آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

انتهاك حقوق الإنسان لا يحقق أمن الحكام

 

د. سعيد الشهابي ..

 

يمكن القول أن من أهم ما توصل إليه العالم الغربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تقنين مبادىء حقوق الإنسان. بدأ ذلك بإقرار الإعلان

العالمي لحقوق الإنسان في 1948 وتواصلت الجهود بعد ذلك لتطوير تلك المبادىء وإقرار المواثيق الخاصة بالحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاقتصادية. ثم جاء إقرار معاهدة مكافحة التعذيب CAT في 1980 لتصل المنظومة الحقوقية إلى ذروتها في أول قمة لحقوق الإنسان (وآخرها) في فيينا في 1993 التي أقرت مبدأ حماية المدافعين واعتبار تلك الحقوق فوق الحدود الجغرافية للدول وخارج مفهوم السيادة. غير أن الدول الكبرى التي اهتمت بتلك المنظومة ووضعتها على رأس خطابها العالمي، تراجعت كثيرا عنها في العقدين الأخيرين، ليبلغ الوضع في الوقت الحاضر مستويات هابطة من الانتهاكات غير المسبوقة منذ عقود. وحين يضع المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية ضمن مشروعه السياسي إقرار تعذيب المتهمين بالإرهاب، فان ذلك يكشف مدى ما بلغه الغرب من تراجع على صعيد تلك المنظومة.

 

وسبق دونالد ترامب في الموقف المتراجع الرئيس السابق، جورج بوش، الذي سمح بتعذيب المتهمين بالإرهاب ضمن تنظيم القاعدة، فاستخدم على نطاق واسع خصوصا طريقة «الإيهام بالغرق».

 

ولم يتراجع بوش عن موقفه حتى بعد أن ترك منصبه، واعترف علنا في مقابلات تلفزيونية بإقراره تلك الممارسة. وتأتي تصريحات ترامب هذه المرة مدعومة برأي عام أمريكي يوافق على تعذيب المتهمين بالإرهاب بدعوى أن ذلك التعذيب سيمنع حدوث حوادث إرهابية تحصد أرواح الكثيرين.

 

يضاف إلى ذلك أن بعض الدول الأوروبية ليست أفضل في موقفها إزاء التعذيب، الذي يعتبر جريمة ضد الإنسانية. فبريطانيا لم تشجب قط حلفاءها الذين يمارسون التعذيب، ولم يتفوه رئيس وزرائها أو وزير خارجيتها بكلمة سلبية إزاء تلك الأنظمة برغم تأكيد الممارسات الشنيعة من قبل المنظمات الحقوقية المرموقة خصوصا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.

 

وفي الوقت الذي يخرج فيه رئيس حزب العمال البريطاني ليشجب المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية، فان الحكومة لا تختلف كثيرا في موقفها عن موقف واشنطن. وقد أظهرت تجربة التعاطي مع معتقلي تنظيم القاعدة تواطؤا بريطانيا مع الممارسات الأمريكية في بعض الحالات.

 

كما أن بريطانيا تسعى بشكل متواصل لحماية حلفائها من الشجب الدولي.

وهنا تبدو مفارقات القيم الغربية التي تؤسس على المصالح وتساوم على المبادىء. فالتعذيب جريمة ضد الإنسانية لا يجوز التهاون معها، ولا يمكن أن يستقيم نظام حكم يعامل مواطنيه بما يحط كرامة البشر. فالتعذيب، كما هو القتل خارج إطار القانون والاعتقال التعسفي والحرمان من الجنسية وإبعاد المواطنين، كلها من الجرائم التي يفترض أن يتصدى «العالم الحر» لها لكي يمنع حدوثها ويعاقب من يمارسها.

 

ولكن حين يتراجع الموقف حتى يبلغ مستوى ممارسة بعض هذه الجرائم من قبل الأنظمة الغربية الكبرى كأمريكا وبريطانيا، فأن العالم يصبح مهددا بالمزيد من التراجع الأخلاقي والإنساني، والتوترات الأمنية التي تنجم عن القمع الشرس من قبل الأنظمة الاستبدادية. فالتعذيب، في أغلب الحالات، يعتبر انتقاما من الضحية وليس وسيلة للحصول على المعلومات. وبلغ التطور الدولي في السابق مستوى يمنع استخدام المعلومات المنزوعة تحت التعذيب لاغية، ولا يجوز الاستناد عليها لتجريم الضحايا. كما اعتبرت إجراءات أية محكمة تصدر أحكامها بحق أولئك الضحايا على أساس تلك الإفادات المسحوبة تحت التعذيب «محاكمة جائرة» وتعتبر أحكامها لاغية وفق القانون الدولي. مع ذلك ليس هناك مشروع دولي أو إقليمي لمكافحة انتهاك حقوق الإنسان. ويبدو المستقبل الإنساني أكثر سوادا حين تغيب الحكمة وتتلاشى قيم العدالة وتصبح العواطف والمشاعر الشيطانية الكامنة هي المحرك الأساسي للأجهزة السياسية والأمنية.

 

أليس هذا الاضطهاد والممارسات البشعة من أهم الأسباب التي تؤدي للحروب؟ أليس سوء معاملة اليهود على أيدي النازيين من بين أسباب الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح الملايين؟

 

ألا يعني ذلك أن سوء معاملة البشر وغياب القيم والمبادىء الثابتة والقوانين التي تحمي تلك القيم من أهم أسباب التوترات واندلاع الحروب؟ في مصر يعتقل عشرات الآلاف من المصريين لأنهم ينتمون لجماعة عمرها تسعون عاما تقريبا بدعوى أنها «محظورة» أو أنهم احتجوا ضد النظام، ويختطف باحث إيطالي ويعذب حتى الموت لأنه يبحث في النشاط النقابي المصري. وينفذ الإسرائيليون أحكام الإعدام الميداني بحق العديد من الفلسطينيين المطالبين بحقوقهم المشروعة، ويعذبون آلاف السجناء وأكثر من 600 طفل لأنهم يحتجون ضد الاحتلال.

 

وتختطف أجهزة الأمن السعودية الأسبوع الماضي الشاب مكي العريض وتسلم جثته بعد ثلاثة أيام وقد اخترقتها المخاريز الكهربائية. بينما تؤكد اللجنة الرسمية التي شكلتها حكومة البحرين أنها تمارس «التعذيب الممنهج» بحق السجناء. هل هذا هو العالم الذي يسعى للأمن والاستقرار وحماية قيم الإنسان وكرامته وحريته؟

 

ومن المناسب هنا مقارنة المواقف الغربية إزاء منظومة حقوق الإنسان مع المبادىء الإسلامية. فالإسلام يطرح شعارا قرآنيا ثابتا لا يتغير بتغير الزمان أو المكان ولا يسمح لمقولة المصالح بالتأثير على نفاذ ذلك الشعار: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى. هذا يعني أن العلاقات بين البشر يجب أن لا تؤثر على الموقف القانوني. وهذا ينطبق على البشر العاديين كما ينطبق على الإرهابيين.

 

فيجب محاكمة الإرهابي وفق القانون، ومعاملته كذلك. فالقانون ينص على عقوبات محددة لمن يقتل البشر أو يمارس أية جريمة أخرى، لكنه يمنع سوء معاملته أو تعذيبه، فذلك انتقام ينطلق من الجانب الشيطاني في النفس الإنسانية ولا يتوافق مع المبادىء الإلهية والإنسانية التي تكرم الإنسان وتحترم حقوقه. كما أنه عقاب خارج نطاق القضاء. وتذكر النصوص التاريخية أن الإمام علي بن أبي طالب ترك وصية لأهله بأن يعاملوا قاتله وفق القانون «ضربة بضربة» وأن لا يعذبوه أو يسيئوا معاملته: «إياكم والمثلة فأني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور». أنه مبدأ يمنع سوء المعاملة وأن كان الشخص مذنبا.

 

فالقانون هو الذي يقرر العقوبة، وقبل ذلك القرار لا يجوز إلحاق الأذى بالمتهم. أما الأمريكيون فقد كشف استطلاع نظمته وكالة أنباء رويترز مع منظمة ايبسوس (شركة بريطانية مختصة بالبحث في شؤون السوق) ان حوالي ثلثي الأمريكيين يعتقدون أن بالإمكان تبرير التعذيب للحصول على المعلومات من المتهمين بالإرهاب. وهذا المعدل من القبول بالتعذيب قريب من المعدل في نيجيريا التي تعاني من الاعتداءات الإرهابية. وقد بادر دونالد ترامب لطرح موضوع التعذيب مجددا، قائلا انه سوف يلغي المنع الذي فرضه الرئيس أوباما على استخدام وسيلة «الإيهام بالغرق» التي أقرها الرئيس السابق، جورج بوش. وقد اتفقت المنظمات الحقوقية انها ممنوعة وفق مواثيق جنيف. بل أن ترامب وعد بأنه سيأتي بـ «ما هو أسوأ من ذلك» إذا ما فاز بالانتخابات الرئاسية.

 

ويكشف الاستطلاع المذكور أن 82 بالمائة من المحسوبين على الحزب الجمهوري يقرون التعذيب.

 

وفي 2014 أجرت منظمة العفو الدولية استطلاعا كشف أن الموافقة الأمريكية بلغت 45 بالمائة، و64 بالمائة في نيجيريا و66 بالمائة في كينيا و74 بالمائة في الهند. أنه أمر مقلق جدا أن يعتبر هذا الانتهاك الخطير لكرامة الإنسان مقبولا بهذا المستوى. كما أنه يعكس تراجع مشاعر الرأفة والرحمة والإنسانية في نفوس الكثيرين. ولا شك أن لظاهرة الإرهاب الدور الأكبر في تراجع المنظومة الحقوقية وتقليل قيمة الإنسان أو احترام حقوقه وكرامته، ولكن يفترض أن تكون المنظومة الغربية التي تمثل «العالم الحر» أقدر على الاحتفاظ بالمبادىء والقيم، وأبعد عن الانسياق وراء المشاعر والغرائز الشيطانية. فما الفرق بين من يقتل البشر بالإرهاب الأعمى ومن يستهدفهم بسوء المعاملة والقتل خارج إطار القانون والتعذيب والاعتقال التعسفي؟

 

هناك أذن عالمان متوازيان في الغرب: أحدهما يقر التعذيب أو لا يعترض عليه أو يشجبه خصوصا إذا مورس من قبل أنظمة صديقة، وتتصدر الولايات المتحدة هذا العالم ومعها بريطانيا، وعالم يرفض التعذيب ولكنه لا يملك سلطة التنفيذ ويمثله مجلس حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الدولية التي تجمع على تجريم التعذيب.

العالم الحقوقي يصر على أن التعذيب لا يوفر معلومات مفيدة، بل ربما كانت مضرة لأن الضحايا يسعون لتفادي التعذيب بتقديم معلومات غير دقيقة وقد تكون مضللة لأجهزة الأمن، وإساءة معاملة السجين تهدف لأمور ثلاثة: أولها الحصول على معلومات، وأن كانت مضللة، والثاني الانتقام خصوصا في البلدان التي يتصرف حكامها من منطلقات شخصية ترغب في الانتقام من المعارضين، والثالث: كسر إرادة السجين ليكون استحصال ما لديه من معلومات أمرا ميسرا.

 

النتيجة واحدة أن حقوق الإنسان تنتهك بشكل رسمي يحط من كرامة الإنسان وينتهك حقه في الحياة الكريمة وأمنه من القمع والتعسف والاضطهاد. ألم يحن الوقت حتى الآن لتجاوز ذلك ليعيش البشر آمنين على أرواحهم وكراماتهم وأرزاقهم؟ هل هذا هو العالم الذي استقبل القرن الحادي والعشرين بروح مفعمة بالأمل؟

 

 

صحيفة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/04/06

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد