آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

تباين الأداء بين الشرق والغرب سيتحول لصراع إيديولوجي

 

د. سعيد الشهابي


تساؤلات كثيرة حول ما سيطرأ على العالم من تغيرات بعد انحسار الوباء الذي يعصف بالبشر قاطبة. وما أكثر المقالات والتحليلات التي تكتظ بها وسائل الإعلام حول ما سيحدث لاحقا، سواء على صعيد السلوك الفردي ام سياسات الدول وعلاقاتها، ام اساليب الانعاش الاقتصادي بعد النكبات التي اصيب بها الاقتصاد العالمي، ام على مستوى التوازن الدولي، السياسي والاقتصادي والعسكري والإيديولوجي. تجري هذه النقاشات بعد ان نفدت الاخبار الممتعة بسبب توقف الحياة شبه الكامل. فلا رياضة ولا مباريات ولا دورات ولا سينما ولا مؤتمرات ولا حضور في دور العبادة لأي من الأديان، ولا حتى لقاءات عائلية.
لذلك غابت الأخبار الممتعة من وسائل الإعلام التي حصرت نشاطها بتدوير الاخبار حول انتشار الوباء وعدد الاصابات الجديدة والوفيات بسببه. اما في بريطانيا، وربما في العديد من البلدان، فالأخبار اليومية حتى الآن تكاد تنحصر في ما سبق بالإضافة للمشاكل التي تواجهها الطواقم الطبية التي تكافح على الخط الامامي في مواجهة المرض، خصوصا الاقنعة والألبسة الواقية التي ما تزال غير متوفرة بما تقتضيه الحاجة، بالإضافة للنقاش المتواصل حول فشل الدولة في توفير كميات كافية من وسائل فحص الافراد لاكتشاف المرض.
كما يتواصل السجال حول تراجع الاقتصاد وامكان تخفيف الحجر الصحي الذي يطبق في اغلب مناطق العالم. وربما تبدو الصورة في العالم العربي أقل كآبة وإحباطا، ولكن الدول الغربية الكبرى ابتداء من الولايات المتحدة الامريكية مرورا ببريطانيا والمانيا وفرنسا واسبانيا وايطاليا، اصبحت الأكثر تضررا من الوباء وسقط فيها من الضحايا اعداد لا تصدق ما بين مصاب ومتوفى. وثمة اعتراف بان ما ينشر من الارقام لا يعكس الحقيقة كاملة نظرا لأنها لا تشمل الا ما سجل منها لدى المستشفيات.
برغم هذه السجالات، فهناك أمران ايجابيان وثالث سلبي. يتمثل الأولان بالتقارب الديني والعلمي على الصعيد الدولي في ظاهرة غير مسبوقة. اما السلبي، وربما يكون الاخطر، فهو ما يلوح من إعداد لصراع ايديولوجي خطير. ومع اهمية الجانبين الايجابيين المذكورين، فان الثالث من شأنه ان يشوش عليهما ويقلل من شأنهما. وتؤكد الشواهد التاريخية المعاصرة تغلب نزعات الشر على الظواهر الخيّرة. فالحرب العالمية الثانية التي تعاون فيها الحلفاء ضد ألمانيا الهتلرية كانت تبدو انموذجا ايجابيا للتعاون بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي ضد النازية. ولكن ما انتهت تلك الحرب بهزيمة ألمانيا، حتى دخل الطرفان المتحالفان خلالها في صراع مرير استمر اكثر من اربعين عاما، وكاد في بعض الحالات يؤدي لمواجهة نووية كما حدث خلال أزمة الصواريخ في كوبا في العام 1961.

هناك رغبة لدى العلماء بتبادل نتائج أبحاثهم في إطار السعي المشترك للتوصل إلى علاجات تحمي البشرية من أخطر وباء شهدته منذ أكثر من قرن. إنها ظاهرة ايجابية تكشف الفطرة الإنسانية النقية التي لم تلوثها أطماع السياسيين وتجار الموت وأعداء الإنسانية

هذه المرة هناك تقارب منقطع النظير بين الأديان، برغم التجارب المرة التي عاشتها قبل حدوث كارثة فيروس كورونا. فقد التزمت كافة الاديان (في ما عدا مجموعات صغيرة ضمن كل منها) بالتوجيهات الصحية العامة التي تدعو للتباعد الاجتماعي ومراعاة الاحتياطات الصحية كغسل الايدي بشكل مستمر والبقاء في المنازل ومساعدة ذوي الحاجة المحصورين في الحجر الصحي. كما تم وقف كافة الممارسات الدينية التي تقتضي تجمع الناس كالصلاة والتجمعات والمؤتمرات. فأغلقت المساجد والكنائس والمعابد، واصدر كبار العلماء والقسسة والكهنة توجيهات متشابهة تحث الاتباع على الالتزام بالتوجيهات الصحية التي تصدرها الجهات المعنية كالحكومات ومنظمة الصحة العالمية. انه تقارب فرضه الحب الفطري للحياة والعقل البشري المحب للخير.
المصداق الايجابي الآخر للتقارب بين البشر تجسد بالتعاون العلمي من اجل التوصل لأمصال ضد فيروس كورونا، وعلاجاته بعد الاصابة، ووسائل فحص الافراد. ونظرا للسرعة التي فرض الوباء بها نفسه على العالم، كان واضحا عدم توفر اي من وسائل مقاومته. فانتشر بسهولة في اغلب مناطق العالم. وطوال الشهور الثلاثة الاخيرة انكب العلماء على البحث عن الأمصال والمضادات وطرق الوقاية. ومن المؤكد ان شروط التباعد تساهم في إبطاء البحوث، ولكن التعاون بين العلماء في اغلب جامعات العالم ومراكز الابحاث الطبية لم يتوقف. وتميزت الصين وألمانيا بإظهار نزعات إنسانية لتوفير ما تتوصلان اليه من نتائج عملية للعالم كله، وعدم حصره بشعوبهما، على العكس من امريكا التي سعت للاستحواذ على الابحاث العلمية ونتائجها. فالتعاون العلمي ضرورة قصوى لمكافحة الوباء والحيلولة دون استمراره وانتشاره. وفي غياب ذلك أصبح كل بلد يتعاطى مع الوباء بما لدى أطبائه وعلمائه من امكانات واجتهادات.
هذا الوباء فرض ثقافة الحياة على العالم بدلا من ثقافة الموت.

ففي العادة يحتفظ العلماء والباحثون في مجالات التكنولوجيا والعلوم النووية بانجازاتهم لبلدانهم، في اطار ثقافة الموت التي يتسابق فيها أعداء الإنسانية لتطوير الأسلحة الفتاكة بدون توقف. أما في الأبحاث المتصلة بمكافحة الوباء الحالي، فهناك رغبة لدى العلماء بتبادل نتائج أبحاثهم في إطار السعي المشترك للتوصل الى علاجات تحمي البشرية من أخطر وباء شهدته منذ أكثر من قرن. انها ظاهرة ايجابية تكشف الفطرة الإنسانية النقية التي لم تلوثها أطماع السياسيين وتجار الموت واعداء الإنسانية. والامل ان يتواصل تعاون العلماء والباحثين حتى يحققوا ما ينتظره الناس من نتائج وانجازات طبية.
اما التطور السلبي والخطير فيتمثل بما يمكن اعتباره تأسيسا لصراع ايديولوجي مستقبلي. ففيما كان العالم يُسخّر كل ما لديه من امكانات لاحتواء وباء فيروس كورونا، ويتحد في موقف عالمي غير مسبوق لحماية الجنس البشري من أخطر وباء في العصر الحديث، كان الرئيس الامريكي يفتح جبهة صراع سياسية ايديولوجية من شأنها ان تعيد اجواء الحرب الباردة وتدخل العالم في دوامة صراع يفترض انه تلاشى قبل ثلاثين عاما.
وبدلا من تأجيل الصراع الى ما بعد الكارثة التي تعصف بالإنسانية، أصبح واضحا ان امريكا تسعى لصرف الانظار عن فشلها في حماية مواطنيها او تقديم مثال متميز لقيادة العالم. ولا ضرورة لمناقشة تناقضات تصريحات الرئيس الامريكي او سوء تصرفاته مع من يخالفه الرأي سواء من السياسيين ام الإعلاميين، او نمط ادارته الذي صدم العالم. فما أكثر الانتقادات التي توجه له في وسائل الإعلام. لكن القضية التي من شأنها ان تساهم في صياغة نمط العلاقات الدولية في المرحلة المقبلة ما يلوح في الافق من معركة ايديولوجية شرسة تضاف للتوترات السياسية والاقتصادية بين امريكا والصين في الاعوام الخمسة الاخيرة. لكن الصراع الإيديولوجي المتوقع هذه المرة سيكون خطيرا وقد يؤدي لمواجهات عسكرية، خصوصا أن الولايات المتحدة نقلت قدرا كبيرا من ثقلها العسكري من الشرق الأوسط الى جنوب شرق آسيا وبحر الصين.
والأمل أن يستيقظ المثقفون والنشطاء لمنع ذلك، لان الوباء القائم طويل الامد، ويتوقع استمراره اعواما ان لم يتحد العالم سياسيا واقتصاديا وعلميا ونفسيا لمقاومته.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2020/04/20

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد