آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
طراد بن سعيد العمري
عن الكاتب :
باحث وكاتب في العلاقات الدولية؛ الشئون الإستراتيجية؛ الدراسات العسكرية؛ المجتمع الخليجي؛ وشئون العمل والبطالة

عيوب على هامش الرؤية

 

 طراد بن سعيد العمري ..

نهدي هذه العيوب أو الملاحظات إلى ولاة الأمر بناء على دعوة مولاي الملك سلمان الكريمة للكتاب، وسنستجيب لطلب “أمير الرؤية” بتقديم النقد على الثناء. ونقول أن من أهم، وأخطر، وأول، عيوب الـرؤيـة، هو ارتفاع سقف التوقعات لدى المواطن الذي يظن خطئاً أو وهماً أن دخله سيزداد بمجرد انطلاق الرؤية.، كما أن من عيوبها، ثانياً، أنها موجهة بشكل مباشر للحكومة فقط وإصلاح معطياتها ووسائلها، وثالث عيوبها، هو عدم وجود عناصر مكملة ومعززة للرؤية في الجوانب السياسية والثقافية نتيجة التحولات الإجتماعية في الداخل والعلاقة بين المجتمع والدولة. ثلاثة عيوب إستراتيجية، بصرف النظر عن بعض التفاصيل في الجانب الإقتصادي للرؤية. هذه العيوب أو الملاحظات قد تؤدي في حال عدم تداركها إلى عدم تحقيق كل أهداف الرؤية، في أحسن الأحوال. كما قد تؤدي، لا قدر الله، إلى فشلها في أسوأ الأحوال.

 

أولاً، “أمير الرؤية” كان واضحاً وشفافاً عندما صرح بالحاجة للنقد قبل الثناء لأنه يعلم سيكيولوجية الصحافة والإعلام في السعودية، كما أن مطالبة سموه بالنقد أكثر من الثناء، دليل ثقة، ودليل تواضع، لأن الكمال لله وحده؛ فريق الإعداد في الرؤية أخطأ في أمرين: (أ) عدم إشراك المؤسسات الإعلامية والصحفية في تفاصيل وأهداف وزوايا الرؤية الغير مرئيّة، بحيث يكون الإعلام شريكاً حقيقياً يعمل على تصحيح أي توقعات خاطئة من المجتمع ويخفض سقفها؛ (ب) تسليط فريق إدارة الرؤية الضوء على جوانب أخّاذة تبرز الجوانب المتعاظمة مما أوحى بصورة وردية زاهية مشرقة شعر المواطن الفرد من خلالها وكأنها ستنبت نقوداً في جيبه من اليوم الأول.

 

ثانياً، رفع سقف توقعات المجتمع أو العامة هو من الأمور الخطيرة، إذ لا يقابلها إلا خيبات الأمل، ولا أسوأ على الدول من تعاظم خيبات الأمل. المثير، أن “ماكينزي” ذاتها، تدرك وتعرف ذلك تمام الإدراك والمعرفة، فقد قامت بتنفيذ رؤى إقتصادية مماثلة في: ليبيا، ومصر، واليمن، والبحرين، كلها بائت بالفشل. لكن الأخطر، أن “ماكينزي” بالتعاون مع حكومات تلك الدول، رسمت الصورة الوردية، ورفعت سقف التوقعات، ومن ثم انتكست، فكانت جزء من أسباب الشكاوى الشعبية الإقتصادية في تسونامي “الربيع العربي”. الآن ومع تدهور وتذبذب أسعار النفط، انتقلت “ماكينزي” إلى الخليج وصممت رؤى للكويت، وأبوظبي، والسعودية، كلها تحمل رقم العام 2030, حتى مصر تحمل رؤيتها الجديدة نفس الرقم والعام. ويمكن لنا تشبيه الرؤى التحولية بالدواء الذي يصفه الطبيب، إذ تحتوي “روشتة” الدواء على فصل خاص بالآثار الجانبية أو السلبية لتناول الدواء. هنا يأتي دور الإعلام “الشريك”، ليس في استكمال التسويق، بل في تسليط الضوء على الآثار الجانبية للرؤية، وخفض توقعات الرأي العام لكي تتناغم الرؤية مع المجتمع، وتحقق نتائجها.

 

ثالثاً، صحيح أن الـرؤيـة 2030 هي مبادرة شجاعة، لكنها موجهة للحكومة في الأساس، لكي تخرج الحكومة من الأساليب التقليدية ومن عنق الزجاجة في المداخيل المالية، وإعادة هيكلة الإدارات الحكومية، وتطوير مفهوم الحوكمة، لتتمكن من خدمة المجتمع بأساليب حديثة، وأداء أفضل. ولمزيد من التوضيح، الحكومة هي شكل من أشكال إدارة الدولة للمجتمع، وواحدة فقط من عدة سلطات بيد الدولة، فالمواطن ينتفع أكثر عندما يكون أداء الحكومة أفضل. لكن الرؤية لم تقدم وعوداً للمواطن بدخل أكثر، بل بخدمات أفضل. حسناً، الخدمات الأفضل تتطلب بالضرورة دفع أموال أكثر. الرؤية رفعت الدعم الحكومي، وفرضت ضريبة القيمة المُضافة، التي سترفع حتماً قيمة السلع الإستهلاكية. مما يعني ارتفاع أسعار المياه والكهرباء والمحروقات والسلع، إضافة إلى ارتفاع أسعار الخدمات المتوقع مع الخصخصة. هذه هي الآثار الجانبية لرؤية 2030 التي لم تشرحها “ماكينزي” في شرائحها التسويقية، ولم تطلب من الإعلام شرحها لخفض سقف التوقعات لدى المواطن.

 

رابعاً، الـرؤيـة 2030 تطلبت إعادة هيكلة مرافق الحكومة فأصدر الملك عشرات الأوامر الملكية ليتناغم عمل الحكومة مع متطلبات الرؤية. وقد يعقب تلك الأوامر قرارات أخرى لتنظيم الحكومة وزيادة فعاليتها، لكن التركيز على الحكومة، من دون إعادة هيكلة الدولة، قد يزيد من أعباء الحكومة بحيث تصبح العمود الفقري الوحيد وهذا يؤدي إلى “الإجهاد السياسي”، من ناحية، كما يؤدي إلى عدد من الآثار الجانبية التي قد تؤثر على مكامن القوة الغير مستغلة في الدولة، من ناحية أخرى. ولمزيد من الإيضاح، يوجد خلط لدى العامة بين الدولة والحكومة وماهية كل منهما. وللتبسيط، فالحكومة جزء من الدولة وليس العكس. في السعودية يترأس الملك الدولة، ويترأس الحكومة أيضاً، وهذا واحد من الأسباب في عدم التفريق بين الدولة والحكومة. قد يرى البعض أن فصل الحكومة عن الدولة، أو مؤسسة المُلك، أمر إيجابياً من الناحية الإدارية، لكن ذلك يكون صحيحاً، ويؤتي أكله، ويكون فعّالاً، في حالة واحدة فقط، وهو استقلال وفصل كافة السلطات الأخرى وتمكينها من أداء دورها للتخفيف عن كاهل الحكومة، ومساعدة مؤسسة المُلك (رأس الدولة) في إدارة شئون البلاد والعباد بشكل متوازن.

 

خامساً، ليس المطلوب أن تتم هذه التغييرات أو إعادة هيكلة الدولة دفعة واحدة، لكن المأمول أن يكون هناك خطة وخارطة طريق تنتهي مع انتهاء رؤية 2030 تبدأ بالحكومة، ثم العمل ببرنامج واضح على تمكين السلطات الأخرى في السلطة التشريعية والقضائية، ومؤسسات المجتمع المدني، وصياغة دستور يكون بمثابة عقد إجتماعي جديد، يعيد للدولة، وليس الحكومة، شبابها ويقودها إلى المستقبل، ويعوّض الدولة عن السلطات التقليدية التي تلاشت أو أخذة في التلاشي لعدة أسباب، سنأتي على ذكرها لاحقاً، وكانت تلك السلطات عنصراً حاكما وأساسيا من سلطات الدولة على مر العقود الماضية. الإبقاء على الحكومة (السلطة التنفيذية) وحدها في الإدارة والتخطيط والتنفيذ والمراقبة والمحاسبة وتولي كافة شئون المجتمع سيرهق الحكومة والمجتمع المتجدد والمتعدد الأهواء والإحتياجات، في آن واحد. مع التذكير بحقيقة عالمية، وهو أن “الإستياء من الحكومة” (Resentment of Government) بات إتجاه عالمي في كل الأمم والدول، لما تحت يد الحكومات من صلاحيات في الأمر والنهي، والقبض والبسط، وحبس وإطلاق الحريات، وكل ما يمس حياة الفرد اليومية وعيشه ورزقه في المجتمع. ولذا، أمسى من صالح الحكومات أن تجد لها في السلطات الأخرى ملاذ ومعاونين يخففون عنها التركيز في الملامة.

 

سادساً، عدد من التغيرات حصلت للمجتمع السعودي تتطلب إعادة هيكلة للدولة لتقوية وصيانة مفهوم العلاقة بين الدولة والمجتمع. فنقل السلطة في رأس الهرم السياسي باتجاه الجيل الثاني (أحفاد المؤسس) خطوة جديدة في تاريخ السعودية وقد تحتاج إلى بعض الوقت لكي تتسق مع الطابع السعودي الجديد في العلاقة بين الدولة والمجتمع؛ كان مجلس ولاة الأمر، على سبيل المثال، يشكل برلمان شعبيا بسيطاً يتم فيه تداول بعض من أهم الأحداث ورؤية الحاكم أو الأمير تجاهها، والاستماع إلى ما ينغص حياة الأفراد والمجتمع كلياً أو جزئيا. كانت هذه العادة السعودية المتميزة، تسمح لرؤوس المجتمع وأصحاب الفكر والرأي من طرح قضاياهم وآراءهم على الحاكم مباشرة؛ كما ساعدت لقاءات ولاة الأمر المباشرة مع الشعب وزياراتهم المنتظمة لمعظم مناطق المملكة، على حل كثير من القضايا التي تتعقد أحياناً في كنف البيروقراطية الحكومية وأولوياتها. كما كانت رقيباً مباشراً على أحوال الناس، ومدى تمتعهم بالمشاريع التنموية.

 

سابعاً، كانت الهبات، والعلاج في الداخل والخارج، وقضاء الديون، وفك عسر المعسرين، وإطلاق سراح المسجونين، والإبتعاث، والحصول على الوظائف، ودخول الجامعة، بمثابة تثبيت لمفهوم حكم تقليدي لا يشعر من خلاله المواطن بظلم أو نقصان خدمات أو عدم وصول رأيه أو شكواه لولي الأمر. من ناحية أخرى، لم يعد يغلب على المجتمع الطابع القبلي وبات أقرب إلى التمدن والعصرنة. كما لم يعد المجتمع يغلب عليه الطابع الديني الذي يعتبر ولي الأمر شيء مقدس، ويدعو للحاكم بظاهر الغيب، بل ظهر جيل الشباب صاحب الشكوى الدائمة وأمسى هو الأعم الأغلب. ولم يعد تلقّي المعرفة يقتصر على صفوة الصفوة في المجتمع، الذي كان يستمع إلى الراديو عبر موجات الأثير القصيرة المدى، بل أضحى مجتمع منفتح ومتمدن ومتمدد في أطراف الجسم، كما يصف ذلك أحد علماء الإجتماع، فطال سمع وبصر المجتمع كما طالت يداه وقدماه. فمع تطور المجتمع على إثر التعليم والانفتاح وتطور التقنية، طال سمع الفرد، فيسمع ما يدور في إستراليا، وطال بصره، فيشاهد ما يحدث في أمريكا في التو واللحظة. كما طالت يداه عبر “الريموت كنترول” ليتنقل بين مشاهد العالم حيث يشاء، وطالت قدماه بحيث يصل إلى دبي أو باريس خلال ساعات. هذه المتغيرات المعرفية أحدثت عناصر جديدة في أذهان أفراد المجتمع تحتاج إلى توضيب في حزم مجتمعية لخلق علاقة متناغمة مع الدولة.

 

ثامناً، شكلت ثلاث منظومات من السلطة مفهوم العلاقة بين المجتمع والدولة: (١) منظومة القبيلة، التي كانت ذات سلطة وتأثير وازن في المرحلتين: التوحيد والتأسيس للدولة السعودية، كما في كثير من الدول، ولذا خدمت سلطة القبيلة الدولة في وقت لم يكن تأثير الحكومة فعّالاً أو نشطاً أو منتشراً. لكن ومع بداية حقبتي التطوير والتحديث بدأ نجم القبيلة في الأفول استسلاماً لسلطة الحكومة وتقوية لمفهوم الدولة المدنية الحديثة؛ (٢) المنظومة الدينية، التي استمرت ذات سلطة وقوة تحكم تصرفات المجتمع وتشكل منطقة عازلة بين المستجدات وبين المجتمع مع وتشجيع مستتر أو معلن من الحكومة. لكن ومع بداية الألفية بدأت قوة المنظومة الدينية في الانحسار التدريجي لأسباب داخلية وخارجية؛ (٣) منظومة المال، التي كانت ذات أثر فعّال في إدارة العلاقة في الداخل والخارج، وتأتى ذلك في صور مختلفة ومتعددة من المال المباشر في العطايا، والهبات، والمنح، والقروض الميسرة، والدعم المباشر، وغير المباشر، والتوظيف والعمل، ومع تضخم الإنفاق في الداخل والخارج، وتناقص الدخل مؤخراً، بدأت سلطة منظومة المال في التلاشي. هنا قد يجادل المرء أن العلاقة بين المجتمع والدولة ستتأثر بسبب ضعف وتلاشي قوة وتأثير السلطات الثلاث التقليدية.

 

تاسعاً، التغيرات في سقف هرم الدولة، والتغيرات في أرضية المجتمع، تحتاج إلى وسائط جديدة: (١) دستور يعيد ترتيب العلاقة بين المفهوم القديم والجديد في العلاقة بين الدولة والمجتمع، يستمد مواده من “الكتاب والسنة”، التي تعلو على الدستور ولا يعلو عليها، ويمكن تعديله بين الحين والآخر كلما تطلب الأمر ذلك، وقد يكون تطويراً وتوسيعاً للنظام الأساسي للحكم وهيئة البيعة؛ (٢) فصل السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وربطها جميعاً بمؤسسة المُلك التي تعلو كل السلطات؛ (٣) تطوير مفهوم مجلس الشورى لكي يختار المجتمع ممثليه تعويضاً عن مفهوم القبيلة المتلاشي، أو إنشاء برلمان رديف للشورى، ولا بأس في إنشاء وتكوين أحزاب تجتمع على الفكرة والوطن، بدلاً من رابط الفرد والعائلة والقرابة؛ (٤) بعث وتجديد وتمكين مؤسسات المجتمع المدني، ما كان سائداً منها وما أندثر مثل: الاتحادات، والنقابات، وعُمد الأحيـاء، وحكومات الإدارة المحلية، والبلدية، في المناطق.

 

أخيراً، رؤيـة 2030 تعني بتطوير وإعادة هيكلة الحكومة وتنويع مصادر الدخل، وتحسين الأداء، وهذا أمر جيد. لكن “الأتمتة” Automization، لا تكفي وحدها لإدارة المجتمع، فضلاً عن تطوير وتقوية العلاقة بين الدولة والمجتمع. الرؤية ستزيد من بعض الأعباء على كاهل المواطن وهذا يحتاج إلى وضوح إعلامي لا يخالطه سوء الفهم، كما تحتاج الحكومة إلى بعث كل قوى المجتمع والطاقات الكامنة لمعاونتها في مهمتها الكبرى. لنتخيل التالي: (١) تطوير وتقوية وتمكين الحكومة (2016-2020)؛ (٢) صياغة دستور وفصل للسلطات وإجراء انتخابات (2020-2025)؛ (٣) بعث وتجديد مؤسسات المجتمع المدني والإدارات المحلية والبلدية (2025-2030). ختاماً، ما سبق مزيج من العيوب والملاحظات والطموحات تمت صياغتها بحب وصدق لولاة الأمر، فإن وافقت خير وصلاح للوطن، فبها والحمد لله، وإن لم توافق، فولاة الأمر أكثر حرصاً وأبعد رؤية. حفظ الله الوطن.

 

صحيفة أنحاء

أضيف بتاريخ :2016/05/15

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد