آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. وفيق إبراهيم
عن الكاتب :
باحث استراتيجي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

العولمة ضحيّة تدريجيّة لـ«كورونا» فمن المتضرّر والمستفيد؟

 

د. وفيق إبراهيم
يواصل وباء الكورونا اجتياحه لكامل انحاء الأرض، فلا يستثني بقعة او ناحية إلا بعدد الاصابات التي يتسبب بها، فتبدو الصين وايطاليا وكوريا الجنوبية وإيران الأكثر تضرراً.
وسرعان ما يتضح ان هذا الوباء منتشر في كل مكان. وتتصاعد اصاباته حتى في الغابات والأرياف فيما يهمه فقط هو وجود بشر لديهم حياة اقتصادية على بقعة من التراب حتى ينتشر بسرعة.
الوباء اذاً عالمي ينتقل بالعدوى بسرعة وعند مختلف انواع الملامسات واللقاءات.
وحتى الآن لم يتضح للبشر اذا كانت الطيور والاسماك مصابة به ولم يتبين لهم اذا كان لا يصيب النبات، باعتبار ان المعادن والاخشاب والتراب عناصر تنقل العدوى، بمجرد ملامستها من مريض مصاب بكورونا.
كانت هذه المقدّمة ضرورية لإظهار مدى تأثر التفاعلات البشرية بهذا الوباء، لكن ما يهمنا هنا هو قراءة أضراره على التفاعلات داخل البلد الواحد وبين الدول.
لجهة البلد الواحد أدى كورونا الى اضعاف حركة التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية، متسبباً بضمور حركة التواصل الى الحدود الدنيا، ما انتج تراجعاً كبيراً في حركة البيع والشراء ومجمل انواع التفاعل.
وهذا طبيعي لدرء أخطاره، وبالإمكان معالجته برفع عمليات التعقيم والتحصين والمراقبة الرسمية والشعبية، بما يؤدي الى تدني الخسائر وضبطها تراجعاتها.
لكن الكارثة ليست هنا، إنها في العلاقات بين الدول بما يهدّد بانهيار نظام تبادل انتج العولمة والاعلام الكوني والتقاطعات في استهلاك شبه متشابه.
انها «العولمة» التي يشيّعها وباء الكورونا في دائرة تراجعات كبيرة تدفع بسرعة نحو تدميرها وذلك بالعودة الى انظمة التبادل التقليدية.
لمزيد من التوضيح فإن نجاح الاميركيين في بناء اكبر اقتصاد عالمي، جعلهم يفكرون في ايجاد معادلات تسويق عالمية تتعادل مع الانتشارين السياسي والعسكري للولايات المتحدة الاميركية، اي الدولة التي تموضعت منذ 1990 قطباً أحادياً له نفوذ كبير في كل مكان.
فكانت فلسفة العولمة التي تعني فتح الحدود بين الدول لكل أنواع السلع والاختراعات وذلك بإلغاء التدابير السياسية والجمركية وكل أنواع المعوقات.
ولضرورة تمرير هذا المفهوم الجديد كان لا بد من نشر ثقافة أممية جديدة عبر الإعلام الكوني الذي قدم «التلفزيون المعولم» كأهم وسيلة عابرة للقارات من دون جمرك، تنقل نموذج الحياة الاميركية في الملبس والمأكل والمأوى وكل انواع الاستهلاك، فنجحت بسياسة «تقليد الضعيف للقوي» بالترويج لسلعها من الإبرة حتى الصاروخ.
لقد نجحت هذه السياسات في تشكيل «ذوق عالمي متشابه» الى حدود كبيرة، وإلا كيف يمكن تفسير انتشار الهبمرغر والبيتزا والجينز؟
لكن ما لم ينتبه له الاميركيون هو مسألة الفارق الكبير بين اسعار سلعهم وبين الاسعار الصينية خصوصاً والاوروبية عموماً وصولاً الى الاسعار الرخيصة لبلدان صناعية في جنوب شرق آسيا والكوريتين.
هذه النقطة كانت خافية على القطبية الاميركية حتى اكتشفوا منذ مطلع هذا القرن الحادي والعشرين ان الصين تكاد ان تتجاوزهم اقتصادياً ولا تحتاج إلا لأقل من عقد حتى تتربع على العرش الاول للاقتصاد العالمي، كما تبين لهم ان المانيا تخترق اسواقهم بالكثير من سلعها وسياراتها، واليابان تتسلل بمختلف انواع البضائع.
كما اكتشفوا ان هذه الدول تقتحم اسواق افريقيا وآسيا واوستراليا. فبحثوا عن الاسباب التي بينت لهم ان السلع الصينية تتقدم صناعياً ولا تزال الارخص في العالم، الى جانب متانة السلعة الألمانية المتقدمة ايضاً على المستوى التقني والجمالية اللائقة، اما اليابان فتجمع بضائعها بين المتانة و»العصرنة» والأسعار المقبولة، هذا دون نسيان بضائع الكوريتين التي وجدت اسواقاً لها في انحاء مختلفة من آسيا وافريقيا.
اما العنصر الاضافي الذي انتبهوا اليه، فهو تراجع كامل الصناعات الأوروبية باستثناء بلاد الالمان.
ان مرحلة الرئيس الاميركي الحالي ترامب شكلت زمن الانتباه الى الأضرار التي تسببت بها العولمة للاقتصاد الاميركي.
هذا لا يعني انه خاسر، لكنه ورغم ارتكازه على 800 قاعدة اميركية، تعكس النفوذ الاميركي الاحادي في العالم، ورغم النفوذ السياسي الاميركي في ثلاثة ارباع الارض، فإن الاقتصاد الاميركي عجز عن طرد الصين والمانيا واليابان والكوريتين من اسواق العالم، حتى ان المستشارة الالمانية ميركل استاءت من التدابير التي بدأ الاميركيون باختراعها لعرقلة انتقال السلعة الاجنبية الى اسواقها، فقالت بسخرية انه يبدو أن «سيارات الـ B.M.W  الالمانية تهدد الامن القومي الاميركي».
عند هذا الحد يتبين ان انعكاسات كورونا لجهة اصابة التبادل بين الدول بالتراجع عامل يستفيد منه الاميركيون حصراً، فأسواقهم بدأت بخفض كبير في احجام مستورداتها من الخارج، وقلدتها اسواق افريقية وآسيوية وشرق اوسطية، بدأت تصاب بذعر من السلع الصينية واليابانية.

ومع شيء من الضغط السياسي الاميركي قد تعود الى دائرة الاستيراد من القطب الاميركي واعادة العوائق الاقتصادية والسياسية الى حدودها.
فهل يُنهي «كورونا» العولمة؟ ان استمرار تصاعد كورونا ولأشهر عدة من شأنه اعادة الوظائف القديمة للحدود السياسية. وهذا يقضي على العولمة التي كان الغربيون يرددون انها حولت العالم الى قرية صغيرة.
وهذه من الاسباب التي تجعل الكثير من البلدان تعتقد ان هذا الوباء هو من تصنيع أميركي بالتلوث البيولوجي بعد انتهاء عصر الحروب العسكرية والاقتصادية، بما يشير الى البدء بعصر حروب الاوبئة المدروسة فترقبوها.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/03/14