهما رجل أمن إقليمي تاريخي له مكانة متقدّمة في محور المقاومة في لبنان وسورية والعراق وإيران واليمن وفلسطين، والشهيد الثاني نائب رئيس الحشد الشعبي في مواجهة الأميركيين.
هذا إذاً اغتيال له أبعاد سياسية عراقية لكن جغرافيته العراقية تتطلب رداً سياسياً حازماً من الدولة العراقية اولاً، ولن تستطيع التقدم بشكوى لمجلس الامن الدولي بسبب الفراغ السياسي في المؤسسات الدستورية، فبرهم هارب الى باكستان والحلبوسي صاحب الآراء الرمادية وعاد عبد المهدي المستقيل الذي لم يعد باستطاعته حتى جمع وزراء من حكومته. هذا الى جانب أن حكومة تصريف الأعمال الحالية لا قدرة قانونية لديها على إنتاج موقف وطني.
فهل يعجز العراق عن تأمين بديل من مؤسساته الدستورية المشلولة؟
إنه الشعب العراقي بكامل أطيافه الذي ملأ بغداد والنجف بالملايين المستنكرين لاغتيال القائدين.

هي الآلية الشجاعة وعلى رأسها مفتي السنة والشيعة المنلا الذي يجهر مطالباً بإخراج الأميركيين. هؤلاء هم القادرون على إصدار فتوى شعبية تعلن انتهاء مفاعيل كل المعاهدات والاتفاقات مع الأميركيين على أساس حظر كامل لأي تفاعل مع القواعد العسكرية الأميركية ومعاملتها كمراكز تنتهك سيادة العراق وصولاً الى حدود إعلان الكفاح الشعبي لطرد هذا الاستعماري.
المطلوب إذاً أن يلعب الشعب العراقي دوراً في إعادة بناء عراق داخلي موحّد وعراق إقليمي قادر على التنسيق مع سورية لبناء أقوى معادلة ممكنة منذ سقوط النظام العربي القديم على يد الرئيس المصري السادات في 1979.
فهل يتحوّل الاغتيال الأميركي للشهيدين الى مناسبة لطرد الأميركيين من العراق وسورية؟هذا ممكن بالقوة الشعبية وحلف المقاومة ورفع شعار يقوم على المساواة بين الشعوب في سورية والعراق ولبنان وفلسطين على أساس المساواة في السياسة والاقتصادي والاجتماع بمنأى عن التباين الديني والعرقي، لذلك فالمأزوم اليوم هم الأميركيون الذين يفقدون آخر أوراقهم في المنطقة بما يبشر بفجر جديد لشعوب مضطهدة منذ ألف عام وأكثر.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/01/06

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد