آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. محمد صادق الحسيني
عن الكاتب :
كاتب وباحث إيراني

بعد نهاية التاريخ‎ ‎نهاية أميركا… هكذا تكلّم فوكوياما!‏

 

محمد صادق الحسيني
لم يكد بريق الذهب يخطف عيني كريستوفر كولومبس في معابد “الهنود” وبيوتهم وزينة نسائهم حتى باح في يومياته (1492) عن رغبته في أن ينكبّ الإسبان 3 سنوات كاملة ومن ثم ميليشيا المستوطنين الانجلو ساكسون من بعدهم برعاية ملكتهم إيزابيلا ومعها البابا في حينه… على حصاد ذهب العالم الجديد… ليكون ضمن العدّة والعتاد اللازم إنفاقها في سبيل تحرير اورشليم، كما يوثق لنا الكاتب والمؤرخ والمحقق السوري الكبير البروفيسور منير العكش في كتابه – تلمود العم سام – عن أميركا المكتشفة صدفة من قبل كريستوفر…!
هذه هي أميركا التي ينتفض ضدها اليوم مواطنوها الجدد وهم من كل الأعراق والألوان والانتماءات تقريباً (عدا البيض الانجلو ساكسون) وهم يصوّبون معاول هدمهم ضدّ تماثيل الرموز المؤسّسة!
فقد جاء في الأخبار في الساعات المنصرمة ما يلي:
قام متظاهرون في مدينة بالتيمور في ولاية ماريلاند الأميركية، برمي تمثال لكريستوفر كولومبوس من قاعدته، وبعد ذلك قاموا بدحرجته إلى الخليج ورموه في مياه المحيط الأطلسي.
حدث ذلك على خلفية إطلاق الألعاب النارية في المدينة، بمناسبة عيد الاستقلال. ويُعدّ هذا التمثال، أحد تماثيل كولومبوس الثلاثة في المدينة.
حدث هذا الأمر بشكل متكرّر في أكثر من مدينة أميركية مع هذا الرمز المقدس لدى الجيل المؤسس لأميركا لكنه الرمز الذي بات مثيراً للجدل إن لم يكن مثيراً للاشمئزاز أيضاً لدى فئة واسعة من الأميركيين، وهو تحوّل مهمّ في العقيدة الوطنية الأميركية..!
وفي واشنطن بالقرب من البيت الأبيض أحرق متظاهرون علم الولايات المتحدة بعد خطاب احتفالي للرئيس دونالد ترامب.
وأظهرت شبكة “إن بي سي” المتظاهرين قرب البيت الأبيض، وهم يحرقون العلم ويردّدون هتافات ضدّ “العبودية والإبادة الجماعية والحرب”…
وأميركا “لم تعد عظيمة على الإطلاق…”!
هذان الخبران ينبغي ان يجعلانا نتنبه لأمر هام ونوعي بدأ يتدحرج كالمدحلة في اللاوعي والوعي الأميركي لا بد من مراقبته بدقة خطوة خطوة…
وهو ما دفع علماء الاجتماع في أميركا والعالم يجمعون بان أميركا القوة العظمى بدأت مسيرة الأفول التاريخية لها رغم كل مظاهر قوتها الشكلية التي لا زالت تحتفظ بها…
نعم أميركا ليست على وشك السقوط قريباً وبسرعة البرق، لكنها لم تعد أميركا التي عرفناها سابقاً أو عرّفت هي عن نفسها، كيف…!؟
يقول الفيلسوف الأميركي الياباني الأصل فوكوياما وهو صاحب مقولة وكتاب نهاية التاريخ التي اشتهرت قبل نحو عقد ونيف من الزمان، وخلاصتها أن تجربة الديمقراطية البشرية تنتهي عند التجربة الأميركية.
باعتبارها نهاية الإنجاز والنبوغ البشريّ وبعدها لا يمكن للعالم أن يقدّم ما هو افضل…!
عاد فوكوياما هذا نفسه، بعد الحوادث الأخيرة في أميركا (التي أعقبت جورج فلويد) ليقول:
إن كل قوة في العالم تعتمد على ثلاثة إمكانات لاستمرار بقائها
الأول نظام الدولة وهو ما سقط بشكل كامل في بلادنا (أميركا) مقابل تحدي فيروس كورونا على عكس ما حصل في دول مثل اليابان وايران والصين التي صمدت دولها أمام هذا التحدّي وقدّمت نموذجا مشجعاً، والكلام لفوكوياما…..!
الإمكانية الثانية وهي الثقة الشعبية وهو ما ظهر أنه يكاد ينعدم وينتهي عند الشعب الأميركي كما حصل في مواجهة حادثة جورج فلويد…!
الإمكانية الثالثة وهي القيادة والهيمنة، فالولايات المتحدة الأميركية فقدت سيطرتها وهيمنتها وقيادتها للعالم على كل الأصعدة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً ومعنوياً…!
انتهى كلام فوكوياما…
من يتابع التحولات الأميركية الاّخيرة بكل المستويات سيلاحظ التالي:
1- أن الشعب الأميركي المنتفض لا يهاجم الشرطة ولا الجيش ولا مؤسسات الدولة إلا ما ندر جداً، لكنه يجمع على مهاجمة الرموز التي صنعت وخلقت وصورت لنا أميركا التي كنا نراها ونعيشها، وآخر المؤشرات على ذلك هو الخبر أعلاه…
أي تماثيل كولومبس والعلم الأميركي وقبل ذلك جورج واشنطن وووو…
أي العبودية والزيف والخداع والحرب والاستكبار والشيطان الذي في داخل “اسرائيل” الأولى أي أميركا…
2- لقد فشل النظام الأميركي من الناحية البنيوية خلال السبعين سنة الماضية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ان يقدم نموذجاً حضارياً اجتماعياً يمكن المراهنة عليه دفاعاً عن طبقات المجتمع المختلفة بعدما حطّم الطبقة الأميركية الوسطى تحطيماً كاملاً وتحوّل الى نظام أقلوي تحكمه الطبقة الأنجلوساكسونية البيضاء الثرية والمتسلطة على ما يزيد على نحو 70 في المئة من السكان المنتمين لأعراق ومجموعات اجتماعية لا تنتمي للعرق الانجلو ساكسوني الابيض، حتى باتت شبه معدمة بالمقارنة مع الثراء الفاحش المتكدس بيد الأقلية الأوليغارشية..
على عكس الصين الشعبية التي نجحت في إعلاء شأن او رفع مستوى نحو 800 مليون مواطن صيني من الفقر لتضعهم على مستوى الطبقة الوسطى..!

3- على مستوى الحضور الأميركي في الموازين الدولية فأميركا ولأول مرة لم تعد الاقتصاد الاول في العالم ولا حتى من الاقتصادات النموذجية التي يشار اليها بالبنان…
لقد بدأت تبيع خاماتها النفطية بطريقة تنافسية متهافتة لتعديل إيراداتها؛ وهو ما ظهر بشكل خاص في زيادة ما مقداره اكثر من 3 ملايين برميل يومياً في محاولة للحاق بالصين وسائر الدول المنافسة لها في الأسواق العالمية…
 
4- لقد فقدت أميركا نضارتها وحيويتها السياسية كنظام وقدرتها على العطاء او تقديم أي شيء جديد حتى في المثل الديمقراطية التي ظلت تتغنى بها لعقود طويلة…
ان نظرة فاحصة لما يجري مما يمكن تسميته بالطائفية الحزبية مثلاً بين الحزبين الحاكمين يمكننا القول إن النظام السياسي الحاكم لم يعد قادراً حتى ان يتخيل سباقات حزبية ومنافسات سلسة وقانونية معتبرة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشكل طبيعي ناهيك عن سماحه أو إتاحته الفرصة لبروز او تبلور تيار او حزب او مرشح ثالث…!
النظام الأميركي اذن بدأ يتآكل ويتصدع في بنيته الاساسية التي بنى عليها كل أوهامه وأطماعه..
نعم قد لا يسقط أمامنا سريعاً..
لكن رحلة أفوله بدأت بالفعل وباعتراف وإجماع كل علماء الاجتماع السياسي العالمي..
أميركا التي عرفناها وهي تتغذّى وترضع من حليب الحروب التي تخوضها بقواتها المقتحمة للأراضي والبحار لم تعد تقوى على الحروب، لقد ودعت الحرب بعد أن فقدت كل أنواع المناعات التي تؤهلها لخوض أي حرب جديدة…
النظام السياسي الأميركي الذي عرفناه حتى الآن بات في عين التحدي والعاصفة داخلياً وخارجياً…
ستنخره “الأرضة” التي نخرت عصا سليمان من الداخل…
هذا هو حال أميركا في هذه اللحظة التاريخيّة…
على مدى أربعة قرون ظلت “فكرة أميركا” تخطف روح كل الشرائع وتطوّعها لأهدافها الامبراطورية الثلاثة التي ورثتها لقاعدتها المتقدّمة “إسرائيل” ألا وهي:
1- اجتياح أرض الغير( الغزو).
2- استبدال سكان الأرض المحتلة بسكان جدد.
3- استبدال ثقافة وتاريخ تلك البلدان بثقافة المحتلين الغرباء وتاريخهم.
هذه الفكرة الأميركية وصلت الى محطتها الأخيرة على ما يبدو، اي الى طريق مسدود وبدأت تفقد بريقها في الداخل قبل الخارج كما يقول فوكوياما.
لذلك كان من الطبيعي أن تظهر بدايات انتفاضة شعبية ضد الرموز وفي مقدمتهم اولئك الذين طمعوا بذهب السكان الأصليين وذهب العالم..
أي كريستوفر كولومبس.
وهذا ما يتوقع ان يمتد قريباً إلى قاعدة أميركا المتقدّمة أي “اسرائيل” الثانية الصغيرة التي زرعوها على يابستنا ومياهنا الفلسطينية العربية…
لقد حان وقت سقوط السامري الذي عبدوه لمدة قرون.
انتهت صلاحيّة أميركا السامرية أو تكاد.
بعدنا طيبين قولوا الله.
جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/07/09

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد