آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حميد لشهب
عن الكاتب :
دكتور سيكو-بيداغوجي، مترجم وكاتب - النمساrn

ماكرون على خطى نابليون.. الدين كبش فداءٍ لسياسته!

 

حميد لشهب

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ماضٍ في تعنته وإصراره على استمرار النار المستعرة في علاقته مع مواطني فرنسا المسلمين، بل يغذيها باستمرار.

باسم "العلمانية" يضيّق ماكرون كل ما أمكن، بمناسبة وبغير مناسبة ،على المسلمين الفرنسيين

بدأت عملية اجتثاث المسيحية في فرنسا إبّان الثورة الفرنسية حتى اتفاق (كونكوردات) 1801. وما لم يُحسم فيه هو ما إذا كان هذا الاجتثاث جاء من الشعب الفرنسي نفسه، الذي كان مسيحياً كاثوليكياً حتى النخاع الشوكي أو فُرض على الشعب من طرف من كان في السلطة من الثوار.

عاملت الحكومات الفرنسية بعد الثورة رجال الدين الكاثوليك بعنف لا مثيل له، وجُرّدت الكنيسة من ممتلكاتها وأُغلقت مئات الكنائس وصودرت أموالها، حتى ليُخيّل للمرء أن "مفكري" الثورة ومنظريها مثل فولتير وهيلفيتيوس وديلباخ كانوا قد نجحوا في مهمتهم في القضاء على الإرث المسيحي الفرنسي.

نجحت الثورة الفرنسية في تجريد الكنيسة من خيراتها وغناها المادي وسلطانها السياسي، لكنها لم تستطع جثّ جذور المسيحية الفكرية والعقائدية والروحية والوجدانية. فقد ظلّ  الفرنسيون في غالبيتهم أوفياء لدينهم. ولكن الحروب الضارية ضد الكنيسة والتشريد العقائدي للمواطنين البسطاء ثقافةً وعلماً، كانت سبباً في تشبثّهم بدينهم، في زمن عمّت فيه الإضطرابات والفوضى والقتل من أجل كسرة خبز.

انقسم الفرنسيون إلى قسمين: شعبٌ ظلّ وفياً لدينه وتقاليده وحكومةٌ بدأت في تأسيس سياسة علمانية، على أساس القانون والتعليم، إيماناً منها بأن التعليم هو أساس تغيير العقليات والذهنيّات وأن القانون ضامن لهذا التغيير. لكن الأمور لم تستقر ولم تتطور كما كان "الثوار" يأملون"، ذلك أن الكنيسة الكاثوليكية لم تخضع تماماً، حتى وإن كانت شوكتها السياسية قد تكسرت.

فبتاريخ 15 حزيران/يونيو 1801 حصل الإتفاق بين نابليون والبابا بيوس السابع عشر، وتمّ إعلان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية كنيسة الأغلبية في فرنسا، وبذلك تكون قد استعادت وضعها المدني. لم يوقّع نابليون على هذا الإتفاق لأنه كان ورعاً ومتديّناً ومتشبثاً بمقاليم المسيحية، ولربما كان العكس صحيحاً. لكنه قام بذلك براغماتياً، لأنه فهم بأن الدين يساهم في استقرار النظام الإجتماعي، المُثقل بالأحداث العنيفة التي رافقت الثورة والمرحلة الإنتقالية التي تبعته.

انتبه نابليون إلى أن المقاربة الأمنية لضمان السلم الإجتماعي غير ناجعة، فلا يمكن تخصيص رجل أمن لكل مواطن قصد حراسته وضبطه وفرض مبادئ النظام الإجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي كان في طريق التأسيس، لكن ذلك كان ممكناً بتكليف قسّ يعظ جماعته ويحثها على الإنضباط بتعاليم المسيحية ونكران الذات والتخلي عن ملذات الحياة، لصالح حياة مستقبلية أفضل، يعد بها دينهم.

هكذا، عادت الكنيسة الكاثوليكية إلى دورها وحدث نوع من الصلح بينها وبين الدولة في عهد نابليون. وساعده ذلك على تهدئة المناطق التي كانت فيها اضطرابات، بسبب محاولات إقصاء الدين. وبهذه الطريقة، أضفى نابليون على شرعيته السياسية شرعية دينية روحية، قرّبته من دول كاثوليكية كانت معادية له كالنمسا وبلجيكا وإيطاليا وبافاريا وإسبانيا.

للتنبيه، ليست الكاثوليكية هي الهدف الأساس لنابليون، بل تسخير أي دين كان لاستثبات سلطانه وحكمه. وقال مرة في هذا المضمار: "لم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلا بعد أن تظاهرت بأنّي كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأنّي مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأنّي بابويّ متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنّه أُتيح لي أن أحكم شعباً من اليهود لأعدت من جديد معبد سليمان".

وعبّر عن قناعته هذه بقوله: "المجتمع بلا دين، كالسفينة بلا بوصلة". وليس في هذه العبارة أي "تقية" ولا إيمان، بقدر ما تعبّر عن العمق النفعي لنابليون اتجاه الدين، وقد انتهت قصته مع الكنيسة وبابا الروم بطلاق بائن.

لكن الثابت أن سياسته اتجاه الكنيسة ضمنت له قاعدة شعبية لم تستطع الثورة اقتلاع وفائها للمسيحية البتة، على الرغم من أنها أضعفت موقعه في القمة، أي ما نسمّيه حالياً النخبة السياسية والثقافية، وبالخصوص الثوريين منهم. ولاحقت نابليون سخرية معروفة من طرف هؤلاء، فيما معناه أنه آمن بالقرآن عندما كان ملكاً لمصر وآمن بالإنجيل عندما كان ملكاً لفرنسا.

لم يكن هذا النهج النفعي اتجاه الأديان كافياً لاحتوائها، بقدر ما كان سبباً في حذر الكاثوليك منه مثلاً، خاصة عندما أصبحت الدولة تدفع رواتب القساوسة سنوياً، أي محاولة التأثير فيهم وعليهم مالياً بالتحكم بمصدر رزقهم. وعندما احتدم الصراع بين نابليون والكنيسة الكاثوليكية، وبالخصوص بعدما سُجن البابا لسنوات، لم يدّخر كاثوليك فرنسا وقساوستها أي جهد للدفاع عنه.

يحاول "الإمبراطور" ماكرون تتبّع خطوات سياسة نابليون فيما يخص أديان فرنسا، مع استثناء كبير يتمثل في تقديم مسلمي فرنسا ككبش فداء لهذا الغرض. وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون يحاول إرضاء مسيحيي ويهود فرنسا بهجومه المجاني على المواطنين الفرنسيين المسلمين.

باسم "العلمانية" يضيّق كل ما أمكن، بمناسبة وبغير مناسبة ،على المسلمين الفرنسيين، مادّاً يديه من تحت طاولة العلمانية للمسيحيين واليهود، مستعطياً أصواتهم لكي يُعاد انتخابه. نظراً للعدد المتزايد للمسلمين بفرنسا، تخشى الكنيسة الفرنسية من تجاوز عدد المسلمين لعدد المسيحيين في فرنسا، وضياع هيمنتها الروحية في بلاد "اللائكية".

وتتقاسم الكثير من الأحزاب الفرنسية هذا التخوف، وخاصة اليمينية واليمينية المتطرفة، إلى درجة أن "الإسلاموفوبيا" أصبحت أداة سياسية قائمة بذاتها، عندما لا تجد السياسة في فرنسا ما تُرهب به شعبها، تُخرج "جِنِيَّ" الإسلام، مغذية الشعب الفرنسي بكل الأحكام المسبقة السلبية عن الإسلام معتقداً وحضارة. فاستحضار هذه الأحكام المسبقة قاد مباشرة إلى عنصرية واضحة ومستترة تجاه المسلمين الفرنسيين.

ماكرون ماضٍ في تعنته وإصراره على استمرار النار المستعرة في علاقته مع مواطني فرنسا المسلمين، بل يغذيها باستمرار، ويُشاع حالياً بأن صورة الكاريكاتورات المسيئة لنبي الإسلام ستُوزّع على نطاق واسع في المدارس الفرنسية.

أكثر من هذا، لا يعير ماكرون أي اهتمام لحملات مقاطعة المنتجات الفرنسية في كثير من الدول العربية، متوهماً بأنها دعوات لن تتجاوز مستوى معيّن. والدعوة للمقاطعة هو أقل ما يمكن لأي مسلم القيام به، لأن مفعولها على المستوى المتوسط والطويل الأمد سيكون خطيراً على الإقتصاد الفرنسي، خاصة في اللحظة الراهنة.

اختار ماكرون خندقه، وهو عازم على الإستمرار فيه، وعلى الشعوب المسلمة، وبالخصوص العربية منها، أن تقاوم سلمياً وحضارياً بكل الوسائل المتاحة لها، لإفهام فرنسا والغرب، بأن المسلمين ليسوا إرهابيين، بل هم من يعاني من هذا الإرهاب، الذي رعته وترعاه الدول الغربية نفسها. فلا يمكن لهذه الدول تربية الإرهاب وتغذيته، والاندهاش عندما يطرق أبوابها.

الميادين نت

أضيف بتاريخ :2020/10/27

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد