آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الباري عطوان
عن الكاتب :
كاتب وصحفي سياسي فلسطيني رئيس تحرير صحيفة رأي اليوم

قراءة معمقة لحديث الشيخ حمد بن جاسم “المتفجر” لصحيفة “الفايننشال تايمز″

 

عبد الباري عطوان ..

في آذار (مارس) عام 2002 دُعيت للمشاركة في منتدى الدوحة للديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة الذي أُريد له في حينه أن يكون نسخة عربية، أو “شرق أوسطية”، من مؤتمر “دافوس″ السويسري، وهو طموح مشروع لم يتحقق، وكان من ضمن الندوات، على ما أذكر، واحدة متعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، وكان من أبرز المتحدثين فيها الشيخ حمد جاسم بن جبر آل ثاني، وزير الخارجية في حينها إلى جانب متحدثين آخرين من الولايات المتحدة وأوروبا.

 

عندما انتهت مداخلات المتحدثين وكانوا خمسة، جرى إفساح المجال للحضور لطرح الأسئلة، وكنت من بين الذين لوحوا بيدهم، وعندما جاء دوري قلت وبإيجاز شديد، أن لي عدة اعتراضات على تركيبة الندوة والمشاركين فيها ومداخلاتهم، أبرزها أنها تحدثت عن البرنامج النووي الإيراني، ولم يكن هناك أي إيراني واحد ضمن المتحدثين ليقدم لنا وجهة نظر أخرى، ثم أن المتحدثين ذكروا البرنامج النووي الإيراني وأخطاره 26 مرة، ولم يذكروا البرنامج النووي الإسرائيلي مرة واحدة.

 

هنا أخذ الشيح حمد بن جاسم (وزارته كانت المنظمة للمؤتمر) الميكروفون وقال “لم اتفق مع عبد الباري عطوان في الماضي، ولا في الحاضر، ولن اتفق معه في المستقبل، ولكن ملاحظته (والكلام له) هذه كانت في محلها، فالبرنامج النووي الإسرائيلي يشكل خطرا على المنطقة، وكان يجب أن يكون هناك خبير إيراني على المنصة.

 

استغرب زملائي في القاعة، ومن بينهم الصديق الدكتور محمد المسفر، الكاتب والأكاديمي الجامعي المعروف، تلك النبرة العدائية من الشيح بن جاسم تجاهي، وقال أحدهم نعرف أنه لا يتفق معك في الماضي والحاضر، ولكن لماذا يجزم بأن هذا ينطبق على المستقبل أيضا، فلا أحد يستطيع أن يتنبأ بالغيب، واعترف أنه (أي الشيخ بن جاسم) لم يكّن لي أيا من الود، ولم يوجه لي أي دعوة لحضور أي مؤتمر تحت إشراف وزارته، وآخرها حول القدس المحتلة قبل رحيله من الوزارة بأشهر رغم أن عدد المدعوين زاد عن 700 مدعو، ولا يضيرني ذلك على الإطلاق، ومثلما يقول المثل العربي “بركة يا جامع″!

***

أقول هذا الكلام بمناسبة الحديث المطول الذي أدلى به الشيخ بن جاسم إلى صحيفة “الفايننشال تايمز″ ونشرته يوم أمس الأول، ربما للمرة الأولى، بعد أن خرج من السلطة في قطر، وكان جريئا، ويتناول في بعض فقراته العديد من الحقائق التاريخية والسياسية التي لا يستطيع أي كاتب أو محلل تجاهلها، أو المرور عليها مرور الكرام، ويمكن إيجاز أهمها في النقاط التالية:

 

الأولى: إضاءته على بدايات الأزمة السورية عندما قال “عندما بدأنا التحرك في سورية عام 2012 كان لدينا ضوء أخضر بأن دولة قطر هي التي ستقود، لأن المملكة العربية السعودية لم ترد في ذلك الوقت الجلوس أمام مقعد القيادة، ثم حصل تغيير في السياسة، ولم تخبرنا الرياض أنها تريدنا (قطر) في المقعد الخلفي.. وانتهى الأمر بان نتنافس مع بعضنا البعض، وهذا لم يكن صحيا”.

 

الثانية: اعترف الشيخ حمد بن جاسم أن دولة قطر دعمت فصيلا في ليبيا (فجر ليبيا وحركة الإخوان) بينما دعمت الإمارات فصيلا آخر (كتائب الزنتان)، وكان الفصيلين متناحرين، وفي النهاية كان هناك الكثير من الطباخين ولذلك أفسدت الطبخة.

 

الثالثة: أكد أن الإيرانيين أذكى من العرب كثيرا وأطول صبرا منهم قائلا “انظر كم سنة تفاضوا مع القوى العالمية.. هل تعتقدون أن دولة عربية يمكنها أن تفاوض كل هذه المدة”.

 

رابعا: انحاز إلى جانب الرئيس باراك أوباما وبرأه من أي لوم فيما يتعلق بإحباطه من العرب الذي عبر عنه في لقائه المطول مع مجلة “اتلانتيك” وقال “أنا أيضا محبط، ولا ألومه، فنحن العرب لم نظُهر أننا حليف يمكن الاعتماد عليه”، وتزامن نشر الحديث مع زيارة أوباما للرياض وتفاقم خلافه معها.

 

خامسا: وصف العلاقات الخليجية مع أمريكا بأنها لم تكن متوازنة، فعلى مدى 30 عاما ظلت منطقة الخليج تتحكم في أسعار النفط من أجل مصالح أمريكا والغرب، ترفع الأسعار وتخفضها حسب هذه المصالح، فماذا جنت الدول الخليجية في المقابل؟

 

هذه الاعترافات الخمسة من رجل كان يصول ويجول في المنطقة ممثلا لدولته وأميره، ويدعم هذا الطرف، ويعادي ذاك، ويفجر حربا هنا، ويزعزع استقرار دولة هناك، ويمتلك صواريخ عابرة للقارات ممثلة في قناة “الجزيرة”  التي هيمنت على العقل العربي لأكثر من عشرين عاما تقريبا، وفجرت ثورات، ويسيطر بالكامل على الجامعة العربية، ويجمد عضوية النظام السوري فيها، ويأتي بشخص مغمور، وغير معروف (معاذ الخطيب) ليجلس على مقعدها، ويلقي كلمتها في قمة الدوحة العربية، هذه الاعترافات للشيخ بن جاسم يجب أن تكون أرضية لأبحاث ودراسات العديد من المؤرخين والدارسين، بل لتشكيل لجنة تحقيق عربية أو دولية لمعرفة كل الظروف والملابسات، فهناك دول تعرضت للتدمير وما زالت، ومئات الآلاف قتلوا.

 

كنا نتمنى من الزميلة رولا خلف، نائبة رئيس التحرير في الصحيفة (الفايننشال تايمز) أن تستوضح من الشيخ بن جاسم، وهي التي تعرفه مثلما تعرف منطقة الشرق أوسطية جيدا، عن بداية الدور القطري في الأزمة السورية وأسبابه، وهوية هذا الدول، و”الجهة” التي أعطت دولة قطر “الضوء الأخضر” للتدخل في هذا البلد، بالمال السلاح، وتأسيس “المجلس الوطني” كجسم معارض واختيار الدكتور برهان غليون رئيسا له، وضم خليط من الليبراليين والإخوان المسلمين له في صفوفه، والوقوف خلف معظم الانشقاقات من قبل وزراء وسفراء النظام.

 

النقطة الأخرى التي تحتاج إلى إيضاح هي كيفية أزاحة المملكة العربية السعودية لقطر من أمام مقعد القيادة في الملف السوري، وكيف، وبتوجيهات من منّ؟ ولمصلحة منّ؟ ولماذا ظلت قناة “الجزيرة” على الحياد تجاه “الثورة” السورية لأكثر من ثلاثة أسابيع، على عكس موقفها منن “الثورات” التونسية والمصرية والليبية، ثم دخلت بكل قوتها وأسلحتها، وجيشت الجيوش الإعلامية ضد النظام، ودعما للثائرين ضده؟ وهل يعود ذلك التردد الأولي إلى العلاقات الإستراتيجية والشخصية بين الرئيس السوري بشار الأسد، وأمير دولة قطر في حينها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني؟ وما الذي أدى إلى نسف هذه العلاقة؟

 

نقطة أخرى كانت بحاجة إلى توضيح وهي تتعلق بالاستثمارات القطرية في سورية وتزيد عن 15 مليار دولار، وقصور الأسرة الحاكمة القطرية فيها، وكذلك العرض المالي الذي حمله الشيخ بن جاسم إلى الرئيس السوري وقيل أنه كان في حدود 15 مليار دولار مقابل تخلي سورية عن حليفها الإيراني، واللقاء الأخير الذي سبق القطيعة وجرى بين الشيخ تميم بن حمد (كان ولي العهد في حينها) والرئيس الأسد، وما جرى فيه من حوار تردد انه كان صداميا؟ ولماذا لا يتحدث السوريون بالشفافية نفسها بعيدا عن “البروباغندا” لمعرفة جانبي الصورة.

 

ولعل الانقلاب القطري على العقيد معمر القذافي ونظامه، الذي لعب فيه الشيخ حمد بن جاسم دورا رئيسيا، هو الذي يحتاج إلى الإيضاح أيضا، فالعقيد القذافي كان صديقا شخصيا لأمير قطر السابق، وكان ضيفا مقررا على مشاهدي قناة “الجزيرة” كل ليلة رأس سنة لمدة ساعتين، وتعددت لقاءاته مع نجماتها ونجومها، ابتداء من طيب الذكر، سامي حداد، ومرورا بخديجة بن قنة، وانتهاء بليلى الشيخلي، فماذا حدث، وما هي أسباب هذا الانقلاب، وكيف جرت عملية “طبخ” التدخل العسكري القطري في الدور العاشر لفندق شيراتون في الدوحة، وتوفير الجامعة العربية بضغط من دولتي قطر والإمارات الغطاء العربي لهذا التدخل لحلف الناتو؟ ثم كيف فسدت هذه الطبخة، وحوّل هذا التدخل ليبيا إلى دولة فاشلة جعلت الليبيين، أو معظمهم، يترحمون على أيام القذافي؟

 

نقطة أخيرة وردت في حديث الشيخ بن جاسم تتعلق بتلاعب دول الخليج بأسعار النفط داخل منظمة “أوبك” واجتماعاتها لمصلحة الغرب، الأمر الذي يؤكد غياب أي دور سيادي للعرب على ثرواتهم الطبيعية، ويفند كل الآراء التي تقول أن قوى السوق، أو النفط الصخري، وليس القرارات السياسية، هي التي تلعب دورا كبيرا في هذا المضمار، ولعل أزمة انهيار الأسعار الحالية للنفط بمقدار الثلثين، وخسارة دول الخليج حوالي 375 مليار دولار سنويا من عوائدها كفيلة بتحويل العامل العربي إلى سويسرا أخرى، أحد أبرز النتائج الكارثية في هذا المضمار.

 

ولا يضيرنا أن نتفق مع الشيخ بن جاسم بأن الإيرانيين أذكى من العرب كثيرا، وبمعنى آخر أن العرب ربما الأغبى بين شعوب الأرض، فهاهم يقدمون الخدمات مجانا لأمريكا ومشاريعها في المنطقة، ويدعمون اقتصادها، ويوفرون الوظائف لعاطيلها، وفي نهاية المطاف تطعنهم في الظهر، وتذهب إلى خصمهم الإيراني رافعة الرايات البيضاء، الذي كان مفاوضا بارعا صبورا “مرمغ” أنوف مفاوضيه الغربيين في التراب حتى حصل على أفضل صفقة ممكنة حفظت له كرامته، ورفعت الحصار عنه، وأعادت له أمواله، واحتفظ ببناه التحتية النووية كاملة، وبات قوة إقليمية عظمى تفرض أجنداتها على دول المنطقة والعالم.

***

هناك محطات كثيرة أخرى يمكن التوقف عندها، ولكن المجال لا يسمح، ويظل السؤال الأهم هو كيفية الوصول إلى الحقائق حول الأدوار والدوافع، والغرف المغلقة، التي كانت تدير “ثورات الربيع العربي” ولمصلحة من، والنتائج التي ترتبت عليها في تحويل دول عربية مستقرة إلى دول فاشلة، وتراجع قضية العرب الأولى فلسطين إلى أدنى الاهتمامات العربية والدولية، وتجريم ظاهرة المقاومة كظاهرة “إرهابية”، وإذكاء نيران الفتنة الطائفية.

 

سؤال أخير يظل قائما ولا بد من طرحه، وهو أننا نشتم من المقابلة أن هناك خلافا سعوديا قطريا توارى جمره تحت الرماد مؤخرا، وربما هناك من ينفخ فيه، حتى يشتعل مجددا، ولعل الهجوم الكبير الذي شنه الشيخ يوسف القرضاوي على الرئيس عبد الفتاح السيسي، واتهامه “ببيع″ جزيرتي “صنافير” و”تيران” للسعودية، ومطالبته للشعب المصري بالثورة ضد هذه الصفقة بعد صمت طويل، مؤشر يؤكد هذا الخلاف، أو إحدى بداياته.

 

وهل خروج الشيخ بن جاسم عن صمته أيضا، وفي مثل هذا التوقيت، هو تمهيد لإخراج الخلاف مع السعودية إلى السطح؟

 

المنطقة تغلي وتزحف نحو تطوير خطير جدا، لا نعرف ملامحه، ولا بد من أن هناك دورا جديدا لقطر، وربما الشيخ حمد بن جاسم فيه، لا نملك غير المراقبة والانتظار.

 

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2016/04/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد